تداعيات المشهد العربي على فلسطين

العنوان: تداعيات المشهد العربي على فلسطين ومستقبل الصراع - : نواف الزرو

undefined

فلسطين في الوعي الجمعي العربي
فلسطين في ظل الثورات العربية
استنفار صهيوني وأولويات فلسطينية

فلسطين هي البوصلة دائما.. فإن أردت أن تعرف خطورة الحدث والموقف فانظر إلى أنياب العدو، وأنياب العدو أخذت ترتجف منذ بدايات الثورات والحراكات الشعبية العربية، فكان هناك لديهم: خوف.. وفزع.. وقلق.. وهواجس الوجود، خوف من فقدان "كنوز إسرائيل العربية" التي نجحوا في تحقيقها ومراكمتها على مدى أربعين عاما، وقد فقدوها، وفزع من احتمال عودة العروبة والوحدة العربية -الشعبية- للمشهد، وقلق من احتمال الإمبراطورية الإسلامية القادمة.

وقد استحضر هذا لديهم بسرعة هائلة هواجس الوجود والمستقبل، فأعلنت الدولة الصهيونية حالة الاستنفار والنفير، وأخذت العيون الصهيونية تتابع الأحداث والتطورات، عين صهيونية على الجنوب، وأخرى على الشمال، واليد على القلب من الداخل الفلسطيني، الذي -وفق التقديرات الإستراتيجية الصهيونية- سيفجر انتفاضته المقاومة الشاملة عاجلا أم آجلا، خاصة أن رياح الثورات العربية ستهب على فلسطين، التي كانت دائما وأبدا ملهمة العرب في ثوراتهم وانتفاضاتهم، والمسألة مسألة وقت وتوقيت، فما دام هناك احتلال ستكون هناك انتفاضات وثورات حتى التحرير.

فلسطين في الوعي الجمعي العربي
ففلسطين جزء من الجسم العربي الكبير، وهي البوصلة والمركز، فكما هو موثق في صحف التاريخ والجغرافيا والحضارة، فقد احتلت فلسطين في الوعي القومي العربي صميم الوجدان العربي، وكانت في الوعي الإسلامي على امتداد الأمة دائما سرة الأمة الإسلامية، فكانت وبقيت الجوهر والعنوان لكل ما يجري على امتداد مساحة الوطن والأمة، وكانت جزءا من خريطة الوطن الكبير، وكان شعبها جزءا من الأمة العريقة.

تواطأت المؤسسة الاستعمارية البريطانية، والغرب الاستعماري، والحركة الصهيونية، من أجل العبث بحقائق التاريخ والجغرافيا، فاتفقوا على "تسويق فلسطين" على أنها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"

حملت معركة فلسطين معها دائما كل العناوين، وكل العناصر، وكل الأبعاد الأخرى المتعلقة بالعقيدة والهوية والانتماء والتاريخ والحضارة والجغرافيا والمستقبل، وكانت فلسطين البوصلة دائما، هكذا نشأنا وترعرعنا وتثقفنا وتغذينا مع حليب أمهاتنا، ففلسطين هي الجوهر وقلب الأمة والوطن العربي، وما يوجع فلسطين يتداعى له سائر الجسد العربي.

فإذا كانت العروبة قد تكرست في ثقافاتنا وتراثنا ووعينا عبر القرون الماضية، باعتبارها كيانا وهوية وشهادة انتماء ووجود، وإذا كانت العروبة قد حفرت عميقا في وعينا الوطني القومي، وانصقلت كخريطة واحدة متكاملة مترابطة الأوصال والأعضاء، إذا ما اشتكى منها عضو تداعى له سائر الجسد بالانتفاضات والتضامن والتواصل، فقد احتلت فلسطين عبر التاريخ موقع المركز في كل ذلك.

وقد أدرك قادة الأمة هذه الحقيقة الكبيرة عبر الحقب التاريخية المتعاقبة، وصولا إلى إبراهيم باشا الذي أراد أن يوحد ضلعي الأمة الأفريقي والآسيوي، كما أدرك هذه الحقيقة قادة وجنرالات الغرب الاستعماري الذين  قرروا عبر جملة من المؤتمرات والوثائق والوعود والتعهدات والحروب فصل ضلعي الأمة بإقامة "الوطن القومي لليهود في فلسطين"، خشية من الوحدة والقوة العربية، وفي الخلفية والذاكرة لديهم دائما تلك "الحروب الصليبية" والهزائم المتلاحقة، التي كان أشدها وطأة عليهم هزيمة حملة بونابرت على أسوار عكا.

كلهم كانوا يعرفون ذلك، ولذلك تحالفت وتواطأت المؤسسة الاستعمارية البريطانية، والغرب الاستعماري، والحركة الصهيونية، من أجل العبث بحقائق التاريخ والجغرافيا، فاتفقوا على"تسويق فلسطين" على أنها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وعلى أنها "الأرض الموعودة " لـ"شعب الله المختار"، فكانت الدولة الصهيونية المختلقة "خنجرا مسموما في خاصرة الأمة".

فلسطين في ظل الثورات العربية
ولم يكن لتلك الدولة المختلقة التي قامت على سياسات التطهير العرقي وتهجير أهل فلسطين، أن تهدأ وتستقر في قلب محيط من العداء العربي، فاعتمدت المؤسسة الصهيونية نظرية الجنرال دايان الذي تحدث عن "أن إسرائيل كالقلب المزروع في جسم غريب، وكي يبقى هذا القلب حيا نابضا لأطول فترة من الزمن، يجب تهيئة المناخات المحيطة به"، وما دامت المناخات المحيطة به هي بحر العداء العربي، فقد تبنت تلك المؤسسة إستراتيجيات الحروب المفتوحة المتصلة على كل الجبهات العربية، الجنوبية والشمالية والشرقية، بل شنت حروبا مفتوحة على العرب.

فكان هناك العدوان الثلاثي على مصر 1956، وكان عدوان حزيران على الجبهات العربية الثلاث، الذي أسفر عن احتلال "إسرائيل" للضفة وغزة والجولان وسيناء، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين تقريبا، ثم جاءت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، لتكون آخر الحروب العربية مع ذلك الكيان، بينما واصل الاحتلال حروبه الفلسطينية بلا توقف.

فشن حروبه المفتوحة ضد الشعب الفلسطيني على امتداد مساحة فلسطين المحتلة، من النقب الجنوبي إلى الجليل الشمالي، ومن الخليل إلى نابلس، مع التركيز الاستثنائي على المدينة المقدسة، وشن الحرب تلو الأخرى على لبنان على مدى نحو أربعة عشر عاما، ونفذ مئات الاجتياحات وآلاف الغارات الجوية، إلى أن جاء عدوان واجتياح عام 1982، الذي أنهى الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان.  

لقد نجح الكيان في تحقيق نظرية دايان في القلب المزروع على المستوى العربي الرسمي، فحقق الهدوء أربعين عاما تقريبا، كما أعلنه مناحيم بيغن مرة، ولكن بعد أن استرخى الكيان الصهيوني نحو أربعين عاما بلا حروب مع العرب، بعد أن أعلن السادات أن "لا حروب بعد اليوم -هذه آخر الحروب- أكتوبر 73″، باستثناء المقاومة والهبات والانتفاضات الفلسطينية المتصلة التي كانت وحيدة في فضاء الصراع، وبعد أن كان حصاد "إسرائيل" الإستراتيجي نحو أربعين عاما من الأمن والهدوء والمكاسب الإستراتيجية العسكرية والاقتصادية والتطبيعية، التي لم تخطر في بال الآباء المؤسسين للدولة الصهيونية، وبعد أن تحولت كل الأحداث في منطقة "الشرق الأوسط" منذ كامب ديفد لصالح الأجندة الإسرائيلية -كما وثقه محمد حسنين هيكل- وتحولت خلالها لاءات العرب إلى نعمات، جاءت الثورات والحراكات الشعبية العربية لتزلزل المشهد وتقلب المعادلات والحسابات وتخلط الأوراق، ولتسقط نظريات وتحطم تابوهات تكلست، اعتقد الجميع أنها باقية إلى الأبد.

فأخذت العين الصهيونية تبث قلقا وفزعا من القادم العربي الثوري الجديد، بل إن عددا من أقطابهم تنبأ بعودة الصراع إلى بداياته الأولى، بوصفه صراع وجود وليس صراع حدود، فارتفع منسوب التفاؤل الفلسطيني إلى عنان السماء، وتعمق الإيمان الفلسطيني بأن ساعة الحساب مع "إسرائيل" قد حانت، وأن رحيل الاحتلال قد اقترب!

سؤال فلسطين على أجندات الثورات الشعبيّة العربية، أخذ يتفاعل منذ البدايات، من ثورة لثورة، ومن بلد لبلد، وفي الأفق هناك دائما الأمل الفلسطيني بإعادة فلسطين إلى مكانة المركز والجوهر

فسؤال فلسطين على أجندات الثورات الشعبيّة العربية، أخذ يتفاعل منذ البدايات، من ثورة لثورة، ومن بلد لبلد، وفي الأفق هناك دائما الأمل الفلسطيني في إعادة ترتيب الأولويات والإستراتيجيات العربية، بما يعيد فلسطين إلى مكانة المركز والجوهر والبوصلة في حسابات الجماهير العربية، التي يعول عليها في الحسابات الإستراتيجية والتاريخية -إلى جانب الشعب الفلسطيني- في مهمة تحرير فلسطين، ومنسوب التفاؤل الفلسطيني في ذلك  كبير، فالثقة بالأمة والشعوب العربية لا تتضعضع ولا تهتز، وذلك على الرغم من أن الثورات والحراكات الشعبية العربية لم ترفع شعارات وأعلاما فلسطينية، ولم تقم بإحراق الأعلام الصهيونية الأميركية على سبيل المثال في حراكاتها المركزية والكبيرة، إلا في حالات قليلة، بل ركزت على رفع الأعلام الوطنية والشعارات المطلبية الاقتصادية والاجتماعية المحلية.

غير أن ذلك لا ينزع فلسطين والقضية من جوهر الثورات والحراكات والمعاني والدلالات، فالأمور والأوضاع سرعان ما ستعود إلى سكتها، فتحرير فلسطين في مواجهة شاملة مع المشروع الصهيوني يحتاج إلى شعوب متحررة من الطغيان والاستبداد والفساد والتبعية.

استنفار صهيوني وأولويات فلسطينية
واستتباعا، فإن هذا الذي جرى ويجري على امتداد خريطة العرب من ثورات وانتفاضات عاصفة بمقاييس لم تأت في حسابات أعتى الأجهزة الأمنية والاستخبارية الأميركية والإسرائيلية وغيرها، أثار ولا يزال، ذلك القلق الصهيوني من سيناريوهات ثورية تغير المعادلات والموازين المستقبلية لصالح العرب، وهذا ليس كلاما إعلاميا استهلاكيا.

فالأدبيات السياسية الإسرائيلية في أعقاب هذه الثورات العربية، وعلى الأخص منها الثورة المصرية، حركت الإستراتيجيين والباحثين والمحللين ومراكز الدراسات لديهم على اختلافها، وكذلك أقطاب الدولة الصهيونية من أمنيين وعسكريين وسياسيين وإعلاميين وأكاديميين وغيرهم، من أجل مواكبة ودراسة هذه المتغيرات العربية، ومتابعة وتدارك تداعياتها على الدولة الصهيونية. 

فأخذ كل يدلي بدلوه التحليلي التنبؤي فيما يتعلق بالسيناريوهات المستقبلية، وعلى نحو خاص منها التداعيات المحتملة على العلاقات مع "إسرائيل"، وعلى القضية الفلسطينية ومستقبل الصراع، فدخلت الدولة الصهيونية عمليا في حالة استنفار وترقب واستعداد.

ولعل من أهم المحاور التي أخذت تحتل قمة الجدل الإسرائيلي، والتي أخذوا يتحدثون عنها في سياق مساعي الاحتواء والتأقلم مع التطورات، ما يتعلق تحديدا باحتمال إعادة الصراع إلى مربعه الأول، بمعنى أن تعود القضية الفلسطينية لتحتل من جديد الوعي الجمعي العربي، والأجندات السياسية العربية، وكذلك ما يتعلق بالتهديدات الوجودية، وبذلك البعد الأمني الإستراتيجي، ويطرحون في الدولة الصهيونية اليوم كافة القضايا الساخنة على أجندات الجدل الاستشرافي المتعلق بمستقبل تلك الدولة التي لا تنام أبدا.

فهي تتحرك وتعمل على مدار الساعة من أجل بقائها واستمرارها، فالجنرال في الاحتياط "عاموس جلعاد" أحد أبرز الإستراتيجيين لديهم، كان قد حذر مبكرا على سبيل المثال، من "أن صعود الإخوان المسلمين في مصر سيقلب موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط وسيجر المنطقة إلى دوامة من عدم الاستقرار"، مؤكدا "أن ذلك سيغير موازين القوة في المنطقة إلى الأسوأ"، مستخلصا: "أن الإخوان المسلمين يشكلون القوة الحقيقية في المنطقة مثل حركة حماس، وهم يتطلعون إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بأكملها".

كما دعا الحاخام يسرائيل روزن الذي يرأس معهد "تسوميت" -وهو أحد أكبر المعاهد الدينية المتطرفة بإسرائيل، ويمثل معسكر الحاخامات والمتدينين والمستوطنين اليهود- المسيحيين في العالم إلى التعاون مع إسرائيل ضد ما رأى أنه "صحوة إسلامية تشهدها مصر والدول العربية الأخرى"، بدعوى "أن الثورات الشعبية التي تموج بها دول المنطقة لن تشكل خطرا شديدا على إسرائيل و"الشعب اليهودي" فحسب، بل على المجتمع الدولي أيضًا، وسترسم خريطة الكون من جديد ومسار الإنسانية".

وأضاف "لا أحد يعلم أي فصل تاريخي يكتبه المسلمون الآن أمام أعيننا"، لكن المشكلة في رأي الحاخام أن تؤول الأوضاع في النهاية إلى ما دعاه بـ"الإسلام المتشدد"، وفي تزايد المد العروبي في الدول العربية، و"هنا تلتف حربة الإسلام وسيفه حول إسرائيل"، مختتما: "التوراة تعلمنا أن الإنسان التقي هو من يقوم بالاستعداد للحرب ضد عدوه، وأنا من ناحيتي أتوقع أن يسيطر كل من الإسلام والعروبة قريبا جدا على الدول العربية".

كما ترصد العين الصهيونية التطورات العربية بقلق وحرص وتحليل واستعداد، فإن الفلسطينيين ينتظرون بدورهم مشهدا عربيا ثوريا حقيقيا يقلب الأوضاع والحسابات الصهيونية

وفي هذا السياق الاستعدادي الصهيوني لمواجهة التحديات المستقبلية، كان هناك  لديهم من أفتى بضرورة اللحاق بالتسوية السياسية قبل أن تفوت الفرصة مع الفلسطينيين، بغية احتواء الملف الفلسطيني وتحييده مؤقتا، ومنهم من دعا إلى تحرك الجيش الإسرائيلي على الجبهتين الشمالية والجنوبية-غزة، لإسقاطهما قبل أن يتطور ويستفحل خطر الجبهة المصرية، ومنهم من أخذ يحرض الغرب على ضرورة التحرك بالسرعة الممكنة، قبل أن تتمكن الحركات الإسلامية من الإمساك بالسلطة في مصر وغيرها، على اعتبار أن الإسلام يشكل دائما الفزاعة المرعبة للغرب.

ولكن، وعلى الجانب الآخر الفلسطيني، وكما ترصد العين الصهيونية التطورات العربية بقلق وحرص وتحليل واستعداد، فإن الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم وأطيافهم السياسية، ينتظرون بدورهم مشهدا عربيا ثوريا حقيقيا يقلب الأوضاع والموازين والحسابات الصهيونية، ويقرب ساعة المواجهة الشاملة والتحرير والخلاص من الاحتلال.

ولعلهم يتساءلون: أين فلسطين اليوم بعد نحو عامين تقريبا من الثورات والتغيرات العربية من هذا الحلم؟ وأين القضية في أجندات الثورات العربية؟ ثم متى يا ترى يتداعى الجسد العربي كله انتصارا لها في الأفق المنظور؟!

غير أن هذا الأفق الفلسطيني يحتاج أيضا -إلى جانب الرياح الثورية العربية- إلى إعادة ترتيب الأولويات الوطنية الفلسطينية، فالمشهد الفلسطيني المنقسم والمتفكك في مواجهة الاحتلال، لا يسر سوى العدو المتربص دائما.

فمشروع المقاومة والجهاد والتحرير، يستدعي في مقدمة ما يستدعي، إحباط كل السيناريوهات المتشائمة التي تبث هنا وهناك، سواء على مستوى تكريس الأمر الواقع الانقسامي، أو على مستوى إقامة دولة في غزة منفصلة عن الضفة كما روج له حينا، وغيرها، وذلك عبر المصالحة والوحدة الفلسطينية في الخنادق والبنادق، كي تكون فلسطين كعهدها طليعة الأمة في مشروع المواجهة والتحرير، وكي تكون البوصلة الحقيقية لما هو آت في المشهد الصراعي مع العدو.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.