النّاس إللي ضد ربّنا

النّاس إلي ضد ربُنَّا . الكاتب: مهنا الحبيل

 undefined

العنوان أعلاه هو عبارة صدرت في إحدى حلقات التغطية المثيرة لقناة الجزيرة عن الموقف من الدستور المصري وانعكاسات الشارع السياسي المصري عليه، ولماذا صوّت بـ نعم للدستور بغالبية 64%.

وهذه العبارة جاءت ضمن حوار بين أستاذين مصريين في القانون والفقه الدستوري أحدهما معارض بشدة للرئيس مرسي وللدستور وطرحه للاستفتاء، وبعد جولة نقاش ساخنة مع مذيع الجزيرة قال ممتعضاً من الصورة التي تجسدت عن المعارضة المصرية المشكلة من التحالف الثلاثي والحزب الوطني السابق، إنه سأل شقيقته الدكتورة المتعلمة المثقفة –وهي غير مؤدلجة وليست من الإخوان- لمن ستصوتين؟ فأجابت على الفور:
نعم للدستور، فسألها لماذا؟ قالت: لأن الجماعة التانيين دول ناس ضد ربُنا، كما تُنطق باللهجة المصرية الجميلة.

العمق العلماني بصفته الأيديولوجية كان حاضراً بعنف في المشهد المصري وخاصة فصل إسقاط الرئيس والحملة الإعلامية والسياسية عليه

والحقيقة أنّ هذا الرد الفطري المباشر يحمل عمقاً مهماً أفرزتُه الأزمة المصرية في الصراع بين الرئيس المؤيّد والمحتضن من الإسلاميين وبين خصومه العلمانيين، وبغض النظر عن اصطفاف فريق من الوطنيين أو التكنوقراط هنا أو هناك, فالحقيقة أن العمق العلماني بصفته الأيديولوجية كان حاضراً بعنف في المشهد وخاصة في فصل إسقاط الرئيس والحملة الإعلامية والسياسية عليه.

وهذا الانطباع المستوحى بأدلة واقعية من الساحة المصرية لا يُزكي بالضرورة كل تصرفات الإسلاميين وخاصة الإخوان، كما أشرنا لذلك في مقال ساب , لكنّهُ بتوثيق مهني صرف كبرنامجٍ مرصودٍ على الأرض انعكس فيه المشهد المصري في كل انكساراته, وهو الأيديولوجية العلمانية الخائفة والشرسة في مواجهة مشروع الأسلمة أو الدمقرطة خارج كل تاريخ الحركة العلمانية في مصر التي هيمنت على الحياة السياسية والثقافية عقوداً في صفوف المعارضة أو حزب الحكم منذ العصر الملكي وحتى نهاية حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك, مع وجود شخصيات وموقف وطنية ونضالية من هذه المعارضة كافحت للاستقلال وللحق الدستوري, لكن بقيت هذه القوى قلقة وممتنعة من مسألة الإقرار ولو كمصطلح بمرجعية الشريعة أو بمجرد مشاركة الإسلاميين ولو لم يُغيّر من واقع الحق الدستوري بل وحتّى لو عزّز الشراكة الشعبية.

وهنا نحن نعرض لهذا الملف لتحديد أزمة الحرب الفكرية الشرسة في مصر والتساؤل عن إمكانية تفكيكها كونها مأزقا رئيسا في الاستقرار السياسي والدستوري لمصر, وما نعنيه بصورة مباشرة أنّ جزءا ليس باليسير من هذا الصراع في حقيقته ليس مخاوف على الحياة الوطنية التي تضمن المشاركة الشعبية، ولكنه بالفعل رعب من انقضاء تلك الحياة الفكرية والثقافية والسلوكية التي عاشتها النخبة الثقافية المصرية ومعها شارع اجتماعي مؤثر من الأقباط والمسلمين معاً.

وهنا يبدو واضحاً من رصد مواد التلفزة المصرية المعارضة للإسلاميين ومقالات نُشرت لهذه النخبة أن خصوم الرئيس توغلوا في منطقة خطرة بالفعل في مواجهة النص الإسلامي، والسخرية من أصل الفكر الإسلامي وليس قرارات الرئيس فقط, وبرغم محاولة بعضهم تغيير هذا النمط بتصريحات دفاعية عن الشريعة إلاً أنّ مجمل التغطية كان يتفق مع مخاوف السيدة المصرية وملايين المصريين التي عبرّت عنها بلا تردد بأنهم أُناس "ضد ربُنا".

فهل هم بالفعل ضد الله وفكرة الخالق وشريعته لخلقه التي يُستخلف بها الإنسان لعمارة الأرض وصلاح شأنه الدنيوي؟ الحديث هنا عميق وواسع ويحتاج إلى ندوات وليس إلى محاضرة فضلاً عن مقالة ولكن مجمل الأمر أن هناك من يرفض الإسلام كرسالة بالفعل ويرفض الاعتراف بالوطن العربي الذي تشكل بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ويرى التفسير القومي المتطرف والانتداب الإنجليزي له, وهناك من يؤمن بهذه الرابطة الروحية والدينية، لكن يحمل إرثاً صعباً من الإسلاميين ومترسخة لديه فكرة لها رصيد من الواقع بأن اللافتة الإسلامية تُخفي وراءها عجزاً في الوعي السياسي وانتهازية من قبل بعض الإسلاميي،ن لكنه يُعمّم ويُسرف في التحريض والتفسير.

الحركة العلمانية المصرية فشلت في إيجاد مقاربة سياسية واقعية مع ما كان يصدر منها وخاصةً فريق المعارضة في عهود ما قبل الثورة 

لكنّ المؤكّد أن الحركة العلمانية المصرية فشلت في إيجاد مقاربة سياسية واقعية مع ما كان يصدر منها -وخاصةً في فريق المعارضة في عهود ما قبل الثورة أو في الحوارات الفكرية مع الإسلاميين- من أنها لا تعارض فكر الشريعة الدستوري ما دام يضمن الحقوق الوطنية للمجتمع ويعزز الشراكة الشعبية, وكان واضحاً عدم استعداد هذا الفريق وانفعاله وتوتره لمناقشة هذا الفقه والفكر من زاوية مصالح الشعب الدستورية وتقدمه الوطني, وحتّى مع الاستدلال ببعض المواد كان واضحاً عمق الرفض للدستور دون البحث الموضوعي في كفاءة مواده وعدالتها أسوةً بالدساتير الماضية أو مواثيق الدول الأُخرى.

وهنا شعرت المعارضة العلمانية ما بعد الثورة في لحظة أزمة تاريخية أنّ بأس العهد السابق أهون من ربيع الإسلاميين حيث كان بعض هتاف الاتحادية يقول (أوعى ترحل يا بشّار) في إشارة خطيرة لمعارضة الثورة السورية خشية من مصير مصر الدستورية!! وصحيح أنّ المعارضة ليست كلها بهذا النَّفَس ولكن كان هناك تأثير غالب لهذا الخوف, وهو الذي دفع جمهورها الثقافي لتأييد خطوات د. البرادعي من دعوة الغرب أو الجيش لدعمهم وحسم حياة الرئيس مرسي السياسية لصالحهم, وإن كان هذا لا يُلغي أنّ هناك مخاوف على الحريات والمواطنة الدستورية من قبل حركة المعارضة التي تشكلت بعد الثورة, لكن كان واضحاً حجم تأثير مخاوف لتصورات عن الحياة الإسلامية الجديدة عليهم واستغلال الدعم الخارجي الضخم والهيكل الفلولي القوي في الإعلام والبنية السياسية القديمة لمخاوفهم والزج بهم إلى أقصي عداء للساحة الإسلامية بما فيها تبرير أو تمرير قَتل شباب الإخوان وبالتالي رفض الخيارات الشعبية الدستورية وغيرها.

ومع النتائج المروعة التي حصدتها هذه المعارضة إثر رد الفعل الشعبي المصري على تطرف رفضها وتصعيد عبارات المس بالقيم الإسلامية والسخرية المجنونة ذات اللغة الوقحة تُجاه الرئيس أو أي نموذج سياسي ولد من الساحة الإسلامية , فإنّ هذه الحركة عليها كمنطق مجرد مراجعة هذه الفكرة التي ضُخمّت كثيراً حتى صدقها من أطلقها, وتصريح أو عثرة من هذا الشيخ أو ذاك في ساحة فكرية متعددة كمصر لا تعني هذا التفسير السطحي بأن مصر ستتحول لخندق ديني مغلق يطاردهم.

الإخوان أمام اختبار التاريخ وإثبات أن ما كانوا يقولونه في المحاضرات وفي أفق النهضة والمشروع التجديدي الإسلامي هم قادرون على تطبيقه في الميدان

غير أن الحركة العلمانية أيضاً أمام تحد صعب في قبول خيارات الشعب الجديدة والتي يرى أنها يجب أن لا تُصادم النص الإسلام , وفرق كبير جداً بين نظم وشرائع لا تُصادم الشرع المطهر وتسير بمصالح النّاس وبين نماذج نُظُم تُصاغ بفقه ديني قاصر منعزل عن إدراك فقه الشريعة ومصالحها وسماحتها، وهو ما يُستبعد أن يُصاغ في مصر الأزهر الشريف وحركة الوعي الإسلامي التقدمي.

وهنا يتحوّل جزء من المسؤولية الآن للفريق الإسلامي، وخاصة الإخوان، أمام اختبار التاريخ وإثبات أن ما كانوا يقولونه في المحاضرات وفي أفق النهضة والمشروع التجديدي الإسلامي بالشراكة الوطنية وكرامة الإنسان وتعظيم حقه ومساحة المختلف المقبول في الحياة المدنية , بأنها كلها من ثقافة الشريعة بحسب خطابهم, فعليهم أن يُثبتوا ذلك في الميدان التطبيقي لا أن يعظوا فقط، وعلى خصومهم أن يمنحوهم التجربة ويردوا عليهم وفق السياق الذي اختاره الشعب دستوريا، وسيجدون في الفقه الإسلامي الحقيقي الحر ما يُحاجج به كل مثقف هذا الرئيس أو ذلك الحزب ويُدافع أمامهم عن الحق الشعبي الدستوري والسياسي, لتحقق مصر نهضتها بوحدتها. ومن تولى ليطعن خاصرتها من علمانيين كرهوا الإسلام في شعب مصر أو إسلاميين استطالوا على حرية الناس وكرامتهم بسلطتهم, فإن الله لا يصلح عمل المفسدين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.