النزوح السوري الكبير

النزوح السوري الكبير .الكاتب: عبدالجليل زيد المرهون

 undefined

ما هو التعريف القانوني "للحالة السورية" الراهنة؟ وماذا عن تفاعلات النزوح السوري الكبير، الناجم عنها؟ ما هي المؤشرات الكلية للنازحين داخلياً؟ وكيف تضاعفت معاناتهم؟

أولاً: تعريف "الحالة السورية"
هناك تعريفات كثيرة يجري تداولها، في الأدبيات ذات الصلة، لتوصيف الحالة الراهنة في سوريا. والتعريف السياسي والوطني لهذه الحالة ليس هو تعريفها القانوني، الذي يشير إلى أننا بصدد "نزاع مسلّح غير دولي".

سلسلة الغارات، التي شنها الطيران الإسرائيلي على دمشق وريفها، دفعت باتجاه إخراج النزاع عن طابعه الداخلي، ومنحه بُعداً دولياً بحكم الأمر الواقع

وتستخدم بعض الأدبيات مصطلح "الحرب الأهلية" لتوصيف الحالة السورية، إلا أن هذا المصطلح غير دقيق وغير واقعي. كما أنه لا يحمل قيمة قانونية بحد ذاته.

وفي الأصل، لم يرد مصطلح "الحرب الأهلية" في المادة الثالثة المشتركة بين اتفاقيات جنيف، بل تمت الإشارة إلى "نزاع مسلّح ليس له طابع دولي".

ولم تقدم هذه المادة تعريفاً كاملاً للنزاع المسلح غير الدولي. بيد أن المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة عرّفت هذا النزاع بأنه "أعمال عنف مسلّح طويل بين سلطات حكومية وجماعات مسلحة منظمة، أو بين هذه الجماعات ضمن دولة ما".

وبطبيعة الحال، فإن مصطلح "النزاع المسلّح غير الدولي" ظل منذ البدء مصطلحاً إشكالياً، يثير قدراً متعاظماً من التحديات على صعيدي المفهوم والمدلول.

في تجربة العقدين السابع والثامن من القرن العشرين، يُمكن أن نلحظ أن غالبية النزاعات الداخلية، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، كانت عبارة عن حروب بالوكالة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، مارست فيها القوتان العظيمتان مختلف أشكال التدخل، باستثناء التورط المباشر في القتال.

كذلك، فإن النزاع الذي دار في يوغسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي لم يكن بمنأى عن التدخل الدولي الكثيف. وهو قد خرج رسمياً عن كونه نزاعاً داخلياً منذ اللحظة التي اندلعت فيها المواجهة العسكرية بين الغرب وبلغراد.

وما يُمكن قوله عن النزاع في يوغسلافيا، يُمكن جره أيضاً على حالة ليبيا عام 2011، وإن ضمن حيثيات مغايرة، وقواعد لعبة مختلفة.

على صعيد الحالة الراهنة في سوريا، لا يبدو خفياً، بحال من الأحوال، حجم التدخلات الدولية والإقليمية الداعمة لأحد طرفي النزاع، وهذا أمر معلن ومنطوق به. وعلى الرغم من ذلك، فإن التمسك الشكلي بمصطلح "النزاع المسلّح غير الدولي"، ظل ممكناً، وبالمقدور اعتماده من قبل الهيئات الدولية المختلفة، رغم كل الإشكالات المثارة حوله.

في الخامس من مايو/أيار الحالي، طرأ تطوّر مفصلي على هذا الصعيد، أحدثته سلسلة الغارات، التي شنها الطيران الإسرائيلي على دمشق وريفها. هذه الغارات، بما هي شكل من التدخل الحربي المباشر، دفعت باتجاه إخراج النزاع عن طابعه الداخلي، ومنحه بُعداً دولياً بحكم الأمر الواقع، حتى وإن دان طرفا النزاع التحرّك العسكري الإسرائيلي.

إن الغارات الإسرائيلية على سوريا قد عقدّت البيئة الجيوسياسية للنزاع، ومن شأن تكرارها دفع الشرق الأوسط نحو حرب إقليمية شاملة. وإذا حدثت هذه الحرب، فإن الشرق برمته سيكون أمام كارثة إنسانية لم يعهدها طوال تاريخه، إذ سيكون هناك عشرات ملايين النازحين، ومئات آلاف القتلى. وستدمر الممتلكات الخاصة والعامة على نحو كبير. وقد تحتاج المنطقة إلى خمسين عاما أو مائة عام  حتى تتعافى من آثار الكارثة.

وهذا بالطبع، إذا لم يخرج الصراع كلياً عن نطاق السيطرة، وتنجر الأطراف المختلفة إلى ضرب بعضها بأسلحة الدمار الشامل، بعد أن يجد أحدها أنه اقترب من لحظة الفناء المادي، أو يشعر طرف آخر بأنه على أبواب انتكاسة وجودية لا يمكن النهوض منها.

وإذا حدث ذلك، فإن كرة النار سوف تتدحرج على نطاق يصعب على أي منا الآن إدراكه، أو حتى مجرد تصوّره.

ثانياً: ضحايا النزاع في الداخل والخارج 
وبموازاة ما يُمكن إثارته من نقاش قانوني على صعيد تعريف الحالة الراهنة في سوريا، ثمة نقاش لا يقل جوهرية حول النزوح السوري الكبير نحو الداخل والخارج، الذي يُمثل أبرز تجليات الحالة السورية الراهنة بالمعيار الإنساني.

تشير التقديرات إلى أن عددهم قد بلغ نحو أربعة ملايين نسمة، أو ما نسبته 18% من الشعب السوري. وهذا دون احتساب مئات الآلاف من السكان، الذين توزعوا على أقاربهم في أرياف البلاد، ولم يتم تسجيلهم حتى اليوم بوصفهم نازحين. 

30% من الشعب السوري هم اليوم نازحون في الداخل أو الخارج, وهذا الوضع يُعرف في القانون الدولي الإنساني باعتباره "وضعا كارثيا ناجما عن نزاع مسلّح غير دولي"

وإذا أضيف إجمالي النازحين السوريين إلى اللاجئين، و"من في حكمهم"، ممن هجروا الوطن اضطراراً بسبب النزاع، فإن الرقم الإجمالي يتجاوز فعلياً السبعة ملايين نسمة، إذ إن السوريين المنتشرين حالياً في دول الجوار الثلاث (الأردن ولبنان وتركيا) تخطوا وفق إحصاءات هذه الدول الثلاث ملايين نسمة، على الرغم من أن الأمم المتحدة قد أعلنت عن مليوني لاجئ سوري في عموم الدول.

وهذه المؤشرات، التي بات بالمقدور الوثوق بها، تعني أن 30% من شعبنا السوري هم اليوم نازحون في الداخل أو الخارج. ويُعرّف هذا الوضع في القانون الدولي الإنساني باعتباره "وضعا كارثيا ناجما عن نزاع مسلّح غير دولي".

ويُعرّف النازحون داخلياً بأنهم "الأشخاص، أو مجموعات الأشخاص، الذين أكرهوا على الهرب، أو ترك منازلهم، أو أماكن إقامتهم المعتادة، أو اضطروا إلى ذلك، ولا سيما نتيجة نزاع مسلح، أو تفادياً لآثاره، أو نتيجة عنف عام الأثر، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو كوارث طبيعية أو من فعل البشر، ولم يعبروا الحدود الدولية المعترف بها للدولة". وقد ورد هذا التعريف في وثيقة "المبادئ التوجيهية بشأن التشرد الداخلي"، الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في العام 1998.

ويحتفظ النازحون داخلياً بكامل حقوقهم كمواطنين، بما في ذلك الحق في الحماية البدنية والنفسية، والطعام والإيواء والتعليم. وذلك وفقاً للقانون الدولي الإنساني، المعروف أيضاً بقانون النزاعات المسلحة.

في المقابل، لا يوجد صك قانوني دولي يتناول قضية النازحين داخلياً بالتحديد، باستثناء المبادئ التوجيهية السابقة الذكر. وهذه المبادئ لا تمثل صكاً ملزماً، بل استرشادياً، وذلك على الرغم من أنها حظيت بمساندة عالمية واسعة.

ومن خلال ولايتها الأساسية، تضطلع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، بمهمة مساعدة النازحين خارج أوطانهم، إلا أنه جرى في سنوات لاحقة توسع عملها ليشمل مساعدة النازحين داخلياً، حيث تتولى الآن الإشراف على احتياجاتهم المتصلة بالحماية والإيواء، وتنسيق شؤون المخيمات وإدارتها.

ثالثاً: المؤشرات الكلية للنازحين داخلياً
على صعيد المؤشرات الأساسية للنازحين داخلياً في سوريا، يتجاوز تعداد هؤلاء النازحين الأربعة ملايين نسمة، نزحوا من كافة محافظات البلاد، ويشكل الأطفال والنساء أكثر من 70% منهم، وتتركز غالبيتهم العظمى في الشمال السوري، ويعيش القسم الأكبر منهم في المدارس والمباني الرسمية.

ووفقاً لدراسة أعدتها اللجنة العربية لحقوق الإنسان، في صيف العام 2012، ، بالتعاون مع مؤسسات محلية وإقليمية، كان عدد النازحين داخلياً في ذلك التاريخ لا يتجاوز المليونين نسمة، بينهم 800 ألف في حلب، 413 ألفا في دمشق وريفها، 240 ألفا في محافظة الرقة، و190 ألفا في محافظة الحسكة.

وبطبيعة الحال، فإن هذه الأرقام الميدانية، التي استندت إلى موفدين مباشرين، لم يُقدر لها أن تعكس الواقع بكافة تفاصيله المعقدة، لكنها تقدم صورة عامة للشكل الذي كان عليه هذا الواقع، وخاصة لجهة التوزيع الجغرافي للنازحين.

ووفقا لمؤشرات أغسطس/آب 2012 فإن توزيع النازحين السوريين حسب المنطقة كان على النحو التالي: 800 ألف بمدينة حلب, 413 ألفا بدمشق وريفها, 80 ألفا بريف حمص, 190 ألفا بالحسكة ومناطقها, 110 آلاف باللاذقية, 90 ألفا بطرطوس, 240 ألفا بمحافظة الرقة, 40 ألفا بدرعا والسويدا, بإجمالي 1.963 مليون (المصدر: اللجنة العربية لحقوق الإنسان -2012)

وتشير الدراسة إلى أن النازحين في دمشق وريفها قد وفدوا من كافة المحافظات السورية المتضررة، وخاصة مدن حمص ودرعا ودير الزور، واستقروا بداية -على وجه الخصوص- في مساكن برزة، وضاحية قدسيا، وجرمانا، وصحنايا، ومخيم اليرموك، والشاغور، ومشروع دمر، والمزة.

النازحون داخلياً في سوريا يتجاوز عددهم الأربعة ملايين نسمة، ويشكل الأطفال والنساء أكثر من 70% منهم، وتتركز غالبيتهم العظمى في الشمال السوري

أما أغلب النازحين إلى محافظة الحسكة فهم من سكان دير الزور وريفها. وقد استقر قسم منهم عند الأقارب أو الأصدقاء، وأقام القسم الآخر في المدارس والمباني الرسمية والحدائق. وينطبق الأمر ذاته تقريباً على النازحين في الرقة، التي كان ينظر إليها، حتى وقت قريب، باعتبارها ملجأ كبيراً للنازحين الوافدين من محافظات مختلفة، وخاصة من دير الزور، التي أصبحت منكوبة، مدينة وريفاً.

وهناك بضعة تقارير صدرت في أبريل/نيسان 2013 تحدثت عن أوضاع النازحين في مدن الساحل وطرطوس وبانياس واللاذقية، وقد وفدوا في غالبيتهم من حمص وحلب وإدلب.

كذلك نشر في الشهر ذاته تقرير عن وضع النازحين في حلب، يتضح من خلاله تبدلاً ملحوظاً في خريطة تمركز النازحين، إذ حدث لقسم منهم نزوح ثان من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية إلى عفرين، حيث يقيمون في مدارس رسمية وأماكن عامة أخرى، مثل مركز التنمية الريفية، ونقابة المعلمين، والاتحاد النسائي، بالإضافة إلى منازل الأقارب والأصدقاء.

رابعاً: معاناة إنسانية تزداد اتساعاً
وتعترف المنظمات الإنسانية، ومعها قوى المجتمع الأهلي، بأن لا قدرة لها على الاستجابة الكاملة لاحتياجات ملايين النازحين، المنتشرين في كافة نواحي وأرجاء الوطن. وبالطبع، نحن أمام وضع بالغ التعقيد، فقد دمرت مقومات الحياة لعدد كبير من السكان، وقوّضت عوامل الشعور بالاستقرار. وجاء النزوح الكبير ليعبر عن لحظة استثنائية جارحة في تاريخ وطن وأمة.

وفي صورة لمشهد الدمار، الذي ما برح متسعاً، تشير تقارير محلية إلى أن عدد المساكن المهدمة كلياً في أنحاء البلاد قد بلغ 300 ألف مسكن، في حن بلغ عدد المساكن المتضررة أكثر من 650 ألف مسكن.

في المقابل، لا توجد إحصاءات دقيقة لعدد المصانع والمحلات التجارية المدمرة، لكنها تعد مبدئياً بعشرات الآلاف. وهناك أسواق كبيرة دمرت بالكامل، على النحو الذي حدث في حلب ودير الزور. أما البساتين التي تضررت، أو دمرت بالكامل، فهي تنتشر على مساحة واسعة، في أرياف دمشق وحمص وحلب وإدلب، حيث تحوّلت الأشجار الباسقة إلى أعمدة سوداء محترقة، تبعث في النفس شعوراً عميقاً بالمرارة والأسى.

وفي سياق التداعيات الاقتصادية والمعيشية أيضاً، كان من إفرازات الوضع الناجم عن النزاع أن ارتفعت إيجارات المنازل والشقق على نحو جنوني، استناداً إلى منطق العرض والطلب، حيث اكتظت المدن بالباحثين عن مأوى، نادراً ما وجدوه.

لقد وصل إيجار الشقة غير المفروشة في جرمانا وضاحية قدسيا إلى  18 ألف ليرة شهرياً، في حين بلغ إيجار الشقق المفروشة 30 ألف ليرة. ووصلت الأسعار حتى 70 ألف ليرة في منطقة شارع بغداد والتجارة.

وقد وسّع هذا الوضع من دائرة المعاناة التي يعيشها المواطنون، لتشمل سكان المدن من غير النازحين، حيث بات قسم منهم معرضاً للطرد من سكنه بسبب عدم قدرته على مواكبة الأسعار الجنونية.

العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا عززت من معاناة الشعب السوري عامة، والنازحين داخلياً خاصة

وهناك خارج البلاد من يعتقد الآن أن العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا قد عززت من معاناة الشعب السوري عامة، والنازحين داخلياً خاصة.

وفي تقريره الصادر عام 2012، يذكر المعهد الدانماركي للدراسات الدولية أن هذه العقوبات قد تجاوزت تداعياتها الحكومة السورية لتشمل فئات اجتماعية عديدة، من خلال ما يُعرف بـ"الآثار الثانوية"، مثل زيادة التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية والسكن والمحروقات، وارتفاع البطالة، وخفض مستويات الرواتب، وصعوبة الاستيراد، وتدهور القوة الشرائية للعملة.

وفي مارس/آذار 2011، أي قبل شهرين من الجولة الأولى من العقوبات، كان الدولار يعادل 47 ليرة سورية. أما اليوم فبات يساوي 76 ليرة بالسعر الرسمي، و88 ليرة في السوق السوداء. ووصل سعر الدولار في بعض الأحيان إلى 100 ليرة.

وأياً يكن الأمر، فإن توصيف واقع الحال يطول كثيراً. والمطلوب من المجتمع الأهلي العربي، بكافة هيئاته النقابية والثقافية والاقتصادية، دعم الجهود الإنسانية الكفيلة بتخفيف معاناة شعبنا في سوريا، وخاصة ملايين النازحين الذين تقطعت بهم السبل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.