استفتاء أبيي.. آخر العلاج

منى عبد الفتاح - استفتاء أبيي.. آخر العلاج

undefined

بوابة العنف
جدل بروتوكول أبيي
تحديات على مشارف الحل

ما زال سكان منطقة أبيي الغنية بالنفط يتلمسون الحلول المطروحة وهم يهيمون في أتون إعادة إنتاج الأزمة التي أبقت نصف منطقتهم في السودان ونصفها الآخر في دولة جنوب السودان، وذلك بدلا من طي المعضلة وحلها حلا جذريا.

وما يتوقعه سكان المنطقة من حسم نهائي للوضع في منطقتهم في شهر أكتوبر/تشرين الأول هذا، بإجراء استفتاء شعبي للوصول إلى نتيجة تبعية المنطقة إلى أيٍّ من السودانين، هو الحل الذي اقترحه رئيس الآلية الأفريقية الرفيعة المستوى التي يرأسها الرئيس الجنوب أفريقي السابق ثابو مبيكي وأمّن عليه مجلس السلم والأمن الأفريقي.

وما بين رفض السودان إجراء هذا الاستفتاء ورغبة دولة جنوب السودان، ينتصب سؤال عما إذا كانت هناك نقطة توافقية يمكن أن تقف عندها الدولتان لمصلحة سكان تلك المنطقة المنقسمين بين شماليين هم قبيلة المسيرية وجنوبيين هم دينكا نقوك.

ما بين رفض السودان إجراء الاستفتاء ورغبة دولة جنوب السودان، ينتصب سؤال عما إذا كانت هناك نقطة توافقية يمكن أن تقف عندها الدولتان لمصلحة سكان تلك المنطقة المنقسمين بين شماليين وجنوبيين

بوابة العنف
وبالعودة إلى أصول المشكلة فإنّ كلتا القبيلتين تتمسك برأيها في تبعية المنطقة لها. فأبناء قبيلة المسيرية ذات الأصول العربية في منطقتي كردفان ودارفور يرون أنهم انتقلوا في مطلع القرن الثامن عشر بسبب الجفاف إلى بحر العرب واستقروا هناك. كما يؤكدون أنّ المناطق الواقعة جنوب بحر العرب تابعة لهم منذ قرون عدة، وأن دينكا نقوك قادمون جدد.

في حين ترى قبيلة دينكا نقوك -أحد فروع قبيلة الدينكا التي تنتمي إلى الجنوب- أنّ رواية الرحالة براون تدعم رأيها، حيث قال في مذكراته إنه عندما زار المنطقة عام 1798م وجد مجموعة من الدينكا تسكن في المناطق المتاخمة لبحر العرب.

ويرى دينكا نقوك أنّهم سكنوا على ضفاف نهر الزراف ثم انتقلوا إلى مناطق بحر العرب قبل المسيرية.

ولا توجد وثائق تثبت أو تدحض زعم أيٍّ من الطرفين، ولكن من جانب آخر فإنّ تعريف منطقة أبيي من قبل محكمة التحكيم الدولية في لاهاي بأنّها هي المنطقة التي تمّ تحويلها من جانب واحد من قبل الإدارة الاستعمارية عام 1905م من الجنوب إلى الشمال حيث أحيلت فيه مشيخات دينكا نقوك التسع إلى إقليم كردفان، يعتبر بالنسبة للمسيرية وثيقةً تؤكد تبعية أبيي للشمال.

كما تستمسك قبيلة المسيرية برأيها بشأن مقترح تقسيم أبيي باعتباره يتنافى مع إعلان مبادئ الإيقاد والبروتوكول الذي يحدد الجنوب بحدود 1/1/1956م ، حتى لا توضع في خيار إمّا أن تكون مع الجنوب وإما مع الشمال.

دخلت منطقة أبيي ومنذ استفتاء جنوب السودان في دوامة من العنف الذي بدأت ملامحه في الظهور عقب اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) عام 2005م، حيث تصاعدت موجة المواجهات بين الجيش السوداني والجيش الشعبي لتحرير السودان حتى كادت أن تعصف باتفاقية السلام.

ومنذ ذلك الوقت أخذت موجة المواجهات في الازدياد وتحول الصراع إلى عنف بين مكوناتها المحلية المتنازعة على من له الأحقية بالأرض، وهي صدامات لم تخفف من حدتها جلسات الصلح بين الإدارات الأهلية ولا الدولية.

كان من المقرر أن تدار منطقة أبيي بعد توقيع اتفاقية السلام بواسطة مجلس تنفيذي منتخب من قبل مواطني أبيي ومدير تنفيذي تعينه الحكومة.

وبعد أن تنتهي فترة هذه الإدارة المؤقتة سيتعين على مواطني أبيي إما الاحتفاظ بوضع إداري خاص في الشمال وإما أن يكونوا جزءا من جنوب السودان.

ولكن رفض الحكومة وضع إدارة في أبيي ورفضها توصية لجنة حدود أبيي، حدّ من تطبيق بنود اتفاقية السلام الشامل وتدهورت الأحوال الأمنية والخدمية بالشكل الذي سرّع من تفاقم الصراع.

وبذا نجد أنّه على الرغم من أنّ اتفاقية السلام الشامل أنهت أكثر من عقدين من الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان فإنها وقفت عاجزة عن حل قضية أبيي، كما تركت مسألة تحديد وترسيم حدود منطقة مشيخات دينكا نقوك التسع دون حسم، مما فتح بابا لن يسهل سدّه ما لم يتوافق الطرفان على حل.

وبمثل التمازج القبلي في هذه المنطقة الذي استمر لقرون من الزمان، تتقاسم قبيلة دينكا نقوك وقبيلة المسيرية النشاطات الاقتصادية المختلفة، التي يغلب عليها نشاط الرعي.

كما تتشارك فيها إدارتان شمالية وجنوبية، قبل أن يتم الاستفتاء في أكتوبر/تشرين الأول الجاري لمعرفة إلى أيٍّ من الدولتين ستتبع المنطقة.

جدل بروتوكول أبيي
في سبيل إيقاف سيل الدماء المهدرة تم توقيع كثير من الاتفاقيات، ولكن ما إن يتم ذلك حتى تنزع الأطراف الموقعة إلى النكوص عنها لتعيد المنطقة إلى مربع الحرب الأول.

كان مقررا أن تدار أبيي بعد توقيع اتفاقية السلام بمجلس تنفيذي منتخب ومدير تنفيذي تعينه الحكومة، ولكن رفض السودان وضع إدارة في أبيي ورفضه توصية لجنة حدود أبيي، حدّ من تطبيق بنود اتفاقية السلام

ففي خضم توقيع اتفاقية كادقلى، التي تمت في 2011م بتكليف زعماء الإدارة الأهلية من قبيلتي المسيرية ودينكا نقوك التوقيع عليها، إلى جانب وزيري الداخلية بحكومتي الشمال والجنوب، تم حرق القرى وزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة.

هذه الأحداث الدامية التي شهدتها أبيي تجعل تساؤلا يلوح في الأفق عما إذا كان شعب أبيي غير راضٍ عن توقيع الاتفاقية، فباسم من وقّع وزيرا داخلية دولتي السودان وجنوب السودان إذن؟

كان من المفترض أن يتم الاستفتاء بالتزامن مع قيام استفتاء جنوب السودان في الأول من يناير/كانون الثاني 2011م ، إلا أنّ اشتراط الحكومة السودانية لمشاركة المسيرية في عملية التصويت، والخلاف على من يحق له المشاركة فيه، أدى إلى عدم إجرائه في وقته، وذلك رغم أن الجزئية الخاصة بحق تقرير مصير أبيي في اتفاقية السلام الشامل لم تنص على ذلك.

اقترح الاتحاد الأفريقي إقامة استفتاء أبيي في أكتوبر/تشرين الأول الحالي بمشاركة قبائل دينكا نقوك التسع والسكان المقيمين في المنطقة مع الاحتفاظ بالحقوق السياسية للمسيرية.

وعلى الرغم من أنّ هذا المقترح أتى من الاتحاد الأفريقي، فإنّ رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت يرى أنّ الاتحاد الأفريقي يدور حول فلك المقترح القاضي بتقسيم أبيي إلى جزء شمالي يذهب إلى دولة السودان وجزء جنوبي يذهب إلى دولة جنوب السودان، مما يعمل على تأخير الاستفتاء إلى ما بعد هذا التوقيت.

أما رفض الحكومة السودانية ممثلة في وزارة خارجيتها الاستفتاء على مصير منطقة أبيي في هذا التوقيت، فلأنها ترى أنّ الحلول المقترحة لأزمة أبيي خارج اتفاقية السلام وبروتوكول فض النزاع في المنطقة.

وبينما أكد الرئيس الجنوبي سلفاكير على إجراء استفتاء أبيي الذي اقترحته الآلية الأفريقية، طالب الرئيس السوداني عمر البشير بتكوين المؤسسات المحلية أولا قبل إجراء الاستفتاء والعمل على التوصل إلى تسوية دائمة.

تعتبر أبيي بالنسبة للحكومتين السودانيتين هي آخر مسارح الأرض الرابحة في علاقتهما التي تتراوح ما بين الشد والجذب، فإذا طبق مجلس الأمن والسلم الأفريقي مقترحه مدعوما بجهود المجتمع الدولي فإنّه سيكون بذلك قد نجح في تحويل أبيي إلى نقطة انطلاق لعلاقات جيدة بين دولتي السودان وجنوب السودان.

أما إذا تم تحويل ملف أبيي إلى مجلس الأمن فإنّ ذلك من شأنه أن يعيد المنطقة إلى الصراعات والانفلات الأمني مرة أخرى.

نقطة خلافية أخرى تبدت أواخر الشهر الماضي حين أصدر رئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت قرارا جمهوريا يمنح بموجبه العاملين في الدولة من أبناء منطقة أبيي إجازة مفتوحة، وذلك حتى يتمكنوا من العودة الطوعية إلى مناطقهم والعمل على التحضيرات اللازمة لإجراء الاستفتاء.

ولكن الحكومة السودانية رأت أنّ رئيس دولة الجنوب قد تجاوز بقراره هذا السودان، في الوقت الذي ذهبت فيه أصوات أخرى إلى أنّ تحديد الوضع النهائي لأبيي سيتم بموجب الفقرتين 41 و42 من برتوكول أبيي الذي يعتبر وضعه من اختصاص رئيسي البلدين.

على أن يسبق ذلك بأمور فنية تتمثل في تكوين المؤسسات المدنية وتكوين مفوضية خاصة تحدد إجراءات الاستفتاء وتوقيته وكيفية إجرائه وعرض هذه الترتيبات على برلماني الدولتين للمصادقة عليها.

وتركز الحكومة السودانية على أنّ البروتوكول انحاز لدينكا نقوك على حساب المسيرية، وأخذوا عليه إشارته للقبلية الحديثة وعدم تذكر ما كان في الماضي من تعايش سلمي بين القبيلتين.

تحديات على مشارف الحل
طال أمد مفاوضات أبيي واستعصى حلها لأن منطقة أبيي تتمتع بخصوصية كونها منطقة تمازج قبلي بين قبائل المسيرية الشمالية ذات الأصول العربية ودينكا نقوك الجنوبية ذات الأصول الأفريقية.

ساهم كل ذلك في إطالة أمد المفاوضات خلال الأشهر السابقة، وذلك حتى تتم الإحاطة بكل هذه التفاصيل التي يصعب على من هم خارج المنطقة استيعاب تعقيداتها ناهيك عن لجان الوساطة الأفريقية والدولية.

ومما زاد من تعقيد هذه القضية أيضا هو غنى المنطقة بالنفط والمعادن مما يجعل كلا من الطرفين يفكر ألف مرة قبل المجازفة برأي أو قرار من الممكن أن يؤدي إلى خسارتها بالكامل.

وفي الوقت الذي كان من الممكن أن تتبع منطقة أبيي إلى إدارات قريبة منها مثل إدارة ولاية غرب كردفان أو إدارة ولاية بحر الغزال، تمّ تفجير ذكر بند تقرير المصير في بروتوكول ماشاكوس عام 2002م وهو الذي أشعل فتيل المطالبة بهذا الحق، ليتحول من مطالبة إلى قبول بالتحكيم الدولي.

لكي لا تخرج أبيي من بين يدي الحلول السودانية أو الوساطة الأفريقية وتذهب بعيدا لتمكث تحت أعين مجلس الأمن والحماية الدولية، فالمنتظر تفعيل قرار إنشاء مفوضية استفتاء وإنشاء مؤسسات محلية للمساعدة في إجراء الاستفتاء

هذا التداخل في القضية هو الذي جعل استبعاد قيام استفتاء أبيي غير مرجح في وقته المحدد، وذلك نسبة للترتيبات الفنية التي لم تأخذ بعد موقعها من حيز التنفيذ. فلم يتم إلى الآن تكوين مفوضية للاستفتاء إلى جانب التحدي الأمني الماثل بالمنطقة، الشيء الذي يمكن أن يعيق عودة أبناء أبيي إلى منطقتهم للمشاركة في الاستفتاء حسبما قرر الرئيس سلفاكير.

هذا بالإضافة إلى تجديد الحكومة السودانية رفضها لإقامة الاستفتاء في توقيته وتمسكها بموقفها السابق المتمثل في عدم قبول السودان بأي استفتاء في منطقة أبيي من شأنه إقصاء قبيلة المسيرية من المشاركة.

والحال كذلك في منطقة تعتبر معبرا بشريا وجغرافيا بين دولتي الشمال والجنوب، فلا بد أن يصل مجلس السلم والأمن الأفريقي إلى تحديد صيغة توافقية بين موقفي الرئيسين البشير وسلفاكير بشأنها.

ولكي لا تخرج منطقة أبيي من بين يدي الحلول السودانية أو الوساطة الأفريقية وتذهب بعيدا لتمكث تحت أعين مجلس الأمن والحماية الدولية، فالمنتظر تفعيل قرار إنشاء مفوضية استفتاء ومن ثم إنشاء المؤسسات المحلية للمساعدة في إجراء الاستفتاء وكل ذلك في توقيت معلوم.

لا يزال الترقب هو سيّد الموقف فيما يمكن أن يُفضي إليه استئناف المناقشات بشأن الوضع النهائي لمنطقة أبيي على أساس مقترح الفريق الرفيع المستوى التابع للاتحاد الأفريقي.

وما زالت الآمال تراود الشعبين في بعث فقرة من بروتوكول أبيي جاءت ضمن اتفاقية السلام الشامل وتنص على أن تكون المنطقة جسرا بين دولتي السودان وجنوب السودان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.