مخاوف الأقباط

العنوان: مخاوف الأقباط - الكاتب: فهمي هويدي

undefined

شيء سيئ أن يشعر الأقباط في مصر بالقلق بعد الثورة. أما الأسوأ فأن يحدث ذلك في ظل صعود إسلامي يفترض أن مرجعيته كفيلة بتبديد ذلك القلق.

                                            (1)

إلى عهد قريب، كنت أظن أن خطاب القلق والخوف مقصور على دوائر الغلاة بين الأقباط في داخل مصر وخارجها، الذين ينتشر بينهم التعصب المقترن بسوء الظن. وكنت أعلم أن بين قيادات الكنيسة من دأب على تغذية ذلك التعصب. لكنني اكتشفت أخيرا أن دائرة القلقين أوسع مما تصورت، إذ زارني في مناسبة عيد الفطر نفر من عقلاء الأقباط الذين تربطني بهم جيرة وصداقة، وقالوا لي صراحة إنهم أصبحوا خائفين من الأجواء الراهنة في مصر.

وحدثني بعضهم عن أن أبناءهم قرروا الهجرة إلى الخارج لأنهم لم يعودوا مطمئنين إلى المستقبل في ظل الصعود الإسلامي الراهن.

أعاد ذلك إلى ذهني ما قرأته مؤخرا في مقالة دينيس روس المساعد السابق للرئيس أوباما لشؤون الشرق الأوسط، الذي أشار في مقالته التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست إلى أن مائة ألف قبطي هاجروا من مصر بعد الثورة.

كنت أعلم أن من دعا إلى خروج المظاهرات طاف ببعض الكنائس وظل يستثير الأقباط ويحرضهم على النظام القائم ليجذبهم إلى الانضمام إلى حملة إسقاط الرئيس وإنهاء حكم الإخوان

لاحظت أيضا أن نسبة عالية من الأقباط خرجت في مظاهرات الجمعة الماضية يوم 24 أغسطس/آب 2012، على الأقل تلك التي خرجت في مصر الجديدة وحي العباسية والظاهر، وقيل إن هدفها الأساسي هو إسقاط ما أسموه حكم الإخوان.

كنت أعلم أن من دعا إلى خروج المظاهرات طاف ببعض الكنائس وظل يستثير الأقباط ويحرضهم على النظام القائم ليجذبهم إلى الانضمام إلى حملة إسقاط الرئيس وإنهاء حكم الإخوان.

لم أستغرب ذلك، لأن صاحب الدعوة هو ذاته الذي ألقى كلمة قبل أشهر قليلة في احتفال أقامه حزب الكتائب اللبناني واعتبر فيه أن الدور الذي قام به سمير جعجع (صاحب السجل الأسود والمشبوه في التاريخ اللبناني الحديث) كان ملهما له.

لكن ما استغربت له حقا أن يستجيب لتحريضه عدد لا بأس به من الأقباط، فينضمون إلى المظاهرة، الأمر الذي أضاف الاصطفاف الطائفي إلى الاصطفاف السياسي، وأطلق في الفضاء المصري رائحة فتنة فاحت منها رائحة استلهام تجربة الصراع الدموي بين الموارنة والمسلمين الذي سبقت الإشارة إليه في التجربة اللبنانية.

                                             (2)

لا أريد أن أعمم. وأنبه إلى أهمية التفرقة بين مزايدين يتاجرون بالملف القبطي، ومتعصبين يدعون إلى المفاصلة ويرفضون التعايش إلا إذا تم وفق شروطهم، ومهرجين التمسوا الوجاهة السياسة من خلال عرض أنفسهم ممثلين للأقباط، وآخرين وقعوا في فخ الاستخدام والغواية فتحالفوا مع الكارهين والكائدين للمسلمين والعرب، من بين المهاجرين إلى الولايات المتحدة وكندا بوجه أخص. أفرق بين هؤلاء جميعا وبين عامة الأقباط المصريين، الذين يدركون أنهم جزء من هذا الوطن ويقفون في الصفوف الأولى من مناضليه وأبنائه الشرفاء.

عن الأخيرين أتحدث، وقلقهم هو الذي يزعجني ويدفعني إلى الإلحاح على تهدئة خواطرهم واستعادة ثقتهم، ليس فقط دفاعا عن السلم الأهلي وترسيخا لقواعد العيش المشترك، ولكن أيضا امتثالا للمرجعية الإسلامية، التي قررت لغير المسلمين حقهم في البر والقسط "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ".

وقبل أن أخوض في عناوين ملف المخاوف. أنبِّه إلى أن التصنيفات التي سبقت الإشارة إليها ليست مقصورة على الأقباط وحدهم، وإنما هي قائمة في أوساط المسلمين أيضا، حيث فيهم المعتدلون والمتطرفون والعقلاء والحمقى والأسوياء والمنحرفون.

التوقعات الشائعة بينهم بمثابة كوابيس تؤرقهم. من تلك التوقعات ما تتحدث به وسائل الإعلام عن تطبيق الشريعة وإقامة الحدود

ما الذي يقلق عقلاء الأقباط والمعتدلين منهم؟ ألقيت السؤال على من أعرف من الأصدقاء والباحثين الذين أثق في نزاهتهم، فحدثوني عن أمور وقعت وأخرى سمعوا بها، وثالثة يتوقعون حدوثها في المستقبل، في التفاصيل ذكروا ما يلي:

– فيما هو حاصل على الأرض فإنهم ذكروا مسألة بناء الكنائس وتوفيق أوضاع ما هو قائم منها. وأعربوا عن انزعاجهم من تكرار الاعتداء على بعض الكنائس، وتساءلوا عن أسباب التراخي في محاسبة الذين يمارسون الاعتداءات التي شملت بعض الأفراد.

وأبدوا تحفظهم إزاء عدم وجود تمثيل ملحوظ في المناصب العامة. سواء تمثلت في الحكومة الجديدة أو تعيينات المحافظين. أعربوا أيضا عن غضبهم من تصريحات بعض الدعاة الذين دأبوا على إهانة معتقداتهم ورموزهم من فوق المنابر ومنهم من علق على وفاة البابا شنودة الثالث بعبارة حزت في نفوس الأقباط حين قال: هلك رأس الكفر (!).

– مما سمعوا به وليسوا متأكدين من حدوثه، أن بعض الفتيات القبطيات تعرضن للتقريع والإهانة أثناء سيرهن بسبب عدم ارتدائهن للحجاب. وأخريات تم اختطافهن لإدخالهن الإسلام. وأن بعض الأقباط تم تهجيرهم من قراهم بدعوى عدم التعرض للاعتداء من جانب المسلمين. وأن هناك اتجاها لإخراج الأقباط من الجيش واستبعادهم من الوظائف العامة الحساسة في الدولة. وأن خطة "الأخونة" وراء ذلك الإقصاء.

– التوقعات الشائعة بينهم بمثابة كوابيس تؤرقهم. من تلك التوقعات ما تتحدث به وسائل الإعلام عن تطبيق الشريعة وإقامة الحدود، وإعلان الخلافة الإسلامية، إضافة إلى التدخل في الحريات الخاصة، ما تعلق منها بالأزياء والاختلاط، ومصادرة بعض الأنشطة من خلال التحكم في وسائل الترفيه وإغلاق دور السينما وأماكن اللهو والحانات ومنع النساء من ارتداء ألبسة البحر. وممارسة الضغوط على البنوك بذريعة منع الربا.

وفي اعتقادهم فإن عملية أخونة السلطة التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام ما هي إلا مقدمة للانتقال إلى مرحلة أسلمة المجتمع في مقتبل الأيام.

                                              (3)

حين نظرت إلى تلك التحفظات وجدت أن بعضها حقائق قائمة على الأرض وأغلبها شائعات وظنون. القلق من الحقائق مبرر حتى إذا اختلفنا في تفسيرها

حين نظرت إلى تلك التحفظات وجدت أن بعضها حقائق قائمة على الأرض وأغلبها شائعات وظنون. القلق من الحقائق مبرر حتى إذا اختلفنا في تفسيرها. إذ لست أرى مبررا لتعليق ملف بناء الكنائس أو عدم توفيق أوضاع الكنائس التي أقيمت بالفعل خارج القانون.

ومبلغ علمي أن مشروعا موحدا لدور العبادة تم إعداده بمشاركة عدد من المثقفين المحترمين المسلمين والأقباط، لكن ذلك المشروع رُفض من الأزهر ومن الكنيسة في نفس الوقت.

وفي كل الأحوال فإن هذا الموضوع من مخلفات النظام السابق ويتعذر احتسابه على وضع ما بعد الثورة، لكني أجد أنهم محقون في انتقادهم للتراخي في محاسبة المسؤولين عن الاعتداءات التي وقعت على الكنائس أو الأقباط، وكلامهم عن تمثيل كفاءاتهم في الحكومة والمحافظين والمناصب العامة له وجاهته وينبغي الإصغاء إليه جيدا، بحيث لا تمثل الاستجابة له إحقاقا للحق فقط، ولكن أيضا للطمأنة وتعزيز الثقة، خصوصا أن بعض من حدثتهم قالوا إنه لم يعد يكفي أن يرد عليهم بعبارة لهم ما لنا وعليهم ما علينا لأنه من الضروري أن يقوم البرهان على ذلك.

ما يتردد على ألسنة بعض الدعاة أو الأفراد المنتمين إلى الجماعات الإسلامية -السلفيين خاصة- لهم فيه كل الحق، حتى إذا برر البعض ذلك بأن ما يقال من جانب بعض القسيسين في داخل الكنائس لا يختلف كثيرا عما يعبر به أولئك الدعاة. ذلك أن الخطأ لا ينبغي أن يعالج بخطأ مماثل، ثم إن مسؤولية الأغلبية عن احترام مشاعر الأقلية تظل أكبر، والحساب عن الأخطاء أو الإهانات في هذه الحالة ينبغي أن يكون أشد. وليتنا نعالج ذلك التجريح من جانب بعض الدعاة بقرار حازم يعمم على جميع مساجد الأوقاف بوقف التعرض بأي إساءة لمعتقدات غير المسلمين.

كما أنني أتمنى أن يعالج ذلك الوضع أيضا من خلال تفعيل نصوص قانون العقوبات التي تحاسب على ازدراء الأديان والتحقير من شأنها، علما بأن هذه المشكلة بالذات كانت موجودة قبل الثورة، ولكن صعود التيارات الإسلامية بعدها سلط عليها أضواء أقوى، وربما شجع عليها أيضا.

الشق الأصعب في ملف المخاوف هو ما كان منه مبنيا على الشائعات والظنون المتعلقة بالحاضر أو المستقبل. وهو الجانب الذي تقوم فيه وسائل الإعلام بالدور الأكبر.

ولا مفر من الاعتراف هنا بأن أكثر ما تبثه وسائل الإعلام مؤدٍ إلى التخويف وتعميق أزمة الثقة يعد استمرارا لسياسية "الفزاعة" التي كانت متبعة في ظل النظام السابق، وأنه متأثر بالاستقطاب الحاصل في مصر بعد الثورة وفيه من تصفية الحسابات والكيد السياسي بأكثر مما فيه من تحري الحقيقة أو الدفاع عن السلم الأهلي والمصالح العليا للجماعة الوطنية.

                                                (4)

ناقشت الموضوع مع عدد من الشخصيات المهتمة بالملف في المقدمة منهم المستشار طارق البشري والأساتذة نبيل مرقس وسمير مرقس وجمال أسعد والدكتور رفيق حبيب. ووجدت بينهم اتفاقا على أن وسائل الإعلام لعبت دورا سلبيا أساسيا في إثارة مخاوف الأقباط، وأن أزمة الثقة الراهنة ليست بين المسلمين والأقباط فحسب، ولكنها أصبحت بين مختلف القوى السياسية بل أيضا بين السلطة والمجتمع.

وجدتهم متفقين أيضا على أن المخاوف ليست مقصورة على الأقباط وحدهم، لأن الطبقة الوسطى في مصر، التي يشكل المسلمون الشريحة الأكبر فيها، لها مخاوفها أيضا المتأثرة بالتعبئة الإعلامية والممارسات أو التصريحات الفردية، المستشار البشري قال إن الأوهام والمخاوف في هذا الموضوع أكثر من الحقائق.

سمير مرقس قال إن الأقباط الذين كانوا في الماضي بعيدين عن العمل السياسي رفعوا عاليا سقف توقعاتهم بعد الثورة وتصور أغلبهم أن السياسة معركة الجولة الواحدة

ودعا إلى عدم محاسبة المسلمين كافة عن أخطاء بعضهم، وقال إن كل خطأ ينبغي أن ينسب إلى صاحبه ويحاسب عليه من المسلمين، وفي هذه الحالة فإن التعميم على الكل يتعذر افتراض حسن النية فيه.

نبيل مرقس اعترض على مصطلح الخوف، وقال إن القلق وصف أدق لما تعاني منه الطبقة الوسطى المصرية وليس الأقباط وحدهم، وأن توسيع التمثيل للطبقة الوسطى في دائرة صناعة القرار أو التمثيل النيابي كفيل بتبديد ذلك القلق الذي يساورها حول احتمالات تغيير نمط الحياة في مصر.

سمير مرقس قال إن الأقباط الذين كانوا في الماضي بعيدين عن العمل السياسي رفعوا عاليا سقف توقعاتهم بعد الثورة وتصور أغلبهم أن السياسة معركة الجولة الواحدة، وقال إن المشاركة المجتمعية من جانب كل الأطراف والأطياف كفيلة بتحقيق الثقة المنشودة. واعتبر أن الإخوان يجب أن يقدموا تطمينات كافية للمجتمع، وقد أصبحت مسؤوليتهم أكبر إزاء التصعيد السلفي.

رفيق حبيب انتقد غلبة الفكر الافتراضي بين المسيحيين، وقال إن التفاعل بين المسلمين والمسيحيين على أرض الواقع كفيل بعبور الفجوة التي صنعها الإعلام. وهناك مشكلات بين الطرفين لا يحلها غير الحوار المباشر بين ممثلي الأزهر والكنيسة.

جمال أسعد اعترض على الطرح الطائفي للملف، وقال إنه لا يحل إلا من خلال مشاركة مجتمعية يقوم بها الطرفان، باعتبارهم مصريين وليس بحسبانهم مسلمين أو أقباطا. وتساءل: لماذا لا نعمل معا في مشروع قوي كبير مثل تعمير سيناء؟

لنا كلام آخر في الموضوع الأسبوع القادم بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.