هل المؤسسة العسكرية بالمغرب مقدسة؟

هل المؤسسة العسكرية بالمغرب مقدسة؟
undefined

للمؤسسة العسكرية بدول العالم أجمع وضع خاص يكاد يكون الاستثناء قياسا إلى باقي المؤسسات: فهي المالكة للقوة الخشنة, سلاحا وانضباطا في الاستعمال, والتي بفضلها تحمي ثغور الوطن, تذود عن حدوده ووحدته زمن الحرب كما زمن السلم, وتبقى فيما بين الحالتين (حالة السلم أو الحرب), ساهرة, مرابطة, تستخبر تحركات الخصوم (أفرادا أو جماعات أو دولا) لاستباق غاياتهم, وتستطلع ما استجد في عالم السلاح والحرب, لمواكبة الجديد.

وهي المتحكمة في أدوات التدخل السريع والمنتظم, عندما تنتاب الوطن كوارث كبرى, فيضانات كانت أم زلازل, يتعذر معها على الأجهزة الأمنية المختصة, ترتيب عمليات الإنقاذ أو إيواء المنكوبين, أو إجلاء المحاصرين, أو تطبيب المتضررين.

وهي, فضلا عن كل هذا وذاك, الممتلكة "لأدوات الخلاص" عندما تتعمم المظلومية, ويستشري الفساد, ويوشك الوطن على السقوط بالفوضى أو بيد الأجنبي, جراء حاكم ظالم, أو سلطان فاسد تابع, أو نظام مرتهن العزيمة, مستلب القرار.

هي حالات ثلاث لوضع خاص, تدخل في صميم وظيفة المؤسسة العسكرية بالظروف الجارية العادية, كما بحالات الاستثناء, عندما يدرك الوطن الوهن المزمن, أو تعتريه آفة اللا استقرار البنيوي الدائم.

لكن, وإن على طابعها الحيوي الثابت, وخاصيتها الإنقاذية المؤكدة, فإن ذلك لا يضفي على المؤسسة العسكرية صفة القداسة أو النزاهة أو الطهرانية, أو يجعلها, أو بعضا من مكوناتها "السامية" على الأقل, خارج القانون أو المحاسبة أو القصاص.

وبقدر ما لا يضفي عليها طابعها ذاك, ولا خاصيتها تلك, صفة القداسة, فإنه لا يمنحها بالآن ذاته, ميزة في الاستقلالية مطلقة, يجعل منها مستوى قائم الذات, لا يأتمر إلا بأوامر قادة أركانها, دونما الاحتكام إلى أي من المستويات الوازنة الأخرى, لا سيما المستوى السياسي المحتكر لأدوات السلطة الناعمة.

ليس الأمر كذلك بالمرة, على الأقل بالبلدان الديمقراطية الكبرى. إذ المؤسسة العسكرية أداة من أدوات المستوى السياسي, تماما كالإدارة وأجهزة الأمن والشرطة والمخابرات وما سواها, لا جهة لها لتقديم الولاء وإبداء الامتثال, إلا ذات المستوى, الذي يثوي خلف تحديد تراتبيتها, وتعيين القادة القائمين على تنظيمها وتأطيرها وتدبير شؤونها.

أزعم أنه لو كان ثمة من فضل يذكر للراحل الحسن الثاني, فلربما بهذه الزاوية, زاوية حصر دور الجيش بالثكنات, ونأيه به عن الصراعات والممانعات التي أصابت الحياة السياسية بالمغرب

هي, بالمحصلة إذاً, أداة السياسي بامتياز, لكنه من المحرم عليها الخوض في العمل السياسي, بالممارسة المباشرة (ارتباطا بحزب, أو ترشيحا بالانتخابات), أو بالانتماء, أو بإبداء الرأي, أو بتبني هذه الجهة على حساب تلك, وهكذا.

هي تأتمر بأوامر السياسي, ولا حق لها في إبداء رأي ما بالفضاء العام, جهارة أو بالتلميح. وهي مجبرة على الترفع عن السياسة, محجمة الدور بالقانون, لا تتحرك قيد أنملة خارج الثكنات, إذا لم يؤشر لها بذلك.

وعلى هذا الأساس, فعندما يتحدث المرء بهذه الحالة, حالة الدول الديمقراطية تحديدا, عن تحجيم نفوذ المؤسسة العسكرية, فإنما يقصد تحديد ذات الدور, وتلجيم الثاوين خلفه, جنودا عاديين كانوا, أم ضباطا سامين.

وعلى هذا الأساس أيضا, فغالبا ما تبقى المؤسسة إياها بمنأى عن التجاذبات والصراعات بين الأحزاب السياسية, ولا تتدخل أو تبدي رأيا, حتى وإن بلغت التجاذبات والصراعات إياها نقطة الأزمة, والاحتراب من بين ظهراني الحكومات, أو بأروقة البرلمانات.

وأزعم أنه لو كان ثمة من فضل يذكر للراحل الحسن الثاني, فلربما بهذه الزاوية, زاوية حصر دور الجيش بالثكنات, ونأيه به عن الصراعات والممانعات التي طاولت الحياة السياسية بالمغرب, منذ ستينيات القرن الماضي:

فالملك الراحل حرم على الجيش الانخراط في الحياة السياسية (أو تكوين نقابة فئوية حتى, كما ببعض الدول الديمقراطية مثلا), وحصر دوره في الدفاع عن سيادة البلاد, والذود عن حدودها, كما كان الحال عندما دفع به, بأواسط سبعينيات القرن الماضي, للمرابطة بالصحراء جنوب البلاد.

والملك الراحل, بحكم طبيعة الحكم المعتمد, والكاريزما الملازمة لشخصيته, لم "يقتسم السلطة" مع الجيش إلا مؤقتا, ليتكفل به شخصيا كقائد أعلى, لا سيما عندما تأكد لديه أن ذات "الاقتسام" كاد ولأكثر من مرة, أن يعصف بنظام حكمه جملة وبالتفصيل.

والملك الراحل اعتبر, فوق كل هذا وذاك, أن مصير القصر هو من مصير الجيش, وأن تركه للمزايدة السياسية, من شأنه إذكاء الطموحات والأطماع, ولربما الاقتتال بغرض بلوغ مغنمة السلطة, أو تقويض منظومة الحكم برمتها.

ليس ثمة من شك إذاً, أن الحسن الثاني قد نجح وإلى حد بعيد, في تحجيم دور الجيش وحصر تواجده بالثكنات, وبالثكنات فقط, وحال دونه ودون المشاكسات السياسية, التي لربما, لو ترك الجيش إياه على عواهنه, لوجه سلاحه بالتناوب ضد الخصوم, كما ضد المقربين سواء بسواء.

إلا أن الذي خلفه الملك الراحل باعتماده هذا التوجه (وقد كان محكوما بسياقات المرحلة) إنما وضعية هلامية وغامضة, لا تزال معالم التشويش ضاغطة من بين ظهرانيها, حتى وقد مر على وفاته أكثر من عقد من الزمن:

لم تعد إدارة الجيش إدارة عادية من إدارات القصر, بل باتت مكونا عضويا بداخله, تماما كالخدم والحشم وما سواهم, لا يستقيم لون القصر أو مذاقه بدونهم

فالمؤسسة العسكرية (بحياة الحسن الثاني, كما بعد مماته, ولحد الساعة) لم تعد مرتبطة بمجال الملك الخاص فحسب, باعتباره القائد الأعلى, ومن ثمة "وزيرا للدفاع" بالمضمر, بل اندغمت اندغاما كاملا بالمؤسسة الملكية, لدرجة غدت معها مكونا عضويا من مكونات المنظومة, وليس فقط مكونا ملحقا بها, بالتراتب الإداري أو بالتنظيم الداخلي الصرف.

بالتالي, فلم تعد إدارة الجيش إدارة عادية من إدارات القصر, بل باتت مكونا عضويا بداخله, تماما كالخدم والحشم وما سواهم, لا يستقيم لون القصر أو مذاقه بدونهم. هي باتت مكونا بنيويا أساسا بالتركيبة, وليست عنصرا موازيا أو قائم الذات, فما بالك مستوى مستقلا.

والمؤسسة العسكرية, من هنا (أعني منذ الستينيات, كما طيلة العشر سنوات الأخيرة) لم تعد محصورة الدور في الذود عن الحدود أو مواجهة الكوارث, بل أضحت "فاعلا" حقيقيا يتمظهر بجلاء بالواقع على الأرض, أي بقمع التظاهرات الشعبية كما حدث بالأعوام 1965 و1981 و1984 و1990, وبتعنيف مظاهرات العاطلين بالشارع العام, أو بالتضييق المباشر على منظمات المجتمع المدني المنددة بالاستبداد. لم تعد المؤسسة هنا صاحبة موقف حياد, بل زج بها كي تواجه بالعنف والقوة جماهيرا, للمؤسسة العسكرية بمخيالها موقع الإيجاب.

ثم إن المفروض في المؤسسة العسكرية أن تنأى بنفسها (أو ينأى بها) عن المجال العام, فإذا بها تغزو الرياضة والثقافة والفن. لا بل وتعمد إلى اتخاذ موقف سياسي, بتقصير في الإدراك, أو عن سابق قصد. ألم يقل الجنرال حميدو لعنيكري, في أعقاب أحداث مايو من العام 2003: إن الجيش "لن يظل مكتوف الأيدي, إذا ما وصل الإسلاميون إلى سدة الحكم عبر بوابة الانتخابات"؟

لم تعد المؤسسة إياها محايدة بهذه النقطة, بل باتت فاعلا حقيقيا, له رأي (ورأي قاطع فضلا عن ذلك) في مجريات الحياة السياسية, وفي القواعد المنظمة لذات الحياة, دستوريا وبالقانون.

وعلى هذا الأساس, فإن مؤسسة الجيش لم تعد تحتكم للثكنة في سلوكها, بل باتت تستقي ذات السلوك وتعتمده, بالبناء على موقعها ضمن نسق سياسي منحها ميزات تفضيلية, بات لها بموجبها القول/الفصل في أكثر من مجال مباشرة, أو بالتأثير من "خلف الستار".

ليس ثمة, بالدستور المغربي أو بالنصوص التأسيسية الأخرى, ما يرفع المؤسسة العسكرية لمرتبة القداسة, أو يخولها مكانة فوق القانون, أو يمنحها استثناءات تميزها عما سواها من مؤسسات. لكنها غدت كذلك بحكم الأمر الواقع, وبحكم "الاجتهاد" في التأويل أيضا.

ليس ثمة, بالدستور المغربي أو بالنصوص التأسيسية الأخرى, ما يرفع المؤسسة العسكرية لمرتبة القداسة, أو يخولها مكانة فوق القانون, أو يمنحها استثناءات تميزها عما سواها من مؤسسات

فشخص الملك مقدس بمنطوق الدستور (على الرغم من تلطيف العبارة بالدستور الأخير), وميزانية بلاطه لا تناقش بالبرلمان, بل تعتمد كما ترد بمشروع القانون المالي. وخطبه غير موضع نقاش بالبرلمان إياه, أو بالصحافة أو بالمجال العام. وليس ثمة قانون بالإمكان تحريكه, لمحاسبته أو متابعته, أو التظلم ضد سلوكه أو قراراته.

ولما كانت ميزانية المؤسسة العسكرية من ميزانية البلاط الملكي, فإنها تعتمد بتحصيل حاصل دون مناقشة بالبرلمان, أي دون نقد أو انتقاد, ودون نقصان في الحجم, أو اقتراح في تبديل المخصصات, أو تغيير في الأولويات.

هي إذاً, بتحصيل حاصل, "مقدسة" بمضمر القانون, وبالعرف المكرس بحكم الأمر الواقع أيضا حتى باتت بالمحصلة النهائية, صندوقا أسود, يجهل عامة الناس وخاصتهم ما يجري من بين ظهرانيها, بالزمن كما بالمكان.

ولهذا السبب, فعندما عمد بعض من الضباط الصادقين (كالزعيم والجالطي وأديب وغيرهم) إلى الإعلان عن وجود حالات فساد كبرى من بين أضلع ثكنات المؤسسة العسكرية, حوكموا بقسوة, وزج بهم بغياهب السجون, حتى بتوفرهم على ما يثبت قولهم, بالحجة والدليل الدامغين… ليجدوا أنفسهم بالمحصلة من المطرودين بـ"قرار سام".

ولهذا السبب أيضا, ضيق ولا يزال يضيق على الصحافة التي تدفعها جرأتها وإيمانها برسالتها, للاقتراب من ذات المؤسسة, أو الإشارة إلى تجاوزات بعض من ضباطها, أو تعمد إلى نشر وثائق تدين بعض أفرادها, أو تتعرض بالنقد والانتقاد لما يعتمل بداخلها, أو بمناطق مرابطة الذين ينتمون لسلكها.

إن "جرجرة" الصحفيين لمخافر الشرطة (وآخرهم عبد الرحيم أريري ومصطفى حرمة الله, من جريدة "الوطن الآن"), ومصادرة معلوماتهم, وإتلاف معدات اشتغالهم, واحتمال تقديمهم لمحاكمة عسكرية, إنما يدخل بسياق "القداسة" التي تحرم على كائن من يكون الاقتراب من المؤسسة العسكرية, فما بالك التعرض لها بالانتقاد, أو نشر ما تسنى لهذا الصحفي أو ذاك, تحصيله بوسائله الخاصة, في بلد لا أثر به يذكر لقانون يضمن البلوغ والنفاذ للمعلومات عند تقادمها.

نحن مع تحييد مؤسسة الجيش من المشهد السياسي, والنأي بها جملة وتفصيلا عن تجاذباته ومزايداته, والحيلولة دون الزج بها في أحداث تضعها وجها لوجه مع الشعب

وبناء عليه, فإننا لا نستطيع إلا التوكيد على التالي:

– نحن مع تحييد مؤسسة الجيش من المشهد السياسي, والنأي بها جملة وتفصيلا عن تجاذباته ومزايداته, والحيلولة دون الزج بها في أحداث تضعها وجها لوجه مع الشعب, لا سيما وقد كان لبعض الأحداث إياها, أن "سودت" وجه الجيش بالماضي, ولطخت أياديه بالدماء.

– ونحن مع استنبات قيم جديدة من بين ظهرانيها, ترفع من منسوب حيادها, وتعيد لها بعضا من "طهرانيتها" المفتقدة. والتلميح هنا لا يروم فقط التأكيد على ضرورة إبعادها عن قضايا الشأن الجاري, بل وأيضا العمل على محاسبة من تورط من ضباطها بنهب المال العام, أو تحصل على رخص بأعالي البحار دون مسوغ قانوني, أو "إكراميات" بمقالع الرمال دون وجه حق, لدرجة باتت معها الفوارق الطبقية القائمة بالواقع المعيش, موجودة بالجيش ولربما بمستويات مخيفة.

– ونحن مع أن تنفتح المؤسسة العسكرية على الصحافة, توفر لها المعطيات (اللهم إلا المصنف قانونا وبدقة, ضمن خانة السري جدا), وتمكنها من بلوغ الأرشيفات المباحة, ولا تتعامل معها بترفع أو تعال إذ غالبا ما يكون سلاح الكلمة أعمق تأثيرا وأقوى تدميرا من سلاح الثكنة ومن خشونة "الجرجرة" بالمخافر أيضا.

إننا نقول هذا الكلام اليوم, وفي ذهننا القانون 10.12 المعتمد بشهر يوليو/تموز الماضي, والذي يمنح العسكريين بالمغرب حصانة شبه تامة عما اقترفوه سابقا, أو عما قد يقترفونه في القادم من أيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.