في ذكرى الثورة.. دروس وعبر

في ذكرى الثورة.. دروس وعبر - سهيل الغنوشي

 undefined

ما هي الدروس والعبر التي حملها الربيع العربي، ولماذا تعثّر وتوقّف انتشاره؟ وما هي أهداف الثورة ومعايير نجاحها، وهل تحققت؟ هل غاية الثورة إسقاط النظام وحرية التنفيس والاحتجاج؟ لو استقبل السوريون من أمرهم ما استدبروا، هل كانت الثورة ستدخل هذا النفق المظلِم بعد البداية الملْهِمة، وترتفع كلفتها إلى هذا الحد؟ ألم تتضرّر سوريا من عجز السياسيين وأخطائهم الفادحة والمتكررة في تقدير الموقف المحلي والدولي (كالاستهانة بالنظام والمراهنة على السيناريو الليبي). بصرف النظر عن سيناريوهات الختام، هل تنتظر سوريا إلا مثل مصير العراق؟

ما هي أسباب التخبّط والمراوحة  في بلاد الربيع العربي، ومن المسؤول؟ هل تعجّل الإسلاميون في تونس ومصر في الاندفاع بقوة نحو الحكم؟ إلى متى يستمر تبرير الإخفاقات بتآمر الفلول وثِقل التّرِكة وتعويق المعارضة وطبيعة المرحلة الإنتقالية؟ ألم ينسف نجاح التجربة التركية وإنجازاتها والازدياد المضطرد في شعبية الحزب الحاكم كل تلك المبررات؟ أليس أداء الحاكم وخطابه وأسلوبه ما يؤجّج أو يخفّف الاستقطاب والاحتقان ويعزل المُعَوِّقين أو يُعطيهم الفرصة؟

لماذا أصبحت ذكرى الثورة تمرّ باهتة (كالأعياد الوطنية سابقا) لا يكاد يحتفل بها إلا الأحزاب الحاكمة، بل وتتحوّل إلى مناسبة للاحتجاج؟

لماذا هذا الانخفاض الكبير في نسبة المشاركة في الاستفتاء على الدستور المصري؟ هل انخفاض شعبية الإسلاميين بعد الحُكم أمر طبيعي أم بسبب الأداء والخيارات؟ هل أن إنفاذ دستور وانتخاب برلمان في تونس ومصر سيفرّج الأزمة؟ لماذا يتزايد الشعور بخيبة الأمل وأن شيئا لم يتغيّر، وتزداد المقارنات بين العهد القديم والجديد؟ لماذا أصبحت ذكرى الثورة تمرّ باهتة (كالأعياد الوطنية سابقا) لا يكاد يحتفل بها إلا الأحزاب الحاكمة، بل وتتحوّل إلى مناسبة للاحتجاج؟

متى يحترم الساسة العرب عقول الناس؟ ومتى يتجاوز الخطاب السياسي العربي عقدة الاضطهاد والهوس بالسلطة وبنظرية المؤامرة وشيطنة المخالف ليركز على الإنجازات والتشخيص والعلاج؟ لماذا هذا الانقلاب في الخطاب والممارسة والموازين بمجرد الانتقال من المعارضة إلى السلطة؟ ولماذا لا تجد بعض الحكومات من إنجازات تَعدّها سوى المنّ على الشعب بحريته التي انتزعها بنفسه؟

لا شك أن ما يحدث لا يمتّ بصلة لما حلمت به الشعوب، وانتظرته من الثورة ومن الإسلاميين رغم أن الشعوب كانت مستعدة أن تتحمل وتصبر على آلام العلاج لو لمست من حكامها شفافية وحرصا وحزما وتواضعا ولو كانت الرؤية واضحة والأداء مقنعا. وما يبعث على القلق أكثر من التخبّط والإخفاقات ضياع المصداقية والهيبة والثقة (فلا أحد يُعتدّ به أو بقوله)، والتشابه المتزايد مع العهد البائد في الخطاب (الذي ظل إنشائيا منفصما عن الواقع) والاستمرارية في السياسات الاقتصادية والخارجية بل والداخلية "وكأن ثورة لم تقم، وكأن نظاما لم يسقط".

مآلات الثورة إلى حد الساعة غير مطمئِنة، فلا أحد يتمنى لبلده مأساة سوريا، ولم يتمخض الربيع العربي عن تجربة جاذبة وواعدة، ولكن الشعوب والحكومات العربية لا يسعها إضاعة هذه الفرصة النادرة لإحداث التغيير المنشود، فقد رُفِعت الحصانة عن القمع واكتسبت الشعوب سلاحا مضادّا للتعتيم، فأصبحت الأنظمة مكشوفة، ولم تمرّ على البلاد العربية مثل هذه الفرصة منذ الاستقلال، وما أكثر أوجه الشبه بين لحظة الثورة ولحظة الاستقلال.

والأمل ألا تلقى الثورة على الاستبداد نفس مصير الثورة على الاستعمار، حيث استرخى الشعب بمجرد إجلاء المحتل وسلّم أمره لنخب خذلته، فلم يثمر الاستقلال الدولة المنشودة ولا النهضة الموعودة، فعاد الاستعمار من الشباك وتشكّلت وترسّخت تدريجيا منظومة الاستبداد والفساد والتبعية والتخلف التي قامت ضدها الثورة، والخشية أن تستمر التبعية ويعود الاستبداد من الشباك فتتشكل تلك المنظومة من جديد فتنتكس الثورة ولا تثمر التغيير المنشود.

وما بين الاستقلال والثورة قامت في وجه الاستبداد أحزاب وحركات معارضة لم تنم نموا طبيعيا بسبب القمع والتهميش. اضطرت للعمل السري فغلبت الانضباط التنظيمي والنشاط الحزبي، وتكررت صداماتها مع النظام صراعا على السلطة ودفاعا على النفس، فلم تسعفها الظروف لأن تتطور وتنفتح وتدير شؤونها بشكل ديمقراطي مؤسسي وتقيّم أداءها بانتظام فلم تفرز قادة مجتمع ولم تلتحم بالشعب. فلم تتشكل في المجتمع ثقافة مواطنة ولا ثقافة حوار ولا تقاليد للانخراط في الشأن العام أو آليات لإدارة الخلاف، ولم ينم لدى المواطن التفكير المستقل النقدي الإبداعي، ولم ينم لديه الحس الرسالي ولا الحس الوطني ولا الحس الإنساني ولا حتى الطموح الشخصي (فأنى يكون النهوض)، فظلت أمراض الاستبداد والتخلف تتفاقم بلا علاج.

ليس من الإنصاف ولا من الواقعية انتظار تحقيق أهداف الثورة على يد جيل من السياسيين المخضرمين لم يمارس الحرية والديمقراطية ولم يتعود على العمل في العلن والعمل المشترك ولا على التداول على السلطة لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهذا جيل نشأ مضطهدا في ظل استبداد متفشّ في كل مفاصل المجتمع ويلاحق الإنسان من المهد إلى اللحد في البيت والمدرسة والشارع والعمل والإدارة، ولأن الاستبداد مُعْد، أصبح الكل –إلا من رحم ربي– منخرطا في الاستبداد ممارسا وخاضعا، فانتشر في المجتمع القابلية للاستبداد وإلْف التخلف، وفرّخت العقليات والممارسات الدكتاتورية والملتوية أمراضا متكاثرة أصابت النفوس والعقول وانعكست سلبا على الاهتمامات والطموحات والسلوكيات والمعاملات، وتكيّف الناس مع الاستبداد بالتملق والرشوة والتلوّن مما لوّث النفوس والأخلاق وبلّد العقول وأوهن الإرادة فتبخر الصدق والنخوة والإتقان والإبداع وتميّعت المواقف والعلاقات وتفكك المجتمع ثم الأسرة، والنتيجة انحطاط شامل ومضطرد.

لا توجد في البلاد العربية قيادات وأحزاب يعتمد عليها لتحقيق النهوض والإصلاح, فالمصلحة الحزبية فوق كل اعتبار، والدولة غنيمة والديمقراطية مجرد آلية وطريق للوصول للحكم

وبالرغم من كل ذلك قامت الثورة بعد أن اهتدى الشعب بفطرته إلى طريقة مبتكرة في التغيير لا تحتاج إلى قيادة، ثم انتشرت بسرعة بين الدول فاختلفت مساراتها ومآلاتها وحملت العديد من الدروس والعبر لعل أهمها:

– إذا الشعب يوما أراد الحياة (أي الحرية والكرامة) فلا يمكن لسلطة أن تخضعه أيا كان بطشها ومكرها وحلفاؤها.

– الأنظمة العربية قائمة على الرعب الذي بثته في النفوس، فإذا كسر الناس حاجز الخوف ورفضوا الظلم والذل انكشف النظام واهتز.

– التغيير في البلاد العربية أصبح ضروريا وحتميا، وهو قادم عاجلا أم آجلا بشكل أو بآخر.

 – النموذج التونسي والمصري غير قابل للتكرار، وعلى كل شعب أن يبتكر طريقة في التغيير تتناسب مع ظروفه.

– لا توجد في البلاد العربية قيادات وأحزاب يعتمد عليها لتحقيق النهوض والإصلاح. فالمصلحة الحزبية فوق كل اعتبار، والدولة غنيمة والديمقراطية مجرد آلية وطريق للوصول للحكم، والمواطنة والحريات والدولة المدنية وحياد الإدارة شعارات لا يصدقها العمل.

– ثورة من دون قيادة ولا مشروع سقفها أن تسقط نظاما وذلك أصبح عالي الكلفة.

– أخطر ما يصيب الثورة الاقتتال والتدخل الخارجي، واسترخاء الشعب والصراع على السلطة قبل الأوان، وتلك أسباب انحراف الثورة أو تعثرها أو انتكاسها. 

– إسقاط النظام وفّر مطلبا واضحا محفّزا وموحّدا للشعب ساهم في انطلاق الثورة وانتصارها. لكن الخلل في تحوّل إسقاط النظام إلى غاية الثورة ومعيار نجاحها: فإن سقط النظام استرخى الشعب وبدأ الصراع على السلطة والغنائم قبل الأوان فحلّ الشلل والفوضى، وإن "صمد" النظام سقطت البلاد في الاقتتال والتدخل الخارجي وأصبحت مسرحا للأجندات الخارجية وربما الحرب بالوكالة. والنتيجة دمار ومزيد من التبعية. ثم إن ربط التغيير بإسقاط النظام يعني القبول بالوضع الراهن بالنسبة لشعوب قد لا ترغب في المغامرة خاصة في ضوء التجارب غير الجاذبة.

– الثورة تنتصر إذا كانت شعبية (وليست نخبوية) وطنية (وليست فئوية) وسلمية، ولا ينخرط فيها الشعب بكثافة إلا إذا كانت مطالبها وغاياتها واضحة وعامة تهمّ عموم الناس.

– التغيير بداية برأس الهرم أو محاولة تغيير الأوضاع بمعزل عن تغيير النفوس والعقول وهْم ولا يختلف كثيرا عن البناء بداية من السقف. فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولقد أثبتت التجربة أن التغيير الفوقي، أيا كانت الطريقة التي يتم بها، هو في النهاية انقلاب يستبدل دكتاتورية بأخرى (ولو بعد حين) قد تختلف في طبيعتها وفي درجة الخشونة والقبح، هذا إن سلمت الدولة من الانهيار أو التقسيم، إلا أن تتصدى لذلك ثورة شعبية واعية ومستمرة. 

الخلاصة أن التغيير لا ينبغي أن يرتبط بإسقاط النظام بأي طريقة وثمن بل ينبغي أن يقترن بالهدف الأصلي: انتزاع الحرية والكرامة كشرط للإصلاح والنهوض، وذلك من خلال عمل شعبي وطني سلمي لا يتوقف ولا يحيد، فلا عنف أو دمار أو تدخل خارجيا، ولا استرخاء قبل تحقيق الأهداف ولا صراع على السلطة قبل الأوان، ولا رايات ونزعات حزبية وفئوية قبل انتصار الثورة وقيام الدولة. فالتغيير ينبغي أن يقترن بأهداف كبرى واضحة ويلتزم بضوابط صارمة وخطوط حمراء لا ينبغي تجاوزها تحت أي ظرف، فلا تتداخل الغاية مع الوسيلة ولا تبررها، ولا تستبدل دكتاتورية بأخرى أو بالفوضى، ولا تتكبّد الشعوب والأوطان كُلفة عالية.

إن التغيير المنشود تغيير شامل ومستدام الإنسان محوره ووسيلته، وغايته التحرر الكامل والنهوض الشامل، ويبدأ بانتفاضة نفسية وعقلية (كتلك التي أحدثها الإسلام في معتنقيه الأوائل) تستأصل جذور الداء: الوهن الناجم عن غياب رسالة حياة وطموحات كبرى وضعف الإرادة والحس الوطني. أن يصبح للإنسان رسالة حياة تصب في خدمة وطن وتسمو طموحاته واهتماماته ومعاملاته، فيصبح النهوض بالنفس وبالوطن وخدمة الصالح العام الشغل الشاغل وتصبح المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.

أوضاع تونس لا تسرّ وعلى قدر فرص النجاح جاءت خيبة الأمل، فطالت الفترة الانتقالية وساد الارتباك نتيجة الصراع المبكر على السلطة والتداخل الخطير في الصلاحيات والمسؤوليات

ولقد استفاض القرآن في توصيف أمراض إلف الاستبداد من خلال قصة بني إسرائيل، وعلى رأسها الحرص على حياة أيّ حياة، وذلك هو الوهن الذي عده الرسول (صلى الله عليه وسلم) سبب الانحطاط، ولذلك لم تنتفض الشعوب إلا بعد أن قرنت الحياة بالحرية والكرامة وتبنّت منطق "الموت ولا المذلة" الذي أصبح شعار الثورة السورية، وبمثله صرخ باتريك هنري، أحد الآباء المؤسسين لأميركا، "إما أن تمنحني حريتي أو الموت"، وكذلك قال المتنبي "عش عزيزا أو مت وأنت كريم". فالناس يولدون أحرارا وعليهم أن يستميتوا في الدفاع عن حريتهم وكرامتهم كما يستميتون في الدفاع عن النفس.

إن التغيير المنشود لن يتحقق إلا على يد الجيل الذي ينشأ نشأة سويّة ويَشب على الحرية. مطلوب عدم حرمان هذا الجيل من فرصته وذلك بالتوعية والتحفيز والتأطير الوطني وبالعمل على قطع دابر الاستبداد وإزالة مخلفاته في الحياة العامة والخاصة وفي النفوس والعقول. مطلوب أن تصبح لدى الشعوب حساسية وفوبيا ضد الاستبداد (استبدادوفوبيا).

وبصرف النظر عن نوايا مرسي وحُججه ومدى اختراق الفلول للاحتجاجات فإن رفض إعلان دستوري منح الرئيس صلاحيات واسعة رغم افتتاحه بمطالب ثورية غالية، يبقي الأمل كبيرا في وعي الشعوب وحصانتها ضد الاستبداد، وكذلك الحراك الشعبي المستمر في عدد من البلدان العربية وإصرار الشعب السوري غير المسبوق على التحرر بالرغم من المجازر البشعة وعسكرة الثورة والتآمر.

أما تونس فأوضاعها لا تسرّ وعلى قدر فرص النجاح جاءت خيبة الأمل، فطالت الفترة الانتقالية وساد الارتباك نتيجة الصراع المبكر على السلطة والتداخل الخطير في الصلاحيات والمسؤوليات، ففترت الثورة وأّرْهِق المواطن وعزف عن الشأن العام. لكن الشعب الذي أبهر العالم بثورته قادر على إنقاذها واستكمالها حتى تحقيق أهدافها.

لقد فتحت الثورة الباب للإصلاح المنشود في كل البلاد العربية، إصلاحا لا يُطلب من نظام ولا يُنتظر من أحزاب، بل يصنعه جيل الثورة والنهضة بأيديهم من خلال ترجمة شعارات الثورة إلى سلوك يومي متمسّك بالحقوق رافض للذل ومقاوِم للقوانين الجائرة وللظّلم وإلى انخراط واع وفعّال في الشأن العام لفرض أجندة وطنية ومنع الاستبداد من الاستمرار أو العودة، وتهرئة مرتكزاته وإزالة مخلفاته من دون اقتتال أو دمار أو تدخل خارجي أو فوضى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.