أين تتجه سوريا؟

أين تتجه سوريا؟

undefined

في 14 سبتمبر/أيلول 2013، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية وروسيا عن التوصل إلى اتفاق ينص على تدمير الترسانة السورية من الأسلحة الكيميائية في موعد لا يتعدى منتصف العام 2014. وأعلن حينها بأن هذا الاتفاق قد يُمهد الطريق لمؤتمر جنيف الذي أعلنت المعارضة رسمياً نيتها المشاركة فيه في رسالة بعثت بها إلى الأمم المتحدة، بعد خمسة أيام على التوافق الأميركي الروسي. وهذا مع ضرورة الإشارة إلى أن أطراف المعارضة لديها في الأصل مقاربات متعددة.

يمكن النظر إلى اتفاق الرابع عشر من سبتمبر / أيلول باعتباره نجاحاً تاريخياً للعلاقات الأميركية الروسية. وهو قد شكل من ناحية أخرى بوابة خروج من خيار الحرب. وقد يكون من جهة ثالثة بصيص أمل في مسار سياسي لم تتضح كامل معالمه بعد.

إن روسيا والولايات المتحدة أضحتا تعملان تجاه هدف إستراتيجي مشترك وذلك للمرة الأولى منذ فترة طويلة. والاتفاق بشأن الأسلحة الكيميائية السورية هو الإشارة الأولى الحقيقية لضخّ الحياة في المسار السياسي.

كافة القوى والفعاليات الوطنية داخل القطر وخارجه تبدو معنية بقراءة الاتفاق الأميركي الروسي، والتأمل في خلاصاته وإيحاءاته

والقضية الرئيسية الآن ليست هي أن حسابات الولايات المتحدة قد تغيرت، إنما تتعلق بمدى قدرة الأميركيين والروس على جلب الأطراف المختلفة إلى مائدة المفاوضات.

وقد أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري -وهو المبتكر الضمني للحل- أن الاتفاق قد يكون "أول خطوة ملموسة" نحو التسوية النهائية.

وهذا التصريح يشير مبدئياً إلى أن الولايات المتحدة في طريقها لمنح مزيد من الأولوية للمسار الدبلوماسي.

وقد قرأت الأطراف والقوى المختلفة الاتفاق الأميركي الروسي على نحو متباين. وليس هناك من قراءة واحدة مجمع عليها حتى بين الأميركيين والروس. وهذا يشير مبدئياً إلى أن الاتفاق لازال طور التبلور رغم ولادته الرسمية.

وفي حال كهذا، يبدو من الصعب الخروج بأية استنتاجات حاسمة أو نهائية على صعيد تأثيره الفعلي أو المحتمل على الواقع السوري إنْ في السياق الأمني أو السياسي.

وعلى الرغم من ذلك، نحن جميعاً معنيون اليوم بهذا المتغيّر الكبير، إذ لا سبيل لغض الطرف عنه أو إنكار مفاعيله ودلالاته البينة. كما أن أحداً منا لا يستطيع تجاهل اتفاق جرى التفاهم عليه على مستوى قمة النظام الدولي.

وانطلاقاً من ذلك، فإن كافة القوى والفعاليات الوطنية داخل القطر وخارجه تبدو معنية بقراءة الاتفاق الأميركي الروسي والتأمل في خلاصاته وإيحاءاته بما هو جزء من مقاربة أكثر اتساعاً لم تتبلوّر كامل بنودها بعد، إلا أن مضمونها العام معروف للجميع. وإذا أصبحنا سلبيين أو غير مبالين فإن مزيداً من الفرص سوف تذهب سدى، في حين تستمر معاناة شعبنا، وتزداد آلامه.

ودعونا الآن نطرح السؤال التالي: من المستفيد الأول من الاتفاق الأميركي الروسي؟ قال البعض إن الروس هم أول المستفيدين كون الاتفاق مثل اختراقاً دبلوماسياً نسب إليهم أو كانوا يبحثون عنه.

منذ العام 1993 بات المخزون الكيميائي السوري يشكل عبئاً سياسياً، ولم تكن هناك منافع أكيدة توازي هذا العبء

وقال آخرون إن هذا الاتفاق مثل فرصة ذهبية للسلطة السورية كونه جنبها حرباً بدت احتمالاتها متعاظمة في لحظة ما. وهناك فريق ثالث، رأى فيما حدث انتصاراً جلياً لإسرائيل، لأنه جرد السوريين من قوة ردع فعلية أو افتراضية.

قد تكون جميع هذه الاستنتاجات تحمل جانباً من الصواب بمعنى من المعاني، إلا أن لكل منها وجها آخر لا يجوز إغفاله. فهذا الاتفاق هو انتصار للعمل الأميركي الروسي المشترك بقدر كونه انتصاراً للروس أو الأميركيين على انفراد.

وصحيح أنه جنب دمشق جبهة عسكرية جديدة، لكن الصحيح أيضاً أن الخيار العسكري كان خياراً مأزقياً لكل الأطراف. وكان من المحتمل أن يقود إلى حرب إقليمية يخسر فيها الجميع ويكون شعبنا السوري أول ضحاياها. أما مقولة أن إسرائيل هي الرابح مما حدث حتى الآن، فهي مقولة افتراضية وحسب، بل وتحليلية إلى حد بعيد.

إن الأسلحة الكيميائية السورية مضى على تصنيع الجزء الأعظم منها أكثر من ثلاثين عاماً، وبات الاحتفاظ بها آمنة وفقاً للمعايير الدولية يُمثل مهمة شاقة ومكلفة.

كذلك، ومنذ العام 1993 بات المخزون الكيميائي السوري يشكل عبئاً سياسياً، ولم تكن هناك منافع أكيدة توازي هذا العبء.

وعلى صعيد مقولة الردع، صحيح القول إن الترسانة الكيميائية في سوريا تُمثل موازناً نسبياً للترسانة النووية في إسرائيل. بيد أن الصحيح في الوقت نفسه هو أن البيئة الجيوسياسية للصراع في الشرق الأوسط قد تغيّرت كلياً، إنْ بمعيار التحالفات السياسية أو دور الأسلحة التقليدية في الحرب وموقعها من معادلة الردع. وهذا أمر مفهوم على أي حال.

بعد ذلك، فإن السؤال الأهم هو: هل ربح شعبنا من الاتفاق الأميركي الروسي؟ قد لا يكون المواطن العادي معنياً على نحو مباشر بهذا الاتفاق، أو لنقل بسياقه التقني الراهن. بيد أن العملية الدبلوماسية التي بدأت به أو أعيد إطلاقها من خلاله يُرجى لها أن تُعبّد الطريق أمام حل بعيد المدى مجمع عليه وطنياً.

رغم إيفاد مجموعة من سفن روسيا إلى شرق المتوسط فإن البحرية الروسية ليس لها وجود جوهري هناك، أو أصول توازن الأسطول السادس الأميركي بأي حال من الأحوال

بداية، يجب أن نشير إلى أن الذهاب نحو الخيار الدبلوماسي كان قراراً أميركياً صرفاً، أو لنقل نتاج حسابات أميركية خالصة، وهو لم يكن إفرازاً لحرب باردة بين الأميركيين والروس، إذ أن مثل هذه الحرب إن وجدت لا تمنع التدخلات العسكرية ولا تحول دون الصراعات المسلحة في الأقاليم المختلفة.

وفي هذا السياق، من المفيد أن نلحظ أنه رغم إيفاد مجموعة من السفن الروسية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط فإن البحرية الروسية ليس لها وجود جوهري هناك، وليست لديها أصول توازن الأسطول السادس الأميركي بأي حال من الأحوال.

وقد يكون هدف الروس إعادة إمداد دمشق عسكرياً ولوجستياً من البحر في حال اندلعت مواجهة. وقد يهدفون أيضاً إلى تقديم دعم استطلاعي، وهذا هو الأرجح إن لم يكن قائماً في الأصل.

على صعيد النقاش الأميركي ذاته، واجه بحث الإدارة الأميركية للخيار العسكري معضلتين رئيسيتين: الأولى حساسية الجمهور الأميركي من التورط في حرب جديدة. والثانية، غياب اليقين حول القوة المطلوب استخدامها لتحقيق نتائج إستراتيجية أو كبيرة بثمن سياسي مقبول.

وبموازاة ذلك، كانت هناك خشية لدى الإدارة من أن ضربة عابرة قد تجعل الأمور أكثر سوءاً وتعقيداً.

باختصار، كانت المعضلة الماثلة أمام البيت الأبيض تتمثل في بلورة إستراتيجية تؤلف بين الأهداف السياسية بعيدة المدى، والإجراءات العسكرية المزمع اعتمادها.

ولقد جادل بعض المنظرين من أن استخدام القوة المحدودة يُمكن أن يكون فعالاً في بعث إشارة للطرف المعني، مفادها أنه سوف يخسر المزيد في التصعيد اللاحق إذا لم يرضخ.

هذه الفكرة التي تبدو بديهية بعض الشيء لم يُؤخذ بها في كثير من الحالات في زمن الحرب الفعلية، كما أظهر بحث لأستاذ العلوم السياسية يجامعة شيكاغو البروفسور روبرت بيب. ولذا، كان من الصعب من وجهة نظر البعض الذهاب إلى المواجهة استناداً إليها.

وعلى صعيد ثالث، جادل بعض الساسة والمفكرين الأميركيين بأن الأمر الأكثر أهمية ليس القول ما إذا كان الهجوم هو الشيء الذي ينبغي عمله، بل أين يقع ذلك في منظور القانون الدولي.

جادل بعض الساسة والمفكرين الأميركيين بأن الأمر الأكثر أهمية ليس القول ما إذا كان الهجوم هو الشيء الذي ينبغي عمله، بل أين يقع ذلك بمنظور القانون الدولي

وطوال عامي 2002 و2003، جادلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن بأن انتهاكات العراق لقرارات الأمم المتحدة الخاصة بالتفتيش عن أسلحته غير التقليدية تقدم مسوغاً قانونياً لتوجيه ضربة عسكرية إليه، إلا أن مجلس الأمن الدولي لم يصدر تفويضاً بذلك.

وهذا الجدال حمل بعض التشابه مع معضلة التدخل في كوسوفو عام 1998 الذي اضطلع به حلف شمال الأطلسي (الناتو)، دون تفويض من الأمم المتحدة، حيث اتهم نظام بلغراد بانتهاك قرارات مجلس الأمن. أما في حالة سوريا فلم تكن هناك مطالب محددة من هذا المجلس يُمكن الرجوع إليها والبناء عليها حتى من دون تفويض باللجوء إلى القوة.

على صعيد رابع، دار نقاش لا يقل أهمية عن سابقه ومفاده هل أن العمل العسكري يُعد وسيلة ملائمة لحماية السكان المدنيين ما دام هدف السياسة في نهاية المطاف هو حمايتهم. وهذه مسألة مختلفة عما إذا كان هناك ما يبرر التدخل من عدمه. وفي الأصل، فإن حماية غير المقاتلين من الأذى المتعمد هو الأساس الذي بنيت عليه معظم قواعد القانون الإنساني الدولي.

على صعيد الحيثيات الأخرى لخيار التدخل العسكري، ألمحت قيادات عسكرية في رسائل إلى زعماء الكونغرس بأن التدخل في سوريا قد يكون له تأثير مرحلي فحسب.

أما أعضاء الكونغرس أنفسهم فأشاروا إلى القلق من أنْ تُقدَم واشنطن مساعدة غير مقصودة للإسلاميين. ولكن حتى في حال التدخل، فإن السؤال التالي الذي فرض نفسه على الأميركيين هو ما إذا كان هناك أي شيء يُمكن للولايات المتحدة القيام به لتغيير مسار الأحداث على الأرض.

وما يُمكن قوله خلاصة -في سياق هذا التفصيل- هو أن مساراً دبلوماسياً قد انطلق الآن بتوافق أميركي روسي، والمطلوب إعطاء الدبلوماسية فرصتها الوافية. وهذه الدبلوماسية لا يُمكن مقاربتها مقاربة حسابية ولا تأطيرها بمقولات جامدة، ولا يصح أن تستثنى من حركتها أية قوة حية ومؤثرة.

وهذا التطوّر الدبلوماسي، لا بد من التعامل معه على نحو إيجابي وبناء، ولا يجوز لأي منا التشكيك في مسار لم يتم اختباره واستكشاف آفاقه.

هناك اليوم نافذة قد فتحت أو أعيد فتحها، بإرادة دولية وازنة، وعلينا كقوى وطنية أن نتأمل في آفاقها ونسعى لاستنفاد ما تأتي به من فرص قد توفر على الوطن المزيد من البلاء. وعلينا جميعاً الابتعاد عن منطق المزايدة، فأهلنا وحدهم من يُعاني ويتألم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.