القوى الناشئة وتحديات دول الثورات العربية

الكاتب: أمر الله إيشلر .العنوان: القوى الناشئة وتحديات دول الثورات العربية

undefined 

التأثيرات الإقليمية للقوى الناشئة بالشرق الأوسط
تحديات دول الثورات العربية

تحديات العلاقات الثنائية
التجربة التركية وكيفية الاستفادة منها

عندما انهار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينات برزت الولايات المتحدة الأميركية كقطب أوحد. وفي الواقع، فإن الانفراد الأميركي بالساحة الدولية خلال هذه الفترة قابله صعود أوروبا واليابان اقتصاديا، ثمّ تبعتهما الصين فيما بعد.

ومع بداية القرن الواحد والعشرين وجدت الولايات المتحدة نفسها مجبرة على الدفاع عن هيمنتها العالمية، فرجّحت استخدام القوة العسكرية في التعامل مع بعض الأزمات ذات التأثير الإقليمي والدولي، مثلما حصل في العراق وأفغانستان.

وقد أدى ذلك الى مزيد من التراجع في القوة الأميركية على المستوى الدولي في عهد المحافظين الجدد، وبرزت في المقابل دول عديدة كالصين والبرازيل والهند وكذلك تركيا وجنوب أفريقيا وروسيا كلاعبين مؤثرين في أقاليمهم وفي العديد من القضايا والملفات الدوليّة.

لا شك أنّ لصعود القوى الناشئة بالمنطقة انعكاسا سياسيا على المستوى الإقليمي. ويرتبط هذا الانعكاس بدوره بطبيعة المشروع الذي تحمله أو تسعى إلى تحقيقه هذه الدول

وهكذا أصبح كل من الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية والمحيط الهندي مناطق تنشأ فيها موازين قوى جديدة تحدد طبيعة دينامية العلاقات الدولية المستقبلية.

التأثيرات الإقليمية للقوى الناشئة بالشرق الأوسط

1. سياسيا
لا شك أنّ لصعود القوى الناشئة في المنطقة انعكاسا سياسيا على المستوى الإقليمي. ويرتبط هذا الانعكاس بدوره بطبيعة المشروع الذي تحمله أو تسعى إلى تحقيقه هذه الدول.

فمنها ما يحمل أجندة اقتصادية إنمائية تحقق الازدهار والرقيّ للمنطقة، ومنها ما يسعى إلى تحقيق أطماع توسعيّة، ومنها ما يسعى إلى تحقيق أجندات أيديولوجيّة.

وبقدر ما تأخذ هذه الأجندات مصالح الدول الإقليمية الأخرى بعين الاعتبار، وتعمل على توسيع دائرة المصالح المشتركة وتحقيق الإزدهار والرفاهية ومطالب شعوب دول المنطقة، بقدر ما تكون أكثر قدرة على ترك تأثيرات إيجابية تترك انعكاساتها ليس على المستوى السياسي من حيث الفكر والتطبيق والعلاقات الثنائية بين الدول فحسب، وإنما من حيث الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية أيضا.

 2. اجتماعيا
فلصعود القوى الناشئة انعكاسات على الخارطة الاجتماعية الإقليمية، لاسيما أنّ شعوب المنطقة تشترك في العديد من العادات والتقاليد والأعراف ناهيك عن التاريخ المشترك.

وعليه، فبقدر ما تكون هذه القوى الناشئة قادرة على تحقيق النجاحات داخلياً على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بقدر ما تكون مصدراً للإلهام الإيجابي الساعي إلى تحقيق الاندماج والتعايش بين الفئات المختلفة في جو من السلام والاستقرار والازدهار.

وبقدر ما تنزع هذه القوى الناشئة إلى الأيديولوجيا وإلى الصدام بدلا من الحوار، بقدر ما تكون مصدرا لتصدير الأزمات الاجتماعية في المنطقة، والانقسامات الطائفية والعرقية والتوترات المذهبية التي تعمّق من المشاكل في الاستقرار وتحقيق الازدهار وتطلعات الشعوب.

ما يحصل الآن أنّه لا يوجد في بعض الدول إقرار بالخسارة بالانتخابات، وتوجد عملية مقاومة للنتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع، ولهذا من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى عدم الاستقرار

تحديات دول الثورات العربية

‫هنالك ثلاثة تحديات رئيسة بشكل عام للدول العربية التي شهدت تبدّلا في نظامها السياسي نتيجة الثورات:

1. التحدي السياسي
إنّ الديمقراطية هي لعبة بقواعد، ومن دون هذه القواعد تتحوّل إلى فوضى. فاللعبة الديمقراطية تتطلب إقرار الخاسر بالخسارة في الانتخابات، وقيام الفائز باستيعاب الخاسر وإعطائه الضمانات اللازمة ضمن هذه اللعبة.

ما يحصل الآن أنّه لا يوجد في بعض الدول إقرار بالخسارة في الانتخابات، وتوجد عملية مقاومة للنتائج التي أفرزتها صناديق الاقتراع، ولهذا من الطبيعي أن يؤدي ذلك الى شلل بل وتراجع في الوضع العام نتيجة حالة عدم الاستقرار السياسي الذي خلفته.

وقد زاد من تعقيدات الوضع  انكفاءُ كل طرف في المربّع الأيديولوجي الخاص به بدل البحث عن حلولٍ وسط، حيث بلغ الاستقطاب الأيديولوجي أوجه لا سيما بين الإسلاميين والعلمانيين أو الليبراليين.

إنّ المعارضات الطارئة التي تبحث عن مكاسب سياسية بحتة غير بنّاءة، ولا تمتلك حس المسؤولية في وقت قد يتعرض له البلد برمّته إلى الانهيار. أمّا الفائزون فإن نقص الخبرة لديهم قد يولّد ضعفا في الأداء السياسي، وهو ما من المفترض أن يدفعهم إلى البحث عن توسيع دائرة التحالفات والتفاهمات مع المكوّنات الأخرى والبحث عن الكفاءة لتجاوز المعضلة الحالية.

2.  التحدي الاقتصادي
 الأوضاع الاقتصادية في كل هذه الدول العربية صعبة جدا. وبسبب حالة عدم الاستقرار السياسي، فإن الوضع الاقتصادي في تراجع من ناحية الدخل القومي ومن ناحية الاحتياطيات الأجنبية، ومن ناحية التشغيل والدورة الاقتصادية. وهذا يعني أنّ أحد الأسباب الذي انتفض من أجلها الناس لا يزال حاضرا في المعادلة، بل وقد يهدد بانهيار الدولة برمّتها.

في ظل هذا التناقض في الأجندات الإقليميّة، فإن الدول العربية التي شهدت ثورات مؤخرا ستكون عرضة لتجاذب إقليمي ودولي، وهو أمر غير صحي

ومشكلة العامل الاقتصادي أنّه يؤثّر في العوامل الأخرى، فإذا ما تردى الاقتصاد، فإنه يزيد من تأزمّ الوضع السياسي في البلاد، كما أنّه ينعكس بشكل سلبي أيضا على الوضع الاجتماعي مما يفاقم من المشاكل الأمنيّة بطبيعة الحال.

3. التحدي الأمني
وبسبب ثنائية (غياب الاستقرار السياسي وتدهور الوضع الاقتصادي) أو عدم تحسّنه، مترافقا مع تجاذب واستقطاب أيديولوجي ولعبة ديمقراطية من دون قواعد، فإن الجانب الأمني يتدهور بسرعة.

ويؤدي ذلك بدوره إلى فشل في استيعاب المسلحين و/أو مواجهتهم. كما ينعكس الوضع السياسي والاقتصادي على الجانب الاجتماعي فيؤدي إلى ازدياد العصابات والمجموعات المنتفعة من هذا الوضع، وتصبح هناك دائرة مفرغة تغذي فيها كل هذه العوامل بعضها البعض.

تحديات العلاقات الثنائية

1- القوى الناشئة في المنطقة لا يوجد لديها أجندات متناسقة وإنما متضاربة. وفيما يجهد عدد منها لتأمين الاستقرار في المنطقة بما يلبي طموح الشعوب، فإنّ سياسة البعض الآخر تعتمد في الأساس على خلق حالة من عدم الاستقرار وعلى الاستثمار في حروب اقليمية أو حروب بالوكالة وذلك لمصالح قوميّة.

وفي ظل هذا التناقض في الأجندات الإقليميّة، فإن الدول العربية التي شهدت ثورات مؤخرا ستكون عرضة لتجاذب إقليمي ودولي، وهو أمر غير صحي ولا يساعد هذه الدول على تجاوز المحنة التي تعاني منها في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها.

2- كما ستجد الدول العربية التي شهدت ثورات صعوبة في تحقيق توازن في علاقاتها الثنائية مع القوى الإقليمية الفاعلة حالياً في ظل الخوف من أن يؤدي التقاربُ من بعض هذه الدول إلى انعكاسات داخلية أو خارجية سلبية، و/ أو لأن أي علاقة من هذا النوع سَيُنظر إليها على أنها معادلة صفريّة من القوى الإقليمية نفسها.

التجربة التركية وكيفية الاستفادة منها

ترفّع حزب العدالة والتنمية ومعه أردوغان عن الخوض في مسائل هامشية أو الانجرار وراء لعبة الاستقطابات، وركّز على تغيير وضع البلاد والمواطنين إلى الأفضل

وفي الوقت الذي شهد فيه العالم العربي ربيعه -إن صح التعبير- عبر الشوارع والميادين، شهدت تركيا ربيعها عبر الصناديق، حيث تجلت إرادة الشعب بإطاحة اللاعبين السياسيين الفاشلين وإبراز لاعب سياسي جديد هو حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، السياسي الذى رأس بلدية إسطنبول لمدة أربع سنوات ونصف السنة، وحقق إنجازات كبيرة خلالها رغم محاولات الحكومة المركزية عرقلة جهوده مما أكسبه سمعة طيبة ومصداقية لدى الشعب التركي.

من أهم عوامل نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية وأردوغان في الحكم، الابتعاد عن الشعارات السياسية والوعود الخيالية أو غير العمليّة، والاهتمام بإنجاز ما يريده الناس من خلال حل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحيّة والتربويّة، وتحسين مستوى المعيشة ورفع مستوى دخل الفرد.. إلخ.

لقد ترفّع حزب العدالة والتنمية ومعه أردوغان عن الخوض في مسائل هامشية أو الانجرار وراء لعبة الاستقطابات الأيديولوجية، وركّز على المهمّة الأساسيّة التي تمّ انتخابه من أجلها وهي تغيير وضع البلاد والمواطنين إلى الأفضل.

كما تمّ إعطاء السياسات الداخليّة الأولويّة، مما سمح لنا فيما بعد بالانفتاح والتواصل بشكل قوي في السياسة الخارجية مع الإقليم والعالم.

أدى هذا التسلسل في حل المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلاد الى نقلة نوعيّة لم تشهدها من قبل على الإطلاق، واستطعنا خلال عشر سنوات فقط إنجاز ما كان الآخرون يعجزون عن تحقيقه خلال عقود طويلة من الزمن من خلال التركيز على تلبية "ما يريده الشعب".

إنّ المنطقة الآن تعيش في مرحلة انتقالية غاية في الأهميّة والصعوبة. وبقدر ما توفّر الثورات العربية من فرصٍ لا تأتي إلا مرّة كل مائة عام أو أكثر، بقدر ما تفرض علينا من تحدّيات داخلية أو خارجية في علاقاتنا مع بعضنا البعض (أحزاباً، وجماعات، ودولا ومنظمات) تتطلب تغليب العقل والحكمة والحوار والاستيعاب، والعمل الجاد والدؤوب ودعم الجهود الجماعية لدول الإقليم حتى نصل معا إلى تحقيق الأمن والاستقرار والازدهار لدولنا بما يحقق تطلعات وآمال شعوبنا في الحرية والعدالة الاجتماعية والعيش الكريم، ودوما نحو الأفضل.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.