تحدي الشفافية

تحدي الشفافية . الكاتب :إستير دايسون

undefined

إذن فنحن الأميركيين نعرف الآن. نعرف أن حكومتنا تتجسس ليس فقط على الأجانب، بل تتجسس علينا أيضا.

بطبيعة الحال، أغلب ما "تعرفه" الحكومة عنك "معروف" فقط بمعنى أن شخصا ما قد يطلع عليها إذا أراد أن يعرف المزيد عنك، أو إذا تطابقت بياناتك مع نمط ما، قيد الفحص أو التحقيق.

أي أن البيانات التي تجمعها الحكومة غير ضارة بشكل أو آخر إلى أن تستخدم مثل هذه المعلومات لغرض حقيقي، مثل وضع أشخاص على قائمة حظر السفر بالطائرات أو إيداع شخص ما قسرا أو غير ذلك، لأنه يعرب عن آراء "مثيرة للقلق" على الإنترنت. وهذا ليس سوى البداية.

وأنا شخصيا على استعداد -ولو على مضض- لتقبل تجسس الحكومة الأميركية على الناس، والأجانب بوجه خاص، ما دام الأمر مقيدا بقواعد عامة وملزِمة.

والواقع أن الحجة القائلة بأن "الآخرين يفعلون نفس الشيء" واهية، ولكنها أيضا صادقة، وعدم وجود حكومة عالمية تردع السلطة المسيئة، فهي ترغم الحكومات ولو بشكل منقوص على التنافس (ولو أنها تتواطأ غالبا)، وفي عالم غير مثالي فإن جزءا من وظيفة كل حكومة يتلخص في حماية مواطنيها من الأعداء.

الأميركيون يعيشون في دولة ديمقراطية، وفي الإجمال يبدو أن الرأي العام يدعم الرقابة من جانب الحكومة. والسؤال هو: كيف نمنع المراقبة من الانزلاق إلى منحدر التطفل غير الخاضع للمساءلة؟ المبدأ الأكثر أهمية هنا هو الشفافية: فمن الخطأ أن نكذب ونتظاهر بأننا لا نفعل ذلك

وبصرف النظر عن اعتقادي الشخصي فإن الأميركيين يعيشون في دولة ديمقراطية، وفي الإجمال يبدو أن الرأي العام يدعم الرقابة من جانب الحكومة. والسؤال هو كيف نمنع المراقبة من الانزلاق إلى منحدر التطفل غير الخاضع للمساءلة؟ المبدأ الأكثر أهمية هنا هو الشفافية: فمن الخطأ أن نكذب ونتظاهر بأننا لا نفعل ذلك.

الواقع أن بعض الأميركيين أرعبتهم مجرد فكرة قيام حكومتنا بأمر كهذا في الأساس، وهناك آخرون يتصورون أن الأمر يعتمد في الأغلب على من تبحث الحكومة عنهم ، فإن كانت تبحث عن إرهابيين فنعم، وإن كانت تبحث عن معارضين سياسيين فكلا وألف كلا، ولكن ماذا عن المراهقين المضطربين، والمشاغبين، والمجرمين المحتملين؟

إن الأمر ينطوي على قدر كبير من التمييز والاجتهاد، ففي الممارسة العملية لابد أن يكون حل مثل هذه المسائل مستندا إلى التدقيق العام المستمر والتفاوض.

ولكن ماذا عن الافتراضات التي نادرا من يشكك فيها؟ صحيح أن الوظيفة الأساسية للحكومة هي حمايتنا، ولكن الناس تموت في كل وقت، وبشكل غير عادل غالبا، وهناك حدود تقيد مدى الحماية التي نسعى إليها أو حتى نسمح بها.

فنحن نسمح للسيارات القاتلة بالسير على الطرق السريعة، ونترك الناس يموتون بسبب نقص الرعاية الطبية، ونتسامح مع جسور قد تنهار.

ولكن عندما يتعلق الأمر بالإرهاب، فلابد أن نعترف بأننا خلقنا جوا من الخوف الذي لا يتناسب على الإطلاق مع الخطر الحقيقي، فمنحنا الإرهابيين القوة بدون داع، وألحقنا الضرر بأنفسنا بلا ضرورة، وفي الكثير من الحالات يكون العلاج أو الاستجابة المناعية أسوأ من المرض ذاته.

فهل نريد استدعاء تدخل الحكومة في كل مخالفة محتملة؟ هل نريد للعالم أن يصبح آمنا من المجرمين، ولكننا في هذه العملية نسمح بالتعامل مع أغلب الناس وكأنهم مجرمون، ومراقبة كل حركة يقومون بها؟

لعلنا نهاجم الهدف الخطأ -الناس- في سعينا إلى السلامة، وربما كان من الأفضل أن نفرض سيطرتنا على الأسلحة.

في كل مرة تنتاب شخصا ما نوبة، فيطلق النار على الناس عشوائيا، نتساءل: لماذا لم يتم اكتشاف ذلك الشخص ومنعه قبل ارتكاب جريمته؟ ولكن الحق أنه كان من الواجب علينا أن نمنعه (هو والكثيرون غيره) من الحصول على السلاح في المقام الأول.

في الولايات المتحدة يخضع من يريد السفر بالطائرة إلى قدر من التحقق من هويته، أعظم كثيرا من ذلك الذي يخضع له إذا أراد شراء سلاح ناري، وهذا هو الجنون بعينه، فخطر الهجمات على الطائرات مبالغ فيه إلى حد كبير

وفي الولايات المتحدة يخضع من يريد السفر بالطائرة إلى قدر من التحقق من هويته أعظم كثيرا من ذلك الذي يخضع له إذا أراد شراء سلاح ناري.
 وهذا هو الجنون بعينه. فخطر الهجمات الإرهابية على الطائرات مبالغ فيه إلى حد كبير.
ومرة أخرى، إذا كان الناخبون يريدون أن تستمر الحكومة في التفتيش وراء المسافرين، فأنا لا أعترض (وخاصة إذا كان بوسعي أن أدفع القليل من المال وأن أضحي ببعض الخصوصية للسماح لي بالمرور عبر حارة مخصصة لتعجيل الإجراءات لمسافرين مفضلين).

ولكن الأمور التي تزعجني مختلفة. إن السلطة -بوجه خاص- السلطة المدمرة، تستلزم الاحتياج إلى الشفافية. أي أننا لابد أن نعرف عن حكومتنا أكثر مما تعرفه عنا.

فعندما يكتسب المواطنون السلطة، ولنقل من خلال وظيفة منتخبة، وهي الوظيفة التي تسمح لهم باتخاذ القرار حول من يحصل على ترخيص لبيع الخمر أو من يلقى القبض عليه وهو يحمل سلاحا ناريا، يصبح من حق عامة الناس أن يعرفوا المزيد عنهم.

وهذا هو السبب الذي يجعلني أكثر تخوفا إزاء ما تفعله الحكومة بما تحصل عليه من بيانات تتعلق بنا. فهل تقيد حريتي أو تمنعني من العمل في وظائف معينة؟ وهل تحد من حقي في التعبير بحرية أو تعاقبني بإلقائي في السجن؟ وهل تدقق في سدادي للضرائب بقدر إضافي من العناية؟

إن عدم المبالاة للحقيقة تقود إلى انعدام المساءلة، ولكن مجرد التعرف على الحقيقة لا يفضي -في حد ذاته- إلى المحاسبة.

والواقع أن العديد من الذين هللوا (وأنا منهم) للتسريبات التي كشف عنها عميل الاستخبارات الأميركية السابق إدوارد سنودن يتصورون أن المهمة قد أُنجزت.

ولكن هذا غير صحيح، إن السبب وراء أهمية الشفافية يرجع إلى حقيقة مفادها أننا لا نستطيع أن نحل كل المسائل مقدما. فلا توجد طريقة معقولة لتنظيم كل سلوك الحكومة، ولكننا نريد -لأنفسنا وللمبلغين-  الحق في اللجوء إلى القضاء والتحدث علنا إذا تعرضنا (أو أي شخص آخر) للظلم.

وأخيرا، في عالم شفاف، تصبح الثقافة في مقابل القانون، أكثر أهمية من أي وقت مضى كدليل إلى السلوك.

في بيئة من الشفافية، تصبح المساءلة أكثر أهمية. والواقع أن العديد من الأميركيين -وهذا من حسن حظهم- لا يملكون الخبرة اللازمة لفهم إلى أي حد أصبحت الأفعال المسيئة من قِبَل الأقوياء أو المؤسسات معروفة، ورغم ذلك لا يتخذ حيالها أي إجراء

وهناك اتجاهان يستحقان الاهتمام والتخفيف (ولكن ليس التنظيم أو السرية!). فأولا: تغطي الصحافة المآسي الإنسانية والإرهاب إلى الحد الذي يجعل خوف أغلب الآباء من الخاطفين أعظم من خوفهم من السائقين المتهورين، وأغلبنا يخشى الإرهابيين أكثر من خشيته من بناة المساكن المهملين، برغم أن الإحصائيات تشير إلى العكس، ففي الولايات المتحدة تتجاوز احتمالات الوفاة نتيجة للانتحار نظيراتها نتيجة للقتل.

ولكن الاستجابة الصحيحة هي المزيد من الشفافية (وبعض التطوير للعمليات الإحصائية) بشأن حقيقة بسيطة مفادها أن الأميركيين آمنون في الأغلب.

وثانيا: مع الشفافية نميل إلى رؤية المزيد من البشر في أسوأ حالاتهم. فنجوم السينما والساسة الذين يتصرفون بشكل سيئ يحرفون التصورات للقواعد المتبعة أو ما ينبغي أن يكون مقبولا، ومن الواضح أننا لا نستطيع أن نجرم كل أشكال السلوك السيئ، ولكن الناخبين والعملاء لابد أن يرفضوا مثل هذه السلوكيات.

في بيئة من الشفافية، تصبح المساءلة أكثر أهمية. والواقع أن العديد من الأميركيين -وهذا من حسن حظهم- لا يملكون الخبرة اللازمة لفهم إلى أي حد أصبحت الأفعال المسيئة من قِبَل الأقوياء أو المؤسسات معروفة، ورغم ذلك لا يتخذ حيالها أي إجراء.

وهناك شعور ساذج في الولايات المتحدة بأنه إذا كانت الأمور السيئة معروفة، فإن هذا يعني إمكانية منعها. ولكن الشفافية لا تفضي إلا إلى زيادة الوعي والقدرة على إدراك المشاكل، ويرجع الأمر إلينا أولا وأخيرا في اتخاذ الإجراءات اللازمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.