السودان.. تنامي ظاهرة الاتجار بالبشر

السودان.. الصراع بين مؤسسات الحكم - الكاتب: منى عبد الفتاح

undefined

عوامل تنامي الظاهرة
وقائع الاتجار بالبشر
بين تحدي القوانين وضعفها

تم تصنيف السودان مؤخراً من ضمن الدول الناشطة في مجال الاتجار بالبشر حسب تأكيد د. كرار التهامي الأمين العام لجهاز السودانيين العاملين بالخارج. وقد كشفت لجنة التشريع والعدل بالبرلمان السوداني في مارس/آذار من العام الماضي 2012 عن ارتفاع معدل جرائم الاتجار بالبشر في السودان.

ويقوم سماسرة هذه التجارة بترحيل المواطنين إلى دول أخرى مقابل مبالغ مالية معينة يتم استلامها منهم مرة وممن يتم توصيلهم إليهم مرة أخرى، في استغلال كامل للراغبين في الهجرة بطرق أشبه ما تكون ببيع الرقيق. وفي هذا النوع من الاتجار بالبشر أو الرق الخفي قال القس الجنوب أفريقي ديزموند توتو، رفيق الزعيم الأفريقي نلسون مانديلا في النضال والحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984: "إنّ وجود عبيد في عصرنا الحالي أمرٌ لا يمكن تصديقه، لن يصدق أحد من الناس أنه في ظروف العالم المتحضر الحالية يعيش بيننا رقيق".

عوامل تنامي الظاهرة
قضية الاتجار بالبشر هي قضية اجتماعية اقتصادية، ولكنها أخذت بُعداً سياسياً صارخاً في الدول الأكثر نشاطاً في هذه التجارة. وربما آن الأوان لإعادة النظر في مقولة المفكر والسياسي والمؤرخ الفرنسي ألكسيس دي توكفيل: "إنّ إلغاء تجارة الرقيق هو قرار لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم، لن تجد في تاريخ البشرية أعظم من هذا الإنجاز". لأنّ الوضع يكاد يعود إلى ما كان عليه قبل مقولة دي توكفيل المتفائلة عام 1801 والمتأثرة بتحريم تجارة الرقيق دولياً في عام 1792.

وبحسب المنظمة الدولية لمناهضة العبودية فإنّ الاتجار بالبشر، أو كما تسميه أدبيات السياسة بالعبودية المعاصرة أو رقّ القرن الحادي والعشرين، يتضمن نقل الأشخاص بواسطة العنف أو الخداع أو الإكراه بغرض العمل القسري أو العبودية أو الممارسات التي تشبه العبودية.

بالرغم من قِدم نشاط الاتجار بالبشر إلا أنّه في العصر الحالي يتزايد بشكل مريع نسبة للعائد المادي السريع، حيث يحتل المركز الثالث من مصادر دخل الجريمة المنظمة بعد الاتجار بالمخدرات والأسلحة

وقد لا يحتاج الاتجار في الأطفال إلى توفر هذه الظروف، فإنّ مجرد استغلالهم لأداء عمل ما يُعتبر نوعاً من الاتجار حتى لو لم تتم ممارسة أي عنف أو خداع أو إكراه معهم ،لأنّ استغلالهم في حد ذاته يعتبر أحد أشكال الخداع. وفي نهاية الأمر فإنّ التجار يستخدمون العنف والتهديد وأشكال الإكراه الأخرى لإجبار ضحاياهم على العمل ضد إرادتهم، وتقييد حريتهم في الحركة والعمل بدون أجر أو بأجرٍ زهيد.

وبالرغم من قِدم نشاط الاتجار بالبشر إلا أنّه في العصر الحالي يتزايد بشكل مريع نسبة للعائد المادي السريع الذي قامت الأمم المتحدة بتقديره بأنّه يحتل المركز الثالث من مصادر دخل الجريمة المنظمة بعد الاتجار بالمخدرات والأسلحة. وتغذي الاتجار بالبشر عدة عوامل متشابكة مثل الفقر والحرمان وتدهور الحالة الاقتصادية والعطالة، والتهميش والتمييز ضد النساء، وعدم الاستقرار السياسي، وضعف القوانين التي تضع عقوبات غير رادعة على ممارسي التجارة مما يخلق مناخاً لممارسة الجريمة المنظمة، وعدم توفر معلومات وإحصائيات دقيقة عن حجم المشكلة وضحاياها والشبكات التي تديرها نسبة لمناخ السرية الذي تتم فيه التجارة.

وتكمن أهمية المعلومات الدقيقة والإحصائيات في أنّه لا يمكن إدراك مأساة الاتجار بالبشر، أو محاربتها، إلا بالمعرفة الدقيقة لعدد الضحايا والظروف التي أدت إلى استغلالهم وكيف يمكن مساعدتهم أو إنقاذ من هم في نفس الظروف من أن يصبحوا ضحايا جددا.

ويمثّل السودان بحكم موقعه الجغرافي معبراً وهدفاً للهجرة غير الشرعية خاصة من الدول الأفريقية، كما يُعتبر مصدّراً للهجرات غير الشرعية للمواطنين السودانيين إلى أوروبا وإسرائيل ودول الخليج. ولعل أسباب الهجرة تتسع في حالة السودان لتشمل بالإضافة إلى سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية وتأثير الحروب والنزاعات المسلحة على المواطنين أيضاً تفشي البطالة بين الشباب وتفاقم حالات الفساد في الحكم والإدارة، مما يحوّل الهجرة غير المنظمة وتهريب البشر إلى نشاط الاتجار بالبشر ويساهم كذلك في تنامي الظاهرة.

ولعلّ العوامل التي ساعدت السودان ليكون هدفاً للاتجار بالبشر هو طول ساحل البحر الأحمر على حدوده الشرقية والذي يبلغ حوالي 700 كلم، كما أنّ سلاح البحرية التابع للقوات المسلحة الذي كانت مهمته تأمين هذا الساحل، تم استبداله بشرطة الجمارك والأمن البحري بعد مجيء الإنقاذ ونقله إلى جنوب السودان بعد اشتعال الحرب هناك. ويسهّل طول الحدود البرية مع الدول المجاورة أيضاً، الدخول إلى السودان عبر بوابة التهريب والتجارة في البشر.

وقائع الاتجار بالبشر
تتعلق التجارة بالبشر بشكل عام لدى الكثير من الدول بمفهوم حماية حقوق الإنسان وحرياته وحفظ كرامته، أما بالنسبة للسودان فقد اتسع مفهوم الأمن الإنساني ليشمل الأمن الوطني الذي يمس الدولة والمجتمع والمواطن. وقد تجاوز المفهوم في حالة السودان بعده الإنساني ليحتوي إضافة لذلك بعداً سياسياً يتعلق بسيادة الدولة ومصالحها الحيوية، نسبة لتعقيدات عوامل ازدياد الظاهرة وتشابكها.

ومما يدل على ذلك أنّ هجرة الموت وفقدان الأرواح في البحار وسهول السودان المنبسطة تجيء من قصص علت أصواتها على التصريحات الرسمية التي تكتفي بالإشارة لوجود أصابع أجنبية. فقد أفصح تصريح معتمد إحدى المحليات بولاية كسلا شرق السودان في مايو/أيار 2011 عن وجود شبكات أجنبية تعمل بمعاونة سودانيين على تهريب البشر إلى إسرائيل عبر منطقة شلاتين بولاية البحر الأحمر. وضبط سلطات وادي حلفا بالولاية الشمالية مجموعات من الإثيوبيين والإريتريين تسللوا إلى داخل البلاد بمساعدة هذه الشبكات إيذاناً بترحيلهم  إلى إسرائيل وأوروبا.

وفي أغسطس/آب 2011 ألقت السلطات المختصة بولاية البحر الأحمر القبض على المتهم الرئيسي في قضية تهريب البشر، التي راح ضحيتها عدد من الأشخاص بعد أن غرقوا في البحر الأحمر جنوب مدينة سواكن الساحلية. هذا غير إحباط بعض محاولات التسلل عبر البحر الأحمر، وغير حوادث الاحتراق والغرق التي راح ضحيتها مئات الأرواح من السودانيين وغيرهم من لاجئي الجوار الأفريقي.

هجرة الموت وفقدان الأرواح في البحار وسهول السودان المنبسطة تجيء من قصص علت أصواتها على التصريحات الرسمية التي تكتفي بالإشارة لوجود أصابع أجنبية

ومحاولات أخرى في المدن المتاخمة للحدود الشرقية تدل على أنّ نشاط الاتجار بالبشر في السودان هو عمل منظم اكتملت أركانه على مدى سنوات. هذا بالإضافة إلى نشر تفاصيل سرقة أعضاء المتسللين إلى إسرائيل عبر شبه جزيرة سيناء بمصر، وغالبيتهم من المهاجرين السودانيين، حيث وردت في بعض الصحف معلومات عن قيام جماعات وعصابات مسلحة باحتجازهم ونزع أعضائهم بغرض بيعها وقتلهم إن دعا الأمر.

ومن التفاصيل أيضاً ما كشفته مجلة الأهرام العربي في عددها الصادر في أغسطس/آب 2012 عن بيع سودانيين في سوق للعبيد يقع في الطريق إلى ليبيا، حيث يتم احتجازهم وتعذيبهم إلى حين بيعهم. وتبدأ معاناة المواطنين السودانيين منذ تحركهم من العاصمة السودانية الخرطوم التي يغادرونها بعد دفع مبالغ مالية ضخمة للوسطاء الذين يمنونهم بمستقبل عملي باهر، مروراً بالقاهرة ومن ثم إلى السلّوم على الحدود المصرية الليبية. ولا تتضح لهم حقيقة خداعهم إلا بعد وقوعهم فرائس في أيادي عصابات الاتجار بالبشر المحصنة بالسلاح والمال، وبعد أن يكونوا فقدوا السبيل إلى الهرب أو الرجوع.

كل هذه الوقائع تدل على أنّ التجارة بالبشر تنشط كعمل منظم بالسودان بشكل لافت رغم الالتفاف حول تسمية هذا النشاط من بعض الجهات الرسمية.

بين تحدي القوانين وضعفها
تنتهك التجارة بالبشر كل القيم الإنسانية والدينية، وتناقض كذلك العديد من المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الطفل والمرأة وحقوق العمال المهاجرين وعمالة الأطفال، وتنافي كذلك بنود ميثاق الأمم المتحدة ضد الجريمة الدولية المنظمة لمنع وقمع ومعاقبة المتاجرين بالبشر، خاصة النساء والأطفال، الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2003.

توجد في القانون الدولي قاعدة قانونية صريحة لا يمكن تجاوزها تنص على حظر الاتجار بالبشر: "لا يجوز استرقاق أو استعباد أي شخص، ويحظر الاسترقاق وتجارة الرقيق بكافة أوضاعهما"، المادة (4) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وفي الوقت الذي توجد فيه لدى بعض الدول قوانين خاصة تمنع الاتجار بالبشر وتعاقب مرتكبيها، توجد دول أخرى يقف الفساد عائقاً في سبيل تطبيق القوانين بل يتغاضى المسؤولون عن تسمية هذه التجارة ومحاربتها.

وبينما تساعد هذه القوانين -في حال تطبيقها وتجريم كل أشكال الاتجار بالبشر- في تحقيق العدالة في المجتمع، تعمل بعض النشاطات الأخرى على إعاقة القوانين مثل عمل بعض المنظمات الإنسانية التي تحاول إنقاذ الضحايا بدفع فدية إلى التجار مقابل حريتهم، وبذلك يكون قد تم تخليص الضحايا ولكن تشجع الأموال التي يجنيها التاجر لشراء ضحايا جدد. وبهذا تكون قد ساعدت هذه المنظمات هؤلاء التجار بأن أعفتهم من العقاب بل كافأتهم بالفدية في الاستمرار في الحصول على ضحايا آخرين ضمن سلسلة استغلال للبشر بالخروج على القانون.

لا توجد في السودان قوانين رادعة للحد من مشكلة الاتجار بالبشر، وساهم هذا الوضع في تفاقم الظاهرة، فعدم فاعلية القوانين التي تنص على غرامات مالية وترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى بلادهم يمكّن أغلب الذين يتم تطبيق العقوبات عليهم -والتي لا تتجاوز الغرامة المالية- من العودة إلى نشاطهم مرة أخرى. كما يعمل عدم وجود رقابة على تسهيل هروب المعادين من المهاجرين غير الشرعيين من السلطات وتسللهم إلى داخل البلاد مرة أخرى.

وتكمن المشكلة المتعلقة بهذا القانون في أنّه لم يكن لدى السودان في الأصل قانون واضح لتعريف الاتجار بالبشر أو تجريمه، حيث يكتفى بما ورد في القانون الجنائي السوداني لعام 1991 من مواد تحمل نصوصها تجريماً للأفعال التي تقلل من إنسانية البشر، مثل الاستدراج والخطف والسخرة، أو استغلال الأشخاص الذين يتم تهريبهم في أعمال شرعية أو غير شرعية.

ولا يوجد الآن غير مشروع قانون منع الاتجار بالبشر لسنة 2012 الذي قدمه جهاز شؤون السودانيين العاملين بالخارج إلى البرلمان السوداني. وتم ذلك عندما نظم الجهاز ورشة عمل بالتعاون مع المجلس القومي حول مشروع قانون مكافحة الاتجار بالبشر، والذي نظم تحت شعار "معاً نحو هجرة راشدة ومجتمع خالٍ من الاتجار بالبشر"، حيث كشفت الورشة عن معلومات خطيرة حول ظاهرة الاتجار بالبشر والهجرة غير المشروعة وما يتعرض له السودانيون من خداع عبر هذه البوابة للهجرة.

لا توجد في السودان قوانين رادعة للحد من مشكلة الاتجار بالبشر، وساهم هذا الوضع في تفاقم الظاهرة، فأغلب الذين يتم تطبيق العقوبات عليهم -والتي لا تتجاوز الغرامة المالية- يعودون إلى نشاطهم مرة أخرى

وتأتي مواد القانون وعقوباته ضعيفةً مقارنة بتشريعات بعض الدول، حيث ينص على أنه يعاقب كل من يرتكب جريمة الاتجار بالبشر، حسب التعريف بالمادة (9) في الفصل الرابع، بالسجن مدة لا تقل عن عشرة أعوام أو بالغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه أو بالعقوبتين معاً.

وبالرغم من ضرورة تطبيق هذه القوانين إلا أنّه لا بد من دعمها بوضع إستراتيجية عملية لمواجهة النمو المتسارع للظاهرة، بمعرفة أبعادها أولاً ومن ثم اتخاذ المبادرات التي تساعد على الحل. وذلك لأنّ أبعاد القضية تتجاوز تحويل الإنسان إلى سلعة تخضع إلى غلبة القوة وتنامي مهددات الأمن الاقتصادي والسياسي، وتتجاوز فرص الحياة المتساوية والمتمثلة في العدالة الاجتماعية إلى هتك أمن الإنسان بالقهر والفقر والحرمان.

فسودان اليوم يتجرع كأس البؤس والفقر والنزاعات، ولا مفر من مواجهة هذه المشكلة والتصدي لها وذلك بإنشاء سياسات وطنية محفّزة ضد الفقر والبطالة لضمان العيش الكريم للأجيال القادمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.