استدعاء للجيش أم هروب من السياسة؟

العنوان: استدعاء للجيش أم هروب من السياسة؟ - بشير عبد الفتاح

undefined

من بين محددات شتى يتأتى على أثرها ولوج الجيوش إلى عالم السياسة من عدمه، لاعبا أساسيا أو ضامنا أو حتى مراقبا لمجريات العملية السياسية، يبرز الطلب الشعبي الملح والمتعاظم في هذا المضمار.

فلطالما برر العسكريون تدخلهم في الحياة السياسية أو المجال العام بإلحاح المدنيين عليهم ومطالبتهم إياهم بالتدخل وربما تقلد السلطة لإنقاذ البلاد من تدهور وشيك أو انهيار محقق جراء إخفاق النخب المدنية، أو تفاقم الصراعات بينها إلى مستوى يحول دون حدوث التوافق وينذر باحتراب أهلي.

وقد ترتئي بعض الفصائل المدنية في وجود الجيش على المسرح السياسي دافعا مهما لبلوغ حالة من التوازن بين القوى السياسية المختلفة ومنع فصيل وحيد من الاستئثار بالسلطة واحتكارها لأطول مدى، وربما لصون المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لبعض الفئات والفصائل الاجتماعية التي تخشى الإقصاء أو الجور.

ولم تكن النخب المدنية المصرية المطالبة بتدخل الجيش في الحياة السياسية بدعا من مثيلاتها في دول نامية عديدة، فكم من دول عالم ثالثية سارت على هذا الدرب، كان من أبرزها على سبيل المثال وليس الحصر، تركيا والأرجنتين، اللتان ألحت قطاعات شعبية عريضة بهما في المطالبة ببقاء الجيوش على مقربة من الساحة السياسية، بصيغة أو بأخرى، حتى اجترأت جيوشها على القيام بأربعة انقلابات عسكرية في الأولى، وبستة في الثانية، كما لا يمكن الزعم بأن العملية السياسية قد برئت كلية من نزوع العسكر للتدخل، رغم الخطوات الوثابة التي اتخذتها كلتا الدولتين على طريق الإصلاح السياسي والتطور الديمقراطي.

ففي تركيا، وما أن استدعي مؤخرا رئيس الأركان السابق الجنرال إلكر باشبوغ الذي شغل رئاسة الأركان بين العامين 2008 و2010، للتحقيق معه على خلفية اتهامه بتأسيس مواقع إلكترونية مناهضة لحكومة أردوغان توطئة لإسقاطها، ومن بعده كنعان إيفرين قائد انقلاب عام 1980 تمهيدا لمحاكمته على هذا الانقلاب وتداعياته الأليمة، حتى اندلعت تظاهرات مؤيدة للجيش في مدن تركية كبورصة ومرسين وأفيون حاملة أعلاما تركية ولافتات كتب عليها "الجيش مقاوم، وليس خانعا" و"الجيش والشعب يد بيد".

ثمة التباس يخيم على موقف الجماهير حيال موقع الجيش في المجال السياسي والشأن العام, فبعد مطالبة واضحة بنزوله إلى الشارع تبدل الموقف وظهرت المطالبات المؤيدة لإبعاده عن السياسة

مواقف ملتبسة
في وسع المتابع للشأن المصري أن يلمس بغير عناء شيئا من الالتباس يخيم على موقف الجماهير حيال موقع الجيش في المجال السياسي والشأن العام. فبعد مطالبة واضحة بنزول الجيش للشارع في الأيام الأولى لثورة يناير التي شهدت انهيار جهاز الشرطة، تبدل الأمر بعد أن تولى المجلس العسكري إدارة شؤون البلاد عقب تنحي مبارك في 11 فبراير/شباط 2011.

فعلى خلفية أحداث شارع محمد محمود التي بلغت ذروة الصدام بين المجلس العسكري والثوار وكذا أحداث ماسبيرو ومجلسي الشعب والوزراء، التي سقط إثرها جميعا عشرات الشهداء ومئات المصابين، علا صوت الثوار مطالبا بضرورة تسليم السلطة للمدنيين فورا، بدلا من الموعد المحدد له نهاية يونيو/حزيران 2012، سواء لرئيس مجلس الشعب الجديد أو لرئيس مدني منتخب، ولو استوجب الأمر تقديم موعد الانتخابات الرئاسية لتسبق صوغ الدستور الجديد.

في غضون ذلك، خرجت تظاهرات مؤيدة للجيش ومجلسه العسكري بميدان العباسية، مما شجع المشير طنطاوي على التلويح باستخدام ورقة الاستفتاء على بقاء المجلس العسكري في السلطة أو رحيله، مستندا إلى دور تاريخي محل اعتبار وإجماع للجيش المصري، الذي يتمتع بتأييد شعبي لا يمكن تجاهله خصوصا في أوساط الطبقتين الوسطى والدنيا، وهو ما أبرزته جليا نتائج ثلاثة استطلاعات للرأي أجراها مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام منذ اندلاع ثورة يناير وحتى ديسمبر 2011، حيث ظلت نسبة تأييد المصريين لاستمرار المجلس العسكري في إدارة البلاد تتراوح بين 82% و84%, وهي نسبة عالية جدا تعكس مشاعر كثير من المصريين تجاه الجيش وقياداته، بغض النظر عن أي أخطاء فنية أو إدارية قد يتورط فيها عن غير عمد بعض المحسوبين عليهما.

غير أن دخول مؤسسة الأزهر على خط الجدل والنزاع بإصدار شيخها يوم 11 يناير/كانون الثاني 2012 وثيقة سميت بـ"بيان وطني للأمة"، طالبت بعودة الجيش لثكناته وتسليم السلطة للمدنيين في الموعد المحدد دونما إبطاء أو إرجاء، قد أعطى زخما واضحا للتحركات والنداءات الشعبية التي تصب في هذا المجرى، ليس فقط لما يتمتع به الأزهر من مكانة دينية وروحية في بلد يسهم الدين بشكل كبير في تشكيل الوعي والسلوك السياسيين لشعبه ونخبه الحاكمة، ولكن لأن الوثيقة جاءت عصارة مشاورات ومباحثات بين الأزهر ومختلف القوى السياسية إضافة إلى رموز العمل الوطني ومن بينهم رأس الكنيسة القبطية.

وجاءت الإجراءات والقرارات التي تبناها المجلس العسكري لتوسيع صلاحياته وتقنين دوره السياسي لتعرج بالساحة السياسية المصرية من حالة الاستقطاب السياسي الحاد بين تيار الإسلام السياسي، بشتى فصائله من جهة، والتيار المدني العلماني بمختلف أطيافه من الجهة الأخرى، إلى ما يشبه التناحر أو المواجهة بين كليهما معا والمجلس العسكري، على نحو بدت نذره واضحة في جمعة "عودة الشرعية" التي التأم فيها الإسلاميون يوم 22 يونيو/حزيران الماضي مع غالبية القوى المدنية والثورية، مطالبين بضرورة إلغاء كل القرارات والإجراءات التي اتخذها المجلس العسكري لتوسيع صلاحياته وشرعنة دوره السياسي، وفي القلب منها الإعلان الدستوري المكمل.

طلب متزايد
بعد شعارات ظلت تطالب بإسقاط "حكم العسكر" ودعوات تنادي بـ"الخروج الآمن" لقيادات المجلس العسكري، ثم أخرى بمحاكمتهم على تجاوزات وانتهاكات وقعت أثناء إدارتهم للبلاد طيلة 18 شهرا بدأت بتنحي مبارك في 11 فبراير/شباط 2011 وحتى نهاية يونيو/حزيران 2012، طفقت مؤشرات عديدة تلوح في الأفق في الآونة الأخيرة على تفاقم الطلب الشعبي لتدخل القوات المسلحة في العملية السياسية.

فعلى مستوى النخب السياسية والفكرية، ظهرت دعوات مبطنة في غالبيتها وصريحة في بعضها من جانب رموز سياسية وفكرية لتدخل الجيش في العملية السياسية بصور مختلفة وذرائع متنوعة، كأن يكون ضامنا لتنفيذ مخرجات الحوار الوطني تارة، أو مشرفا على نزاهة الانتخابات البرلمانية المرتقبة تارة ثانية، أو حائلا دون أخونة الحكم والهيمنة على الدولة من قبل فصيل بعينه تارة ثالثة.

في حديث له مع إذاعة "بي بي سى" أكد الدكتور محمد البرادعي رئيس حزب الدستور منسق جبهة الإنقاذ الوطني، أن "إجراء الانتخابات في ظل الظروف الراهنة غير المواتية يعني المخاطرة بوضع مصر على طريق الفوضى الشاملة وعدم الاستقرار، وساعتها سيكون تدخل الجيش أمرا منطقيا لتحقيق الاستقرار قبل استئناف العملية السياسية".

البرادعي:
إجراء الانتخابات في ظل الظروف الراهنة غير المواتية يعني المخاطرة بوضع مصر على طريق الفوضى الشاملة وعدم الاستقرار، وساعتها سيكون تدخل الجيش أمرا منطقيا

وفي مقال لها بجريدة "المصري اليوم" القاهرية، وبعد استعراضها لما عدته وضعا متدهورا في مصر من كل الأوجه، تساءلت صراحة الكاتبة لميس جابر "ماذا ينتظر الجيش المصري الأبي، محرر الأرض وحامي الديار والأعراض حتى يتدخل؟ واستنفرت قيادات الجيش قائلة "أنتم حائط الصد الأخير.. والشعب المصري يستغيث بكم، واللحظة المناسبة تكاد تمضي"!

وبدوره، أعلن البدري فرغلي، الناشط السياسي اليساري والبرلماني السابق عن إحدى الدوائر الانتخابية ببورسعيد، أنه اجتمع وعدد من أهالي المدينة الباسلة والملتهبة هذه الأيام مع قيادات الجيش الثاني الميداني، وعرضوا عليهم مطالب شعب بورسعيد. وفي تصريح لافت لوسائل الإعلام، أكد فرغلي أن "الجيش الثاني الميداني سيكون حلقة الوصل بين بورسعيد والحكومة".

وفي خطوة بدت رمزية في ظاهرها لكنها تطوي بين ثناياها دلالات مهمة على ضعف الإدارة المدنية قياسا إلى تلك العسكرية، واعترافا صريحا من الأولى بهذا الأمر، وافق مجلس الوزراء في فبراير/شباط 2012 على طلب وزارة الزراعة بنقل تبعية حديقة الأسرة، التي كانت سوزان مبارك ترأس مجلس إدارتها قبل الثورة، ويتوقع أن تصل أرباحها بعد الافتتاح إلى ٣٠ مليون جنيه سنويا بخلاف توفير نحو ١٣٠٠ فرصة عمل جديدة، إلى وزارة الدفاع بسبب عجز الوزارات المعنية عن إتمام مشروع تطويرها وعدم أهليتها لإدارتها. حيث أكدت وزارة الزراعة أن القوات المسلحة هي الأقدر على استكمال أعمال التطوير ثم إدارة الحديقة وتشغيلها لاحقا على النحو الأفضل.

أما على المستوى الجماهيري، فيبدو أن نزيف الشعبية الذي يحاصر حكم الرئيس مرسي وجماعة الإخوان المسلمين حاليا أضحى يصب في رصيد المؤسسة العسكرية التي استعاد المواطن الثقة فيها مجددا مع استمرار الجفاء بين الشارع والأحزاب السياسية المدنية.

ففي خضم الاستياء الشعبي من أداء الرئيس مرسي وجماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة، لم يتورع نشطاء سياسيون عن إطلاق حملات شعبية وإلكترونية لمطالبة الفريق أول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع والإنتاج الحربي بتولي رئاسة الجمهورية لفترة رئاسية واحدة بغية إنقاذ البلاد في ظل الظروف العصيبة التي تعصف بها. وأعلن هؤلاء النشطاء أن استطلاعات الرأي التي أجراها ائتلاف يسمى "مصر فوق الجميع" في محافظات شتى أظهرت أن 85% من المواطنين لا يمانعون من عودة الجيش للحياة السياسية.

وبالتوازي، وتلبية للدعوة التي أطلقتها أحزاب وحركات سياسية للخروج تحت شعار "محاكمة النظام"، طالب ثوار مدينة الإسكندرية بنزول الجيش إلى الشارع، في أربع مسيرات احتجاجية تحركت من أمام مسجد القائد إبراهيم عقب صلاة الجمعة يوم 22 فبراير/شباط الماضي، واتجهت إلى المنطقة الشمالية العسكرية بمنطقة سيدي جابر شرق الإسكندرية وضمت مئات المتظاهرين من الرجال والنساء وناشدت الجيش النزول للميادين مجددا وإجبار الرئيس محمد مرسي على التنحي لحين إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وأكد المتظاهرون أن المؤسسة العسكرية هي الضمان لحماية الثورة.

وأثناء فعاليات الجمعة الأولى من مارس/آذار الجاري، انطلقت تظاهرات تحت مسمى "الجيش في قلوبنا" تطالب بوقف أخونة الجيش وعدم التدخل في شؤون القوات المسلحة، وتطلق شعارات على شاكلة "واحد.. اتنين.. الجيش المصري فين"، و"الشعب يريد الجيش من جديد"، و"الشعب والجيش إيد واحدة".

وغير بعيد، توجه عشرات من المواطنين ببورسعيد إلى مكتب الشهر العقاري بمحكمة بورسعيد لعمل توكيلات باسم الفريق أول عبد الفتاح السيسي، حتى يتولى إدارة شؤون البلاد بدلا من الرئيس مرسي وجماعة الإخوان. ورغم أن مساعد وزير العدل رفض هذه التوكيلات لعدم قانونيتها، فإن هذا الموقف تضمن إيحاءات مهمة بشأن تنامي الطلب الشعبي على عودة القوات المسلحة إلى المسرح السياسي.

ما كادت ثورات الربيع العربي تضع نهاية لحالة الجفاء والخصومة التي دهمت علاقة المصريين بالسياسة، حتى فجعت الجماهير من تدني مستوى أداء النخب السياسية المدنية

هجر السياسة
يكاد ينبئ جنوح قطاعات شعبية ورموز نخبوية هذه الأيام لمطالبة الجيش بالعودة إلى الساحة السياسية عن تعاظم الشعور باليأس والإحباط جراء المآل الصادم الذي آلت إليه الثورة المصرية فضلا عن حالة الجمود والانسداد التي أطبقت على العملية السياسية. وهي الأجواء التي من شأنها أن تزج بالجماهير حديثة العهد بالديمقراطية صوب الهروب من تشابكاتها تلافيا لأي مآلات كارثية قد تتأتى من عدم جاهزية وأهلية أطرافها ولاعبيها من الأحزاب والقوى السياسية المدنية والإسلامية على السواء.

فما كادت ثورات الربيع العربي تضع نهاية لحالة الجفاء والخصومة التي دهمت علاقة المصريين بالسياسة، عبر دفعهم صوب التحرك لإسقاط أنظمة الاستبداد بطرق سلمية وحضارية، ثم المشاركة بفاعلية في كل الاستحقاقات السياسية التالية، حتى فجعت الجماهير المتصالحة حديثا مع السياسة والمتلاقية أخيرا مع الديمقراطية، من تدني مستوى أداء النخب السياسية المدنية وإخفاقها الذريع في الاستفادة من الحدث الثوري كما الزخم الشعبي الكثيف المتهافت بحماس غير مسبوق على المشاركة السياسية.

وكنتيجة منطقية لتلك المقدمات المنطقية أيضا، لم تجد الجموع الشعبية المكلومة والحائرة بدا من إيثار الانسحاب من معترك السياسة القلق والمتخبط، والمطالبة بعودة القوات المسلحة إلى المشهد السياسي لإنقاذ البلاد والعباد من التداعيات السلبية الخطيرة التي يمكن أن تتمخض عنها المراهقة السياسية للنخب المدنية غير المسؤولة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.