حديث الجولاني ومسؤولية الثائر الإسلامي

حديث الجولاني ومسؤولية الثائر الإسلامي .الكاتب :مهنا الحبيل

undefined

بات مستقبل الثورة السورية اليوم يستدعي مراجعة شاملة لمعرفة توجهات الأحداث بشأنها وطريقة قيادة الثورة الذاتي لمشروعها، كونه انطلق في الأصل بهدف الخلاص من نظام لا يكفي في وصفه بكلمة الإرهابي، ثم البحث عن طريق إقامة الدولة الجديدة لجمهورية سوريا الثانية بهويتها الإسلامية.

وهذا الهدف في الأصل هو الذي جمع التيارات الثورية بما فيها لجان التنسيق والنشطاء الميدانيين، وهي الرؤية التي انبعثت معها فكرة الكفاح المسلح لحماية الثورة المدنية حين واجهت الحرب الدموية في الشارع والبيت والمسجد.

وقد تضمنت هذه الفكرة الأصلية للثورة الشعبية مشروعا للدولة المدنية مرتبطا بالإسلام كهوية وشرائع، تستخرج من خلاصات الفقه وتجارب التطبيق المدني التي لا تنقض حكما قطعيا للشريعة وتلتزم قيمها وتبادر بتحقيق مقاصدها، خاصة في العدل السياسي الأكبر.

التشكيلات الرئيسية للثورة تحتاج إلى إنشاء مجلس عسكري موحد يؤسس لخارطة جديدة للثورة، قبل أن تسقط الممانعة الأخيرة أمام ترسانة الدعم الغربي والروسي للتحالف الإيراني المتوحش

ورغم أن هذا الهدف كان واضحا في مداولات الثوار ومؤسسات الخارج فإنه عاد ليشكل اليوم أحد مفاصل التصنيف التي قد تقود من جديد إلى حملة تشظي ثانية، تعرقل الثورة السورية وتفتح الطريق لسقوطها الشامل ما لم يتوافق فرقاء أو حلفاء الفكرة الإسلامية على تعريف واضح ينظم هذا الشعار، وهو تطبيق الشريعة الإسلامية بمفهوم مقاصده وفقه أئمة السلف والخلف الممثلين لتراث الأمة ومخزونها، وإعادة وعي هذه الخلاصات في بوابة التقنين المعاصر المنشئ للدولة الحضارية القوية ذات الهوية الإسلامية.

وهذا البند يؤثر للغاية في تساؤلات المرحلة القادمة التي تختطها الثورة السورية في ظل صعود جبهة النصرة ومشروعها، وفي ظل جولة الحصار الأميركي الإيراني المزدوج لمواجهة الثوار، واستكمال عنصر الصفقة الأهم في تاريخ العلاقات الأميركية الإيرانية، وهو تصفية الثورة السورية.

ومن هنا، فإن حديث لافروف عن أن الغرب يدرك الآن أن الأسد حليف له أمام مشروع الثورة ببعدها الإسلامي لم يتشكل الآن بل قبل زمن، وكان موجها لفصائل الثورة الأصلية قبل اختراق داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وتوسّع النصرة، لكنه أُعلن اليوم بصراحة شاملة تحتاجها متطلبات اللعبة الكبرى في المشرق العربي.

ومن هنا فإن الثورة -خاصة في تشكيلاتها الرئيسية التي ينتظم أكثرها اليوم في ثلاث جبهات رئيسية: الجبهة الإسلامية وفصائل الجيش السوري الحر المتبقية وهي لا تزال ذات حضور وتأثير وجبهة التشكل الجديد في دمشق من ألوية وفصائل عسكرية اتخذت مسارا مستقلا عنهما- تحتاج بالضرورة إلى المبادرة بإنشاء مجلس عسكري موحد يؤسس لخارطة جديدة للثورة قبل أن تسقط الممانعة الأخيرة أمام ترسانة الدعم الغربي والروسي للتحالف الإيراني المتوحش ضد المدنيين والذي يحقق تقدما عسكريا.

وتوقف هذا التحالف عند معركة القلمون بعد أن حقق اختراقا فيها بعد إعادة ترتيب صفوف الثوار ونجاحاتهم في مناطق عديدة أمر حقيقي، لكنه لا يكفي لتأمين الجبهة في محور حلب وحمص، والبدء باستعادة المبادرة للثورة وتجديد الهجوم المركزي.

إن حسم أو تنظيم مادة الجدل الإسلامي والفقهي ضرورة حتى لا تشعل الجبهات الداخلية ولا تبعثر مشاريع التنسيق والوحدة الميدانية عند كل صيحة ترفع فيها المصاحف على الرماح باسم الشريعة وهي منضوية تحت فكرة فقهية غير راشدة تجعلها عقيدة يتقاتل الشعب والثوار عليها، أو تتنازعها مصالح ونزوات شخصية للقيادات, ولا تنكشف إلا بعد احتراق كامل الميدان ومشروع الثورة.

طريقة حديث زعيم النصرة تشير إلى مراجعته وقراءته المشهد السياسي العام للثورة، ومتابعته ما كتب من دراسات عن التقاطع الإقليمي والدولي، واهتمامه بآراء الباحثين وكأنها ثقافة نوعية لدى القاعديين الجدد

وهذا التنظيم الداخلي من يفترض أن ينظم العلاقة مع صعود جبهة النصرة، ورغم أن الاتفاق الشامل لكل الثوار بات يلتف حول تحييد تنظيم داعش بعد ثبوت جرائمه الكبرى في حق الثورة والمدنيين فإن الحالة لا تزال تستدعي تنظيم قواسم التنسيق والشراكة والتحالف مع جبهة النصرة ذات التأسيس والولاء القاعدي حتى اليوم.

فتحييد داعش من بعض الأطراف جاء بعد خلافها الشرس مع جبهة النصرة، وليس إيمانا بضرورة إعادة الاعتبار للشعب وللثوار الأصليين المؤمنين ببرنامج إنقاذ لهذا الشعب والدولة وليس تحويل سوريا لمحطة أرض محروقة لا تنقذ ذاتها وتعجز عن غوث دول ومناطق نكبات أخرى.

في حين أنه عندما تستقر الدولة الجديدة ستشكل رافعة مهمة للمنطقة بدء من لبنان وصولا إلى العراق وتوازن المشرق العربي بالعمل السياسي والضغط، وليس بالضرورة عبر التحشيد العسكري.

هذه المحاور تبدو اليوم مهمة لإعادة التفكير بين تكتلات الثورة، خاصة بعد لقاء أبو محمد الجولاني زعيم جبهة النصرة مع الجزيرة الذي كشف فيه عن توجهات فكرية جديدة لم تعهد عن القاعدة، وكذلك تطلعات غير واضحة المعالم في التنفيذ، وفيها مساحة غموض كبيرة.

ولقاء الجولاني المهم يستحق دراسة شاملة لأجل فهم تأثيرات هذه الجبهة الصاعدة على سيناريو الثورة السورية، ولكن نجملها اليوم في هذه العناصر:

1- طريقة حديث الرجل تشير إلى مراجعته وقراءته المشهد السياسي العام للثورة، ومتابعته ما كتب من دراسات عن التقاطع الإقليمي والدولي، واهتمامه بآراء الباحثين وكأنها ثقافة نوعية لدى القاعديين الجدد.

2- هذا الحديث فيه دلالات على ذكاء سياسي وتقدير مرحلي، لكنه لا يكشف عن كامل مشروعه بطبيعة الحال، وهو يستدعي نموذج أبو مصعب السوري القديم الذي كان مقربا من منهاج أهل السنة والتنظير الإستراتيجي مقابل جناح التكفير الأكبر وطلائعه الشبابية السطحية التي تستخدم من بنية مناضلي شباب الخليج العربي.

3- طرح الجولاني اعتراف النصرة بانتماء الشعوب المسلمة إلى دينها ونبذ تكفيرها خلافا لجناح التكفير الذي يعتبرها مناوئة لجماعات تطبيق الشريعة -حسب تصنيف وفرز القاعدة- حيث لا تعترف بمنهاج أهل السنة الأكبر، ولا بالمشروع الإسلامي لفكر وفقه حركة الإحياء الإسلامي.

4- نص الجولاني على استفادتهم من أخطاء عديدة لنماذج القاعدة في عدة مسارات، وقال نصا كالتعامل مع الناس، وقد يكون للجولاني رؤية أوسع فضل ألا يعرضها حتى لا يصدم بها بعض قواعد النُصرة، وقد يكون خطابه احتواء مرحليا، وهو الخطير في ظل ما رصد من ممارسات لجبهة النصرة ذاتها وليس داعش فقط ضد علماء وثوار سوريين ينتمون لمنهاج أهل السنة وليس مذهب جبهة النصرة.

تشكيلات الثوار الإسلاميين تحتاج إلى قاعدة مركزية من التنسيق والدعم السياسي والمادي والمعنوي من العالمين العربي والإسلامي، لتكون طرفا قويا قادرا على التعامل مع التحالف المنضبط مع النصرة ومواجهة الحلف الأميركي الإيراني

5- أشار الجولاني إلى الشراكة في مشروع الحكم القادم، لكنه أكد مرجعية فكرته المذهبية وليس فقه أهل السنة الأكبر في تحديد مصادر التشريع التي أباحها الإسلام ليحكم الناس بدستور العدالة الذي يرتضيه الشرع لا قضاة داعش، وهنا قد تكون هذه الزاوية مدخل تأزيم مستقبلا أو لافتة للدخول في مواجهة عسكرية مع بعض فصائل الثوار.

في كل الأحوال، إن بناء مسار تجديد الثورة اليوم من التشكيلات الرئيسية يحتاج إلى التحالف الحذر مع جبهة النصرة دون بعثرة الجسم الرئيسي بل والاستمرار في تدعيم وحدته وهيئته التنسيقية الذاتية لثوار الداخل الذين لا يأتمرون بأوامر الظواهري بل بتشريع الإسلام وفقهاء أهل هذا المصر
-سوريا- ومنهجه في دفع الصائل، وما نُصّ عليه من أحكام تفصيلية هي روح الشريعة وعصبها, وليس إعلانا عاما لا يُرضى فيه إلا فقه القاعديين وتضليل من سواهم.

إن تشكيلات الثوار الإسلاميين تحتاج إلى قاعدة مركزية من التنسيق والدعم السياسي والمادي والمعنوي من العالمين العربي والإسلامي، لتكون طرفا قويا قادرا على التعامل مع التحالف المنضبط مع النصرة ومواجهة الحلف الأميركي الإيراني.

وهذه اليوم من أوجب مهام العمل السياسي الثوري، سواء في المجلس الوطني أو نشطاء الخارج والداخل، لتكثيف الضغط على تكتلات الثوار لإعلان مجلس أعلى للتنسيق العسكري، وتحديد معالم المشروع السياسي دون الانغماس في ترديد الشعارات التي لن تقرب تطبيق المشروع الإسلامي،
بل العمل على تأسيس مرحلة تفهم فيها سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعناصر سيرته المهمة ومقاصد رسالته للأمة، فيحمل الشعب لبرنامج الخلاص وليس لمزيد من القهر والضياع بحراب الأسد وإيران، وبحماقات بعض من يحمل السلاح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.