أزمة المشروع الوطني الفلسطيني

أزمة المشروع الوطني الفلسطيني - محسن محمد صالح

undefined 

يعاني المشروع الوطني الفلسطيني حالة من الانسداد وفقدان الاتجاه، انعكست بشكل سلبي واسع على قدرته على العمل، وعلى قدرته على الاستفادة من الفرص المتاحة، وعلى قدرته على الاستفادة من الإمكانات الهائلة المذخورة في الشعب الفلسطيني وفي الأمة العربية والإسلامية.

في الوقت الراهن، هناك انسداد في مسار التسوية السلمية الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة السلطة في رام الله وحركة فتح. وهناك تعطّل في مسار المقاومة المسلحة الذي تبنته حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي. وهناك تعثّر في مسار المصالحة الفلسطينية الذي وقعت عليه القوى والفصائل الفلسطينية.

تعاني منظمة التحرير من غياب مؤسساتها وتراجع دورها، كما تعاني السلطة الفلسطينية من انقسامها إلى سلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن الهيمنة الإسرائيلية في الضفة والحصار الإسرائيلي في غزة

وتعاني منظمة التحرير من غياب مؤسساتها وتراجع دورها، كما تعاني السلطة الفلسطينية من انقسامها إلى سلطتين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن الهيمنة الإسرائيلية في الضفة والحصار الإسرائيلي في غزة، ومن أزماتها المالية، بالإضافة إلى وجود حالة إحباط واسعة في الشارع الفلسطيني من أداء القيادات السياسية الفلسطينية، ومن ضعف التفاعل مع التغيرات في العالم العربي، وعدم الاستفادة منها على النحو المطلوب.

يجادل البعض بمرارة ساخرة: وهل لدينا مشروع وطني أصلاً؟! وعلى أي أساس يمكن أن يصبح المشروع الوطني "وطنيًّا"؟! وهل يمكن أن يكون التنازل عن معظم فلسطين للصهاينة عملاً وطنيًّا أو جزءًًا من برنامج وطني؟ وما هي الخطوط الحمراء والثوابت الوطنية التي لا يمكن تجاوزها في المشروع الوطني، والتي يُعدُّ اختراقها ضربًا من الخيانة أو سلوكًا غير وطني ومعاديًّا لمصالح الشعب الفلسطيني؟ وكيف يمكن التفريق بين ما هو "خيانة" وبين ما هو مجرد "وجهة نظر"، إذا كانت الثوابت نفسها محلّ نقاش واجتهاد؟!

أزمة المشروع الوطني ليست أزمة جديدة، فمنذ أيام الاحتلال البريطاني كان هناك صراع الحسينية والنشاشيبية، وهو -وإن أخذ شكلاً عائليًّا- يحمل مضامين مرتبطة بطرق العمل الوطني وبشكل العلاقة بالاحتلال البريطاني، وبالبيئة الإقليمية، وأولويات اللجوء لأساليب المقاومة والعمل السياسي السلمي. كما ظهرت الأزمة عندما نشأت منظمة التحرير بقيادة أحمد الشقيري وسط مقاطعة الفصائل الفدائية الفلسطينية وخصوصا فتح التي رأت في إنشاء المنظمة محاولة للهيمنة الرسمية العربية على العمل الوطني الفلسطيني.

أين تكمن الأزمة الحالية للمشروع الوطني الفلسطيني؟ لا يظهر أن هناك عاملاً واحدًا لهذه الأزمة.
هل هي أزمة الهوية والأيديولوجيا؟ حيث تتنازع التيارات الإسلامية والقومية واليسارية والليبرالية.. لعل هذا سبب مهم، خصوصا عندما يتعلق الخلاف بقضية مرتبطة بثوابت دينية حيث ترفض التيارات الإسلامية الاعتراف بـ"إسرائيل" أو بالتنازل عن أي جزء من فلسطين، بينما تربط تيارات أخرى الأمر بالاعتبارات الواقعية وبالمصلحة والتكتيك والعمل المرحلي.

وينطبق ذلك مثلاً على التعامل مع شروط الرباعية الدولية التي وُضعت بعد فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني سنة 2006، والتي كان على رأسها شرط الاعتراف بـ"إسرائيل"، وقد أدى رفض حماس لهذا الشرط وغيره، (وهو شرط لم يكن لدى حركة فتح مشكلة في الموافقة عليه)، إلى فرض حصار قاسٍ على حماس وحكومتها والشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع قادته أميركا والدول الغربية، كما أدى وما زال يؤدي إلى نزاع بين فتح وحماس، أو بين معسكري التسوية والمقاومة، فيما يتعلق بطريقة التعامل مع شروط الرباعية، والتطبيقات المرتبطة بذلك في إدارة السلطة الفلسطينية.

هل هي أزمة تحديد الأولويات والمسارات؟ لعل هذا سبب آخر لأزمة المشروع الوطني الفلسطيني، إذ يبرز الخلاف عادة حول ما إذا ما كانت الأولوية لمسار المقاومة المسلحة أم لمسار التسوية السلمية أم للمقاومة المدنية، وما إذا كانت الأولوية يجب أن تُعطى لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية وإجراء الانتخابات، أم لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتفعيلها، أم لإصلاح الأجهزة الأمنية، أم للبرامج الاقتصادية، أم لرفع الحصار وإعادة الإعمار، أم لتحقيق الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، أم لقضية اللاجئين، أم لمواجهة برامج التهويد، خصوصا في القدس. وكيف يمكن التعامل مع القضايا السابقة بما تستحقه من اهتمام، وكيف يمكن تحديد الوزن النوعي لكل قضية، وعلى أي أساس يتم تقديم أو تأخير أي من هذه القضايا، وما هي القضايا التي يمكن الانشغال بها في وقت واحد؟!

ومن جهة ثالثة، هل هي أزمة العمل المؤسسي، وأزمة انعدام وجود مظلة مؤسسية واحدة للعمل الوطني الفلسطيني؟ هذا جزء أساسي من الأزمة، إذ إن هناك فصيلاً فلسطينيا واحدا هو فتح، يتولى إدارة منظمة التحرير الفلسطينية منذ نحو 44 عاما، بينما لم تدخل حماس والجهاد الإسلامي اللتان تمثلان قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني في عضوية المنظمة، مع غيابٍ لتمثيل الكثير من الفعاليات الشعبية والرموز والمستقلين. وبالتالي، لم تعد المنظمة تعبر عن الإرادة الحقيقية للشعب الفلسطيني. وليس هناك الآن بيت فلسطيني واحد يجمع كلّ الفلسطينيين، يتدارسون فيه أوضاعهم، ويضعون فيه برنامجهم الوطني والسياسي، ويحددون من خلاله أولوياتهم وبرامجهم.

تعطلت دوائر منظمة التحرير ومؤسساتها وفقدت فعاليتها، وتضاءلت أو اندثرت مع "تغوّل" السلطة الفلسطينية عليها. ولم يعقد المجلس الوطني الفلسطيني جلسة حقيقية منذ سنة 1991، ولم يتم تجديد انتخاب أعضائه بشكل سليم منذ سنوات طويلة. إن حركة فتح تتحمل مسؤولية تاريخية تجاه ما حدث لمنظمة التحرير، كما تتحمل مسؤولية تاريخية في وجوب المسارعة إلى فتح أبواب المنظمة ليتم إعادة بنائها وتفعيلها على أسس جديدة.

ومن جهة رابعة فإن التأثير الخارجي الإقليمي والإسرائيلي والدولي ما زال لاعبًا مؤثرًا في صناعة القرار الفلسطيني، وما زالت مواقفه تنعكس بدرجات متفاوتة على أزمة المشروع الوطني الفلسطيني.

إذ لا يخفى دور مصر وسوريا والأردن والسعودية في صنع القرار الفلسطيني. وتلعب مصر عادة دورًا أساسيًّا في إعطاء الغطاء للقيادة الفلسطينية، وفي ترتيبات البيت الفلسطيني. وقد كانت وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، وتعيين الشقيري رئيسًا لها، كما أعطت الغطاء لإزاحته وحلول فتح في قيادة المنظمة، واستمرار هيمنتها عليها، فضلاً عن الغطاء الذي وفرته لمسار التسوية السلمية لقيادة المنظمة، كما كانت مسؤولة (قبل ثورة 25 يناير2011) إلى حد كبير عن شكل التعامل مع حماس، ومحاولة عزلها وإضعافها وإفشالها. وفي المقابل فإن سوريا (قبل الثورة التي تشهدها حاليًّا)، شكلت حاضنة لحماس وقوى المقاومة، وكان لذلك تأثيره في مواجهة ما يسمى محور الاعتدال.

تتحمل الدول العربية، وخصوصا دول الطوق مسؤولية تاريخية في تعميق أزمة المشروع الوطني الفلسطيني بسبب تضييقها أو منعها للعمل المقاوم، وللنشاط السياسي والشعبي الفلسطيني

وتتحمل الدول العربية، وخصوصا دول الطوق، مسؤولية تاريخية في تعميق أزمة المشروع الوطني الفلسطيني بسبب تضييقها أو منعها للعمل المقاوم، وللنشاط السياسي والشعبي الفلسطيني، وعدم قدرة الشعب الفلسطيني على تنظيم نفسه بحرية في تلك الدول، وتعطيل عقد الانتخابات أو المجالس الوطنية الفلسطينية، وعدم السماح بذلك أو بعضه إلا بأثمان سياسية باهظة.

أما من الناحية الإسرائيلية، فإن دخول منظمة التحرير (ومن ثمّ السلطة الفلسطينية) في "عصر أوسلو" وما نتج عنه من ترتيبات على الأرض منذ 1993، جعل الجانب الإسرائيلي "الحاضر الغائب" في كثير من الأحيان في صناعة القرار لدى قيادة المنظمة وقيادة السلطة.

إذ إن اتفاقية أوسلو أدت إلى انتقال قيادات "المقاومة" للإقامة تحت الاحتلال الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وألزمت المنظمة بعدم اللجوء إلى المقاومة المسلحة، وبإقامة سلطة وطنية يتحكم الإسرائيليون في مدخلاتها ومخرجاتها، وفي وارداتها وصادراتها، وتحويل أموالها وانتقال أفرادها وقياداتها.

وهذا أعطى الإسرائيليين فرصًا واسعة لاستخدام أدوات ضغط هائلة على القيادة الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني من خلال تعطيل مؤسساته واعتقال قياداته وخنقه اقتصاديًّا وتدمير البنى التحتية، بحيث أصبح السلوك الإسرائيلي المحتمل محدِّدًا أساسيًّا في نقاشات ومفاوضات المصالحة الفلسطينية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني.

وبالتأكيد، فإن الموقف الغربي وخصوصا الأميركي له تأثيره الذي لا يستهان به على المسار الفلسطيني، إذ إن الدعم الأميركي المطلق لـ"إسرائيل" وتوفير الغطاء الدائم لاحتلالها وانتهاكاتها وممارساتها ضدّ الشعب الفلسطيني، وكذلك التدخل لفرض شروط الرباعية على حماس والقوى الوطنية الفلسطينية بما في ذلك الاعتراف بـ"إسرائيل" ووقف المقاومة المسلحة والاعتراف بالاتفاقيات التي وقعتها المنظمة بما فيها اتفاقيات أوسلو، شكل تدخلاً سافرًا ومحاولة لتحديد تصورات الشعب الفلسطيني ومواقفه. كما سعت أميركا وحلفاؤها لإسقاط حماس وعزلها، واعتبارها حركة "إرهابية"، ونزع الشرعية عنها، بالإضافة إلى معاقبة الشعب الفلسطيني على اختياره الديمقراطي الحر لحماس.

أسهم السلوك الأميركي المتحيّز في إفشال مسار التسوية السلمية، وفي انسداد أية آفاق لتحصيل الحقوق الفلسطينية أو بعضها من خلال مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، وأسهم في إدخال المشروع السلمي الذي تحمله القيادة الفلسطينية الحالية في أزمة حقيقية.

وكان جزء أساسي من نقاشات المصالحة الفلسطينية منصبًّا على طريقة تكييف تشكيل الحكومة الفلسطينية بما يتواءم مع شروط الرباعية ومع "الفيتوات" الأميركية والإسرائيلية المحتملة، وهو ما ينطبق أيضا على إجراء الانتخابات وعلى إصلاح الأجهزة الأمنية وغيرها.

ولعل هناك سببًا خامسا ذا أبعاد ثقافية حضارية مرتبطًا بحالة التخلف وبأمراض المجتمع الفلسطيني، خصوصا تلك المتعلقة بفن إدارة الاختلاف وبالتداول السلمي للسلطة، وبفن التعايش والالتقاء على القواسم المشتركة، والبعد عن الأنانية الفردية والحزبية، ونزعات السيطرة والاستئثار، وتغليب الشك وسوء الظن والمكايدة السياسية على برامج بناء الثقة والعمل المشترك.

ومن ناحية سادسة فإن هناك بُعدًا تاريخيًّا للأزمة، إذ تكرست من خلال العلاقات الفصائلية وخصوصا بين فتح وحماس، وطوال ربع قرن، أزمة كبيرة في الثقة. فمن لغة الاتهام القاسية بين الطرفين بالفشل والعمالة، إلى حملات المطاردة الأمنية والاعتقالات والإقصاء التي قامت بها السلطة بقيادة فتح خلال الفترة 1994-2000، في مقابل عمليات المقاومة التي كانت تقوم بها حماس وفصائل المقاومة، والتي كانت ترى فيها فتح تعطيلاً وإفشالاً لمسار التسوية المؤدي لتحقيق حلم الدولة الفلسطينية، إلى محاولات الإفشال والإسقاط والتعطيل ونزع الصلاحيات التي قامت بها قيادة السلطة (فتح) في مواجهة المجلس التشريعي الذي فازت حماس بأغلبيته الساحقة، وفي مواجهة الحكومة التي شكلتها حماس، إلى حالة الانقسام التي نتجت عن سيطرة حماس على قطاع غزة وسيطرة فتح على الضفة الغربية، إلى الإجراءات الأمنية المتبادلة التي قام بها الطرفان لضمان سيطرتيهما، مع بلوغ التنسيق الأمني بين السلطة في رام الله وبين الطرف الإسرائيلي والأميركي حدودًا قصوى، في السعي لاجتثاث العمل المقاوم، وتفكيك البنية التنظيمية لتيار الإسلام السياسي في الضفة. كما كان للانفلات الأمني وسيل الدماء بين الطرفين أثره في تعزيز انعدام الثقة بينهما.

بالرغم من تطلع الشعب الفلسطيني كله إلى تحرير فلسطين وتحقيق حلمه في العودة والاستقلال، فإن بيئات الحياة وظروف الحكم المختلفة أثرت في ثقافة الفلسطينيين وطريقة تناولهم وفهمهم للأمور

ولا يخلو الأمر -من ناحية سابعة- من أزمةٍ في القيادة الفلسطينية، التي لم ترقَ إلى مستوى تطلعات شعبها إليها، والتي وقعت بدرجات متفاوتة في مسالك الإدارة الدكتاتورية الفردية، والحسابات الشخصية، وإضعاف العمل المؤسسي التنفيذي، وعدم احترام السلطات التشريعية، والسلوك الزبائني الأبوي، والمكايدات الحزبية الرخيصة، والانتهازية السياسية، والفساد المالي، وعدم القدرة على توظيف الطاقات الهائلة والأدمغة المذخورة في الشعب الفلسطيني، والفشل في إدارة الاختلاف السياسي… وغيرها.

وثامنًا وأخيرًا، لعل حالة التشتت والتشرذم الجغرافي التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، أسهمت في تعقيد القدرة على الاجتماع والتفاهم وصناعة القرار. إذ لا يجمع الفلسطينيين مكان واحد، ولا يحكمهم نظام سياسي واحد. وتختلف ظروفهم من وجود نحو مليونين و600 ألف في الضفة الغربية تحت الاحتلال وتحت السلطة الفلسطينية، ووجود نحو مليون و600 ألف في قطاع غزة تحت الحصار الإسرائيلي وتحت قيادة حماس، ووجود نحو مليون و300 ألف في فلسطين المحتلة سنة 1948 أو ما يسمى "إسرائيل"، ووجود نحو ثلاثة ملايين و400 ألف في الأردن، ونصف مليون في سوريا، و430 ألفًا في لبنان، ونصف مليون في السعودية، وربع مليون في أوروبا، وربع مليون في أميركا…إلخ.

وبالرغم من تطلع الشعب الفلسطيني كله إلى تحرير فلسطين وتحقيق حلمه في العودة والاستقلال، فإن بيئات الحياة وظروف الحكم المختلفة أثرت في ثقافة الفلسطينيين وطريقة تناولهم وفهمهم للأمور.

وهكذا فإن المشروع الوطني الفلسطيني يواجه أزمة حقيقية. ولعل حالة الانتفاضات والتغيير التي يشهدها العالم العربي تعطي أملاً بإمكان حدوث تغيير إيجابي حقيقي في الوسط الفلسطيني. غير أن المدخل الحقيقي لمشروع وطني جاد هو إصلاح البيت الداخلي الفلسطيني، تحت مظلة فلسطينية واحدة (م ت ف) تسع الجميع، وتستفيد من طاقات الجميع، وبناء على ميثاق وطني جامع، وعلى برنامج سياسي متوافقٍ مع الثوابت، تنفذه قيادة وطنية منتخبة، تلتزم بأولويات العمل الوطني، بعيدًا عن الضغوط والحسابات الخارجية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.