الإدارة الذاتية الكردية بين الانفصال والاستحقاق

الإدارة الذاتية الكردية بين الانفصال والاستحقاق . الكاتب:خورشيد دلي

undefined 

دوافع الإدارة الذاتية
انفصال أم استحقاق؟
آفاق وسيناريوهات

أثار إعلان أكراد سوريا الإدارة الذاتية في مناطق شمال شرق البلاد الكثير من الجدل وردود الفعل من قبل المعارضة والأطراف الإقليمية والدولية، فضلا عن الأحزاب الكردية التي هي على خلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صاحب المشروع.

الثابت أن هذه الخطوة لم تكن ممكنة لولا تداعيات الأزمة السورية التي ساهمت في بروز دور المكون الكردي الذي فرض نفسه لاعبا أساسيا في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، خاصة بعد ما نجح في تحقيق انتصارات ميدانية كبيرة على تنظيم داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام) وجبهة النصرة في مناطق رأس العين على الحدود مع تركيا ومعبر اليعربية تل كوجر على الحدود مع العراق.

وهذا الشيء أعطى زخما قويا لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لجهة فرض سيطرته على المناطق الكردية كقوة وحيدة في هذه المناطق، وسط جدل بشأن علاقته بالنظام وبالقوى الكردية المنضوية في إطار المجلس الوطني الكردي التي تتخذ من أربيل مرجعية لها.

لم تكن خطوة إعلان الإدارة الذاتية ممكنة لولا تداعيات الأزمة السورية التي ساهمت في بروز دور المكون الكردي الذي فرض نفسه لاعبا أساسيا في المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، خاصة بعد ما نجح في تحقيق انتصارات ميدانية كبيرة على تنظيم داعش وجبهة النصرة
دوافع الإدارة الذاتية
يرى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أن الإعلان عن إنشاء الإدارة الذاتية جاء نتاجا طبيعيا للوضع الذي نشأ في المناطق الكردية بعد ما سحب النظام قواته منها تحت ضغط المعارك في دمشق وحلب وحمص ودير الزور، وبعد ما استلم هو إدارة هذه المناطق وقام بإدارتها خلال سنتين تقريبا.
 
ففي ظل ذلك بات الأمر يحتاج إلى تنظيم الأوضاع فيها من جديد وإدارة شؤون الناس وتقديم الخدمات وتنظيم العلاقات الاجتماعية، خاصة أن هذه المناطق مختلطة سكانيا لجهة المكونات القومية والدينية والطائفية، ففيها إلى جانب الأكراد عرب وآشوريون وكلدان وأرمن وسريان وشيشان وتركمان وإيزيديين وغيرهم.
 
وعليه فإن مهمة المجلس المكون من 82 عضوا يمثلون 35 حزبا ومنظمة، هو إدارة هذه المناطق إداريا وتنظيميا بعد أن تم تقسيمها إلى ثلاثة "كانتونات" هي القامشلي وكوباني وعفرين، وهي مناطق كردية على امتداد الحدود السورية التركية تفصلها جيوب عربية تجعل من الصعب إقامة وحدة جغرافية بين هذه المناطق، حيث لم يتمكن أعضاء منطقتي كوباني وعفرين من حضور المؤتمر التأسيسي الخاص بإعلان الإدارة الذاتية في القامشلي.

وقد تزامن إعلان المجلس مع أحداث مهمة، كانضمام المجلس الوطني الكردستاني المؤلف من 13 حزبا كرديا إلى الائتلاف الوطني السوري، والإعلان عن حكومة أحمد الطعمة، وسيطرة قوات وحدات حماية الشعب الكردية على سلسلة مواقع إستراتيجية في محافظة الحسكة ولا سيما معبر اليعربية مع العراق.

ولهذا الأمر أهمية بالغة بالنسبة للمناطق الكردية، إذ إنه فتح للمرة الأولى هذا المعبر بين المناطق الكردية السورية والعراق في ظل إغلاق معبر سيمالكا مع إقليم كردستان العراق بسبب الخلافات بين قيادة الإقليم وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، على خلفية اتهام قيادة الإقليم لحزب الاتحاد بالانفراد في فرض سيطرته على المناطق الكردية وإقصاء باقي الأحزاب السياسية الكردية والعمل لمصلحة النظام السوري، فيما لا يتوانى الحزب عن اتهام الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس الإقليم مسعود البارزاني بمحاولة فرض إملاءات خارجية على أكراد سوريا (غرب كردستان).

 
خلاصة القول، تقوم وجهة نظر مؤيدي مشروع الإدارة الذاتية على أن الأوضاع في المناطق الكردية السورية باتت بحاجة ماسة إلى عقد اجتماعي جديد لتنظيم وإدارة هذه المناطق في انتظار انتهاء الأزمة السورية، ليجري تحديد طبيعة العلاقة مع المركز من جديد.

واللافت هنا هو حرص أصحاب المشروع على عدم الإشارة إلى أي طابع قومي كردي للمشروع أو رفع شعارات سياسية من نوع الحكم الذاتي أو الفيدرالية وغير ذلك من الشعارات التي تصب في خانة القضية القومية الكردية.

انفصال أم استحقاق؟
لعل مما زاد الجدل بشأن خطوة الإعلان عن الإدارة الذاتية هو غموض الهدف السياسي منها، بين من يرى أن الهدف النهائي هو الانفصال وتأسيس إقليم كردستان سوريا على غرار إقليم كردستان العراق، ومن يرى أن المسألة لا تخرج عن إطار سيناريو متفق عليه بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري، وأن الهدف هو إدارة هذه المناطق خدميا وإداريا إلى حين انتهاء الأزمة السورية.
ردود الفعل الرافضة للمشروع كانت أكثر بكثير من المؤيدة له التي تكاد لا تذكر، فتركيا الدولة الإقليمية المجاورة للمناطق الكردية السورية أعلنت على لسان رئيسها عبد الله غل أنها لن تسمح بأمر واقع كردي داخل سوريا.

 

مما زاد الجدل بشأن خطوة الإعلان عن الإدارة الذاتية هو غموض الهدف منها، بين من يرى أن الهدف النهائي هو الانفصال وتأسيس إقليم كردستان سوريا، ومن يرى أن المسألة لا تخرج عن إطار سيناريو متفق عليه بين حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام السوري

وفي حقيقة الأمر تبدو تركيا الدولة المعنية أكثر بالحالة الكردية السورية نظرا لتداخل الأكراد على جانبي الحدود، فضلا عن أن صاحب مشروع الإدارة الذاتية هو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي يعد عمليا الفرع السوري التابع لحزب العمال الكردستاني.

وتخشى تركيا أن ينقل حزب العمال الكردستاني ثقله إلى المناطق الكردية السورية إذا ما نجح مشروع الإدارة الذاتية، خاصة أن العلاقة بين هذا الحزب وقيادة إقليم كردستان العراق تشهد المزيد من التوتر.

وانطلاقا من هذا العامل، اتسم موقف قيادة إقليم كردستان العراق برفض مشروع الإدارة الذاتية تحت عنوان إقصاء الأطراف الكردية الأخرى، حيث بدا موقف البارزاني الذي زار تركيا مؤخرا متناغما مع الموقف التركي الرافض لمشروع الإدارة الذاتية.

الرد الأقوى جاء من الائتلاف الوطني السوري الذي أعلن رفضه المطلق للخطوة الكردية، واصفا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالتنظيم المعادي للثورة السورية، فيما اتسم الموقف الأميركي بالحذر عندما طالب السفير الأميركي السابق في سوريا روبرت فورد الأكراد بعدم اتخاذ خطوات أحادية الجانب والتركيز على (إنجاح المعتدلين في الثورة السورية)، وهو موقف يذكرنا بموقف الإدارة الأميركية من إعلان أكراد العراق إقليمهم قبل نحو عقدين، فيما التزم النظام السوري بالصمت إزاء الخطوة الكردية.

في الواقع، ثمة قناعة عميقة لدى الأطراف الرافضة لهذا المشروع، بأنه يخدم النظام السوري كثيرا لجهة خلط الأوراق، كما أنه على المستوى الإستراتيجي يمهد الطريق لخطوات انفصالية خاصة إذا شهدت القضية الكردية في الأجزاء الأخرى من كردستان تطورات دراماتيكية مثل ما جرى في العراق ويجري حاليا في سوريا، فضلا عن أن معظم قوى المعارضة سواء لأسباب أيديولوجية قومية عروبية أو دينية أو حتى لأسباب سياسية تتعلق بحسابات الصراع في الأزمة السورية ترفض الخطوة الكردية، وإذا ما أخذنا الرفض التركي لها فإن السؤال عن مستقبل الإدارة الذاتية يصبح ملحا بدرجة كبيرة.

آفاق وسيناريوهات
ثمة أسئلة كثيرة عن آفاق الإدارة الذاتية الكردية ومستقبلها وعلاقتها بتطورات الأزمة السورية والعوامل الإقليمية والدولية.

وبغض النظر عن مشروعية الإدارة الذاتية الكردية والتي تنبثق من عاملين: سيطرة قوات الحماية الشعبية الكردية على مناطق واسعة من الأرض، وضرورة وضع عقد اجتماعي جديد في هذه المناطق لتنظيم الأوضاع إداريا وخدميا؛ فإن هذه التجربة تبدو مؤقتة ولا تمتلك عوامل الديمومة لأسباب كثيرة، لعل أهمها عدم توفر المقومات اللازمة حاليا لاستمرار هذا المشروع مستقبليا ما لم نشهد تطورات تغير من المعطيات.

فثمة اعتراضات كردية على صيغة المشروع وتفرد حزب الاتحاد الديمقراطي، فضلا عن أن إقليم كردستان الذي يشكل ما يشبه المرجعية الكردية يقف في الموقع الآخر للمشروع. وبناء عليه ما لم ينجح حزب الاتحاد الديمقراطي في إزالة التوتر بينه وبين الأحزاب الكردية وإقليم كردستان من خلال الهيئة الكردية العليا، فسيكون من الصعب اكتساب المشروع مرجعية قومية تعبر عن الحقوق القومية الكردية، وستبقى المسألة في إطار الحسابات والصراعات الحزبية التي قد تنفجر في أي لحظة على شكل صدام دموي.

الأمر الثاني أن الحدود الجغرافية للمناطق الكردية السورية تبدو مغلقة، بل محاصرة خارجيا، سواء من جهة إقليم كردستان العراق أو تركيا، فيما الحدود مع مناطق الداخل السوري غير مستقرة وقابلة لتتحول إلى حدود مواجهة وصدام في ظل تغير موازين القوى بين النظام والمعارضة على الأرض.

 

قبل سنوات قليلة ربما كان حلم أكراد سوريا رفع علم حزبي فوق مقر في مكان ما من مناطقهم، أما اليوم فثمة إقليم يتأسس من يوميات الأزمة السورية، إقليم يرسم خريطة من دم في حلم يتجاوز الحدود حتى لو كان محفوفا بالمخاطر والصعوبات

وكل ما سبق يصعب من مهمة تحقيق أهداف الإدارة الذاتية في تقديم الخدمات وتأمين الموارد المالية والغذائية والطبية في مناطق تقارب مساحتها نحو 24 ألف كلم2، أي ما يزيد على ضعف مساحة لبنان.

لكن بلغة السياسة فإن هذه المصالح كما الحسابات تتغير، ولعل التعامل مع الواقع على الأرض يصبح سياسة عندما تهدأ المعارك. فبغض النظر عن الرفض الموجود للإدارة الذاتية الكردية، اكتسب حزب الاتحاد الديمقراطي تجربة وممارسة على الأرض في إدارة شؤون المناطق الكردية، وهو ما يفرض على القوى التي ستحكم سوريا في المرحلة المقبلة التعامل مع هذه التجربة.

إن سياسة تأجيل التعامل مع الحالة القومية الكردية أو القفز عليها إلى حين تحقيق كل الأهداف ستصطدم بواقع جديد على الأرض انطلاقا من تأسيس إقليم كردي يستند إلى واقع قومي واجتماعي وتاريخي، بما يؤدي إلى انتقال الإدارة الذاتية من صيغتها المؤقتة إلى الدائمة.

قبل سنوات قليلة ربما كان حلم أكراد سوريا رفع علم حزبي فوق مقر في مكان ما من مناطقهم، أما اليوم فثمة إقليم يتأسس من يوميات الأزمة السورية، إقليم يرسم خريطة من دم في حلم يتجاوز الحدود حتى لو كان محفوفا بالمخاطر والصعوبات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.