مسار السلام الكردي التركي

مسار السلام الكردي التركي .الكاتب: خورشيد دلي

 undefined

خطوات على الطريق
عقبات داخلية وخارجية
ضمانة أردوغان وأوجلان

شكل وصول طلائع عناصر قوات حزب العمال الكردستاني من المناطق الكردية في تركيا للتمركز في إقليم كردستان العراق، الخطوة العملية الأولى على طريق تحقيق السلام الكردي التركي في مسيرة صعبة أمامها مطبات وعراقيل كثيرة.

فالقضية المطروحة تعود بجذورها إلى أكثر من قرنين من الزمن وإلى أيديولوجية سياسية رسمية قامت على الإنكار والإقصاء والتجاهل، وهي سياسة قوبلت في المقلب الآخر بمزيد من الشقاق القومي والتمسك بالهوية القومية وتحقيقها سلما وعنفا.

وعليه فإن مسيرة السلام الكردي التركي تبدو في مساراتها المتعددة مسارات للديمقراطية والانتقال إلى دولة متعددة القوميات على شكل دفن للأيديولوجية الأتاتوركية التي قامت على العداء للتعدد القومي لصالح القومية التركية، فضلا عن العداء للإسلام كهوية حضارية للبلاد. 

خطوات على  الطريق
منذ إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان عن إطلاق عملية السلام الكردي التركي في مارس/آذار الماضي، يحرص كل من الحزب والحكومة التركية على الوصول بهذه العملية إلى مبتغاها، وعليه، فور الإعلان المذكور تم وقف العمليات العسكرية من الجانبين، ومن ثم اتخذ الجانبان سلسلة خطوات عملية.

الحزب الكردستاني سحب عناصره العسكرية من الداخل للتمركز في إقليم كردستان، في حين شكلت الحكومة التركية لجنة برلمانية مهمتها متابعة الخطوات الجارية وهيئة حكماء تقدّم المشورة اللازمة

فالحزب سحب عناصره العسكرية من الداخل للتمركز في إقليم كردستان، في حين شكلت الحكومة التركية لجنة برلمانية مهمتها متابعة الخطوات الجارية كما شكلت هيئة الحكماء تقدّم المشورة اللازمة لتذليل العقبات المحتملة، وبموازاة هذه الجهود يحرص الطرفان على تهيئة الرأي العام التركي والكردي للسلام عبر خطوات تطبيعية ومحاولة إعادة الأمور إلى سابق عهدها، من خلال إعادة المهجرين إلى القرى والبلدات التي نزحوا منها بسبب الحرب، وبعث الحياة فيها مجددا عبر إعادة الخدمات إليها وفتح المدارس والإلغاء التدريجي للمظاهر الأمنية والعسكرية.

فقد أعلن أردوغان خلال اجتماعه الأخير مع هيئة الحكماء عن وقف تجنيد المليشيات العسكرية المعروفة بـ"حماة القرى" التي أنشئت لمحاربة حزب العمال الكردستاني، في حين تتابع اللجنة البرلمانية خطوات الحل والقيام بزيارات إلى كل من جنوب أفريقيا وبريطانيا للاطلاع على تجربة البلدين في الحل السياسي السلمي ولاسيما تجربة بريطانيا في حل القضية الأيرلندية.

وفي انتظار استكمال حزب العمال الكردستاني سحب مقاتليه والمقدر عددهم بنحو ألفي مقاتل والمتوقع نهاية الخريف الجاري وعلى أبعد تقدير نهاية هذا العام، تعكف الحكومة التركية على إعداد خريطة طريق للحل للانتقال إلى المرحلة السياسية وهي الثانية، وحسب المصادر التركية فإن هذه الخطة تتضمن خطوات أساسية، لعل أهمها: تعديل مجموعة من المواد الدستورية تتعلق بقوانين الأحزاب والانتخاب والمواطنة والحكم المحلي وقانون "الندم" المتعلق بعودة المقاتلين الأكراد إلى ديارهم.

على أن تمهد هذه المرحلة للمرحلة الثالثة والأخيرة من خلال إقرار دستور جديد يعترف بالهوية القومية للأكراد وما يترتب على ذلك من حق التعلم والبث باللغة الكردية وحكم ذاتي من وحي تجربة الحكم المحلي في أوروبا، والإفراج عن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان مقابل تخلي الحزب عن السلاح نهائيا والانخراط في الحياة السياسية العامة التركية.

ومن الواضح أن مجمل هذه الخطوات تكمل بعضها بعضا في مسيرة مترابطة تبدو أمام استحقاقات كثيرة، لعل أهمها أن تركيا ستشهد خلال النصف الأول من العام المقبل انتخابات محلية وأخرى رئاسية على أن تسبق الأخيرة إقرار الدستور الجديد الذي يعد له من داخل البرلمان، ومجمل هذه الاستحقاقات يضع عملية السلام الكردي التركي أمام ضغط عامل الوقت الذي ينبغي الانتباه له جيدا، حسب المتابعين لعملية السلام الكردي التركي التي إن تمت فستشكل منعطفا تاريخيا في تاريخ تركيا والمنطقة.

عقبات داخلية وخارجية
في الواقع، الخطوات المتخذة حتى الآن والتصورات والخطط المطروحة لا تعنيان أن العملية ستسير بانسيابية وسهولة، نظرا لحجم التعقيدات والعقبات الموجودة، فعلى مستوى الداخل، ثمة موافقة مشروطة من قبل حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي هو الوريث التاريخي لحزب أتاتورك، فضلا عن رفض قاطع من قبل حزب الحركة القومية المتطرف الذي يرى في العملية تقسيما لتركيا وخيانة وطنية من قبل أردوغان، وعليه يرفض العملية برمتها ويسعى إلى إفشالها.

وعلى المستوى الثنائي ثمة خلافات بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني، منها ما يتعلق بتوقيت ترك الحزب لسلاحه، إذ تشترطه الحكومة التركية مسبقا قبل تحقيق الحل النهائي، في حين يربط الحزب مصير سلاحه بتحقيق هذا الحل، كما أن هناك مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن مشكلة السلاح وهي مشكلة مصير قيادات الحزب الكردستاني ومن تسميهم تركيا بالمتورطين في الدم، إذ تقترح أنقرة تأمين لجوء سياسي لهؤلاء خارج تركيا، في حين يشترط الحزب عودة جميع عناصره إلى ديارهم ويرفض قانون "الندم" التركي ويطالب بدلا منه بقانون عفو عام يشمل الجميع بغية الانتقال إلى العمل السياسي في الداخل التركي والبدء بمرحلة جديدة، فضلا عن خلافات بين الجانبين بشأن نوعية الحكم المحلي وصلاحياته وطريقة إدارته.
 
العامل الإقليمي يسعى إلى إفشال عملية السلام الكردي التركي، وهو ما يلقي على الجانبين المزيد من المسؤولية والتحديات لإتمام هذه العملية التي تبدو وكأنها أمام حقل إلغام

العامل الإقليمي غير بعيد عن فرض نفسه كعقبة أمام مسيرة السلام الكردي التركي، وهنا يبرز دور كل من إيران وسوريا والعراق كدول متضررة من هذه العملية ولديها قضايا كردية لم تستقر على حلول سياسية متفق عليها، وعليه يمكن فهم إعلان الحكومة العراقية رفضها لتمركز عناصر حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان العراق باعتبار الإقليم جزءا من السيادة العراقية بعد أن سكتت هذه الحكومة طول العقد الماضي عن القصف التركي لمواقع الكردستاني في إقليم كردستان والاجتياحات العسكرية المتتالية.

وعلى غرار رفض حكومة نوري المالكي، يمكن النظر إلى التسريبات التي تحدثت عن عرض من إيران للحزب الكردستاني بتزويده بالأسلحة الثقيلة مقابل التخلي عن عملية السلام مع تركيا، أما النظام السوري الذي يخوض حربا حقيقية مع الحكومة التركية على خلفية وصول العلاقات بينهما إلى القطيعة والصدام فلا يتوانى عن أي خطوة من شأنها أن تقوض حكومة أردوغان.

وعليه يبرز العامل الإقليمي وكأنه يسعى إلى إفشال عملية السلام الكردي التركي، وهو ما يلقي على الجانبين المزيد من المسؤولية والتحديات لإتمام هذه العملية التي تبدو وكأنها أمام حقل إلغام ما لم تكن هناك ضمانات وآليات والأهم إرادة حقيقية بعيدا عن الحسابات الضيقة والمصالح الحزبية والآنية والطارئة.

ضمانة أردوغان وأوجلان
في الواقع، من الواضح أن ثمة رجلين يقفان بقوة وراء قطار السلام الكردي التركي الذي انطلق، وهما أوجلان الذي يدير حزبه من داخل السجن حيث تبدو بيده كل مفاتيح حزب العمال، سواء العسكرية المتمركزة في إقليم كردستان العراق، أو السياسية في أوروبا، أو الميدانية على الأرض والمتمثل بحزب السلام والديمقراطية الممثل في البرلمان والذي بات يشكل حلقة وصل بينه وبين مختلف قيادات الحزب في الداخل والخارج.

ولعل السر وراء كل ذلك يعود إلى كاريزمية أوجلان ودوره الشخصي في مسيرة الحزب منذ تأسيسه وإلى اليوم، وما مر به أوجلان خلال العقود الماضية وصولا إلى إلقاء القبض عليه في العاصمة الكينية نيروبي عام 1999، فبسبب كل ذلك تحولت شخصيته إلى حالة رمزية وروحية في الوجدان الكردي كبطل قومي، ومن هنا تبدو شخصيته في السجن أقوى تأثيرا من قبل، فتوصياته سرعان ما تتحول إلى أوامر تطاع من قبل الحزب.

الرجل الثاني هو أردوغان الذي قلب وجه تركيا خلال أقل من عقد من الزمن وحولها إلى دولة إقليمية مؤثرة وناهضة اقتصاديا باتت في سلم الدول المتقدمة اقتصاديا بعد أن كانت تعيش على وقع وصفات صندوق النقد الدولي.

وإذا كان كل ما سبق حقق له كاريزما سياسية وصلت إلى خارج تركيا، فإن الرجل بات يمتلك مفاتيح السياسة والأمن في تركيا بعد أن سيطر حزبه على الرئاسات الثلاث (الحكومة والبرلمان والجمهورية) وأخرج الجيش من العملية السياسية، وانطلاقا من كل ما سبق يتحرك الرجل بقوة نحو إيجاد حل سياسي للقضية الكردية غير آبه بالمؤسسة العسكرية التي عرقلت الجهود والمبادرات التي بذلت لحل هذه القضية خلال العقود الماضية وأقصت كل من عمل على تحقيق ذلك.

أدراك أردوغان وأوجلان وجود قوى داخلية وأخرى خارجية لا تريد لعملية السلام أن تتم، لذا يقومان بدور الرجل الإطفائي في كل خطوة، لا خوفا من فشلها فحسب، بل لإيصالها إلى النهاية السعيدة التي ينتظرها الجانبان

من دون شك، للرجلين تطلعات كبيرة تتعلق برؤية تركيا جديدة مغايرة لما هي عليها الآن، وانطلاقا من هذه التطلعات يقود الرجلان العملية، كل من موقعه، من وراء الستار، وفي هذا السياق كان لافتا تكليف أردوغان رئيس استخباراته العامة والرجل المقرب منه هاكان فيدان بإجراء سلسلة لقاءات مع أوجلان وزيارته بشكل متواصل في السجن، وهو ما أدى عمليا إلى التوصل لسلسلة تفاهمات علنية وأخرى سرية، شكلت ضمانة لإخراج العملية السلمية إلى العلن وإزالة العقبات التي تعترضها، وكل ذلك يخلق الثقة ويعززها للانتقال إلى الخطوات الأخرى.

وقد تبدى هذا الأمر جليا من خطوة سحب المقاتلين من الداخل التركي، إذ جرت اتفاقيات سرية بشأن آلية الانسحاب وعدم التعرض للمقاتلين خلال الانسحاب على أن تكون في أوقات محددة وتحديدا بين الواحدة والرابعة صباحا حيث يقوم الجيش التركي خلال هذه الفترة بإطفاء كل أجهزة الرؤية الليلة في المناطق الحدودية مع العراق كي تتم العملية بنجاح، ولعل مثل هذا الأمر يكتسب أهمية قصوى نظرا لأن أي حادث أمني قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.

ولعل هذا الحرص من أردوغان وأوجلان نابع من إدراك الرجلين بوجود قوى داخلية وأخرى خارجية لا تريد لهذه العملية أن تتم، ولذلك يقومان بدور الرجل الإطفائي في كل خطوة، لا خوفا من فشلها فحسب، بل لإيصالها إلى النهاية السعيدة التي ينتظرها الأكراد والأتراك معا، وما يشجعهما على ذلك هو التأييد الأميركي والأوروبي للعملية السلمية، فضلا عن الأكراد في عموم المنطقة ولا سيما إقليم كردستان الذي يقوم بجهود كبيرة في هذا المجال في ظل التحسن المستمر في العلاقة بين أربيل وأنقرة.

يوما بعد آخر، تتعزز الآمال الكردية التركية بتحقيق السلام بين الجانبين، وإنْ تحققت فسيكون ذلك أول ربيع سلمي يتحقق في المنطقة بين طرفين يريدان أن يصنعا المستقبل دون دماء وربما يتوجان بجائزة نوبل السلام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.