أميركا والمرحلة الانتقالية للثورة المصرية

أميركا والمرحلة الانتقالية للثورة المصرية - الكاتب: بشير عبد الفتاح

undefined

في مسعى منها لتدارك أخطائها وتلافي التداعيات السلبية لإخفاقها في التنبؤ بثورة يناير 2011 أو التعاطي الحصيف معها، عمدت واشنطن إلى توجيه مسار تلك الثورة باتجاه الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية بالمنطقة في خضم التحولات المفصلية التي تعصف بها.

وبعدما أيقنت بأن المؤسسة العسكرية في مصر، التي ظلت مهيمنة على السلطة طيلة عقود ستة خلت، ربما لا تجود برئيس جديد على نفس شاكلة مبارك، الذي كان الأميركيون وحلفاؤهم الإسرائيليون يعدونه كنزا إستراتيجيا، خصوصا بعد فك الارتباط المزمن بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الرئاسة في مصر، بدأت واشنطن تبحث عن شريك بديل في مرحلة بالغة الحساسية، فكان رهان إدارة أوباما على الفصيل السياسي المدني الأكثر جاهزية لملء الفراغ السياسي الناجم عن سقوط مبارك وتهاوي نظامه من جهة، والأقرب إلى التفاهم مع واشنطن بشأن استحقاقات المرحلة المقبلة من جهة أخرى.

صفقات أميركية إخوانية
كثيرة هي الروايات التي نسجت حول عقد صفقات سياسية سرية بين جماعة الإخوان المسلمين والإدارة الأميركية، تدور في معظمها حول مساعدة الأخيرة للأولى في الوصول إلى سدة الحكم نظير تبني الإخوان حزمة من الخطوات، كالالتزام بمعاهدة السلام مع إسرائيل وتأمين حدودها مع مصر، فضلا عن عدم تكوين تحالفات إستراتيجية بين القاهرة وطهران، علاوة على احترام حقوق المرأة والأقليات.

شكل تواتر لقاءات المسؤولين الأميركيين مع قيادات إخوانية، سواء في واشنطن أو القاهرة, أحد أبرز عوامل الترويج لحديث الصفقات بين الطرفين

وقد يرتكن أصحاب هذا الادعاء على عدة مؤشرات، من أبرزها: ترسخ اعتقاد لدى غالبية المصريين بأن قسطا كبيرا من شرعية رئيسهم إنما يأتي من واشنطن بالأساس. ناهيك عن بروز التوجه الأميركي الجديد للرهان على النخب المدنية المنتخبة ديمقراطيا والتي تتمتع بظهير شعبي واسع، بدلا من النخب العسكرية، التي تآكل الطلب الشعبي عليها كما لم يعد مرحبا بها عالميا في ظل الموجة الرابعة من الديمقراطية.

وقد شكل تواتر لقاءات المسؤولين الأميركيين مع قيادات إخوانية، سواء إبان زياراتهم للقاهرة أو أثناء زيارات وفود إخوانية لواشنطن والالتقاء بعدد من المسؤولين في الإدارة والكونغرس الأميركيين، أحد أبرز عوامل الترويج لحديث الصفقة.

وتفاقمت شكوك الكثيرين حول دور واشنطن في ترتيب الأوضاع بمصر ما بعد مبارك على خلفية الضغوط التي عكفت إدارة أوباما على إمطار المجلس العسكري بها لحمله على نقل السلطة كاملة للرئيس المدني المنتخب، أي الدكتور مرسي مرشح جماعة الإخوان، إلى حد دفع المشير طنطاوي للقول إن القوات المسلحة لن تسمح لفصيل واحد بالسيطرة على مصر وإن جهات أجنبية تحاول الوقيعة بين الجيش والشعب، وما تلا ذلك من وفاة مفاجئة وغامضة للواء عمر سليمان في أميركا، وبحوزته غابة من الأسرار لم تكن واشنطن أو تل أبيب بمنأى عنه.

وقبل أيام، أفادت صحيفة الدستور المصرية بأن النائب الجمهوري فرانك وولف، ينوي التقدم بمذكرة قانونية للكونغرس يطالب فيها بالتحقيق مع أوباما وهيلاري كلينتون في مستندات لجهات أمنية أميركية تؤكد تورطهما في دعم مرشح جماعة الإخوان الدكتور مرسي بخمسين مليون دولار في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية، وذلك ضمن صفقة بين الطرفين يصل بمقتضاها مرسي لسدة السلطة نظير تعهده بحماية أمن إسرائيل ودعم المصالح الأميركية.

وأثناء زيارتها الأخيرة للقاهرة، امتنع عدد من الشخصيات السياسية القبطية عن حضور لقاء دعت إليه وزيرة الخارجية الأميركية، احتجاجا على ما عدوه اهتماما مفرطا من واشنطن بتيارات الإسلام السياسي منذ تنحي مبارك على حساب بقية الأحزاب والقوى المدنية بلغ حد دعم صعود الإسلاميين إلى سدة السلطة في مصر، ثم النهج الطائفي الذي تبنته الوزيرة حينما آثرت الالتقاء بممثلي الإخوان وحدهم ثم بالسلفيين ثم بشخصيات مسيحية بعد ذلك.

ضغوط على العسكري
ربما تكون التصريحات الساخنة المتبادلة بين واشنطن والمجلس العسكري قد حسمت الجدل بشأن ضغوط طفقت الأولى تمارسها على الأخير منذ تنحي مبارك في فبراير/شباط 2011 لحمله على تبني سياسات محددة على الصعيدين الداخلي والخارجي، بما يتماشى والمصالح الإستراتيجية الأميركية.

فلم تتوان إدارة أوباما في استغلال كل ما بحوزتها من أوراق ضغط في هذا المضمار، فاقتصاديا رهنت المساعدات العسكرية السنوية للجيش المصري التي تبلغ قيمتها 1.3 مليار دولار فضلا عن مساعدات أخرى مدنية بقيمة 250 مليون دولار، بنقل المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة كاملة للشخصيات والمؤسسات المدنية المنتخبة ديمقراطيا، واحترام مبادى الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ردا على انتقادات كلينتون للمجلس العسكري, أكد المشير طنطاوي أن القوات المسلحة لن تسمح بأن تكون مصر لمجموعة واحدة دون بقية المصريين، وهي التصريحات التي عدتها جماعة الإخوان محاولة لتشويهها بأسلوب ممنهج ورخيص

وبدورها، لم تتورع هيلاري كلينتون عن تكييل الانتقادات والاتهامات للمجلس العسكري بالفشل في إدارة المرحلة الانتقالية بعد أن طالبته بتسليم السلطة للفائز في أول انتخابات رئاسية والتوقف عن مساعي التدخل والهيمنة، متهمة إياه بإفساد السلطة القضائية وتسييسها من خلال إيعازه بإصدار حكم المحكمة الدستورية ببطلان مجلس الشعب.

وردا على تصريحات كلينتون، أكد المشير طنطاوي عقب لقائه بها أن القوات المسلحة لن تسمح بأن تكون مصر لمجموعة واحدة دون بقية المصريين. وهي التصريحات التي عدتها جماعة الإخوان محاولة لتشويهها بأسلوب ممنهج ورخيص، مشددة على أن السلطة التي تبدو مؤقتا مشتركة بين المشير والرئيس ستؤول في النهاية للرئيس المنتخب.

وبالتوازي، نزعت دوائر صناعة الرأي العام الأميركي إلى تحميل المجلس العسكري مسؤولية تعثر التحول الديمقراطي في مصر، ليس بسبب المخاوف من "الشتاء الأصولي" الذي تمثل في هيمنة جماعة "الإخوان المسلمين" على الأطر الدستورية الثلاثة الأساسية التي أفرزتها الثورة، كمنصب الرئيس، ومجلس الشعب قبل حله، والجمعية التأسيسية، ولكن لكون المجلس العسكري، "معاديا للديمقراطية ويتصرف كدولة داخل الدولة بشكل أفضى إلى تراجع ثقة المصريين فيه".

استبقاء صداقة العسكر
كونها تعي أن الرئيس المدني الإخواني المنتخب لن يستطيع مباشرة صلاحياته كاملة بمنأى عن العسكريين، ولو مرحليا على الأقل، أبت واشنطن إلا أن تتعامل مع الحالة المصرية وكأن بها رأسين للسلطة هما الرئيس مرسي والمشير طنطاوي، وإن أولت اهتماما أكبر للرئيس المدني المنتخب ديمقراطيا.

وربما يفسر هذا الطرح جنوح كلينتون أثناء زيارتها الأخيرة للقاهرة إلى إجراء مقابلتين رسميتين منفصلتين، كانت أولاهما مع الرئيس المنتخب محمد مرسي وثانيتهما مع المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري، وهو ما انتقده مراقبون كثر بشدة معتبريه محاولة أميركية لإظهار أن للسلطة في مصر رأسين إحداهما مدنية والأخرى عسكرية، وإضفاء شرعية دولية على هذا الوضع الشاذ.
وعديدة هي الاعتبارات التي تدفع بواشنطن لتبني هذا النهج:

– فبداية، لا يزال المجلس العسكري ممسكا بمفاصل السلطة الفعلية في البلاد كما تدين له غالبية مؤسسات الدولة العميقة بالولاء، ولا يزال بحوزة المجلس العسكري مساحة من التأييد الشعبي المستمد من انحيازه للثورة علاوة على رصيد الجيش الهائل لدى الطبقة الوسطى وعموم المصريين.

– لم تحل مساحة التفاهم الواسعة بين الرئيس مرسي وجماعته من جانب والإدارة الأميركية من جانب آخر دون اندلاع بعض بواعث اهتزاز الثقة الوليدة والقلقة بين الطرفين.

فبينما كانت واشنطن تغامر بعلاقاتها الإستراتيجية الوطيدة مع المجلس العسكري بدعوتها إياه لتسليم السلطة كاملة للرئيس المدني المنتخب، لم يتورع ذلك الأخير عن الإشارة في أولى خطبه يوم 29 يونيو/حزيران الماضي إلى السعي للإفراج عن الشيخ الضرير عمر عبد الرحمن، الزعيم الروحي للجماعة الإسلامية المحبوس في السجون الأميركية مدى الحياة.

لم تحل مساحة التفاهم الواسعة بين الرئيس مرسي وجماعته من جانب والإدارة الأميركية من جانب آخر دون اندلاع بعض بواعث اهتزاز الثقة الوليدة بين الطرفين

وعلى الفور ردت كلينتون بالتأكيد على أن الشيخ حوكم بموجب الإجراءات القانونية الصحيحة وأدين عام 1995 لمشاركته في أنشطة إرهابية كتفجير مركز التجارة العالمي بنيويورك عام 1993، وفي التخطيط لشن اعتداءات أخرى بينها مهاجمة مقر الأمم المتحدة، وحكم عليه استنادا على أدلة واضحة ومقنعة بالسجن مدى الحياة.

ورغم أن مرسي حاول تدارك الموقف بتجنبه التعرض لهذه القضية أثناء مباحثاته مع كلينتون إبان زيارتها الأخيرة للقاهرة، فإن مجرد تحريكه لها قد أثار استياء الأميركيين الذين اعتبروا ذلك مبعث قلق حقيقي من سياسات مرسي المحتملة حيال ملفات مهمة في العلاقة مع واشنطن كالتعاون الأمني والاستخباراتي والتنسيق بشأن مكافحة الإرهاب.

وفي حين اعتبر مسؤولون أميركيون تلويح مرسي بقضية الشيخ عمر أمرا عدائيا يمثل إهانة لضحايا مركز التجارة العالمي، ارتأى محللون أنه ربما يزيد أسهمه لدى المصريين التواقين لرئيس غير خانع لواشنطن، لكنه قد يقوض جهود الإخوان المسلمين لإقناع العالم بنبذ العنف وتبني الخيار الديمقراطي.

وفيما يخص العلاقة مع إسرائيل، أثار تولي مرسي الرئاسة مخاوف لدى تل أبيب بشأن مستقبل معاهدة السلام الموقعة بين البلدين عام 1979، ورغم إعلان مرسي التزامه بالاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها بلاده، بما فيها تلك المعاهدة، لم يبد استعدادا لاستقبال مسؤولين إسرائيليين. ومن جانبها، لفتت صحيفة "واشنطن تايمز" الأميركية إلى أن ثقة واشنطن في التزام الرئيس الجديد باتفاقية السلام مع إسرائيل لا ترقى إلى نظيرتها في نظام الرئيس المخلوع، إذ لا يبدو الحفاظ على المعاهدة ضمن أولوياته الإستراتيجية.

– يصعب الجزم بأن هناك موقفا أميركيا واحدا إزاء ما يجري في مصر منذ تنحي مبارك، فثمة تياران داخل واشنطن في هذا الصدد، أولهما يرى أن تحول مصر لدولة ديمقراطية من شأنه أن يضيف إلى رصيد قوتها الناعمة في المنطقة، بما قد يشجعها على تبني سياسات مناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل. لذا لم يخف هذا التيار، الموالي لإسرائيل، تأييده استمرار إدارة المجلس العسكري للبلاد توخيا لاستبقاء صيغة العلاقات التي سادت بين البلدين طيلة عهد مبارك، حتى إن الكونغرس كثف ضغوطه على الإدارة الأميركية للحيلولة دون هيمنة جماعة الإخوان على الحكم، كما طالب عدد من قيادات لجنة المخصصات المالية في مجلس النواب بتجميد المساعدات الأميركية لمصر حالة حدوث ذلك.

أما التيار الآخر المنتشر في مؤسسات التفكير الأميركية المستقلة، فيرى أن سقوط نظام مبارك قد ولد تحولا لافتا في العلاقات المصرية–الأميركية، يفرض على إدارة أوباما دعم التحول الديمقراطي في مصر والتباحث مع نظامها الجديد المنتخب ديمقراطيا كما كل القوى والتيارات السياسية الجديدة، بغير تمييز، توطئة لتدشين علاقات جديدة بين البلدين، قوامها الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.

– على عكس ما ألفت واشنطن في علاقاتها بمصر طيلة ما يربو على ستة عقود خلت، لم يعد الطرف المصري مختزلا في شخص واحد هو رئيس الدولة، دون إعارة أدنى اهتمام لفاعلين آخرين.

فقد أسهمت الثورة الشعبية في تعظيم دور فاعلين سياسيين جدد كالقوى الثورية والأحزاب والرأي العام والمجلس العسكري والرئيس المنتخب والأزهر والكنيسة والبرلمان المرتقب. وهو ما دفع بصحيفة "واشنطن بوست" الأميركية إلى القول إن واشنطن بعد مبارك، وعلى عكس ما كان في السابق، باتت تتعامل مع شريك مصري أشد تعقيدا كونه متعدد الرؤوس.

على عكس ما ألفت واشنطن في علاقاتها بمصر طيلة ما يربو على ستة عقود خلت، لم يعد الطرف المصري مختزلا في شخص واحد هو رئيس الدولة، دون إعارة أدنى اهتمام لفاعلين آخرين

– ثمة قناعة لدى دوائر أميركية عديدة بأن الرئيس مرسي سيغرق في بحار من المشاكل الداخلية التي يتصدرها ملفان بالغا الأهمية هما الملف الاقتصادي وملف الصلاحيات. وإبان زيارتها الأخيرة لتل أبيب وأثناء طمأنتها الإسرائيليين بخصوص نوايا مرسي حيالهم، أكدت كلينتون أن انشغاله بتحديات داخلية معقدة كالصراع على الصلاحيات والتصدي للمعضلة الاقتصادية سيحول دون تفكيره في الإخلال بأسس العلاقات مع تل أبيب.

ففيما يخص الملف الأول، الذي بناء عليه سيقيم غالبية المصريين أداء رئيسهم الجديد، ارتأت صحيفة "واشنطن تايمز" الأميركية أن الاقتصاد السياسي لثورة مصر سيجبر الرئيس مرسي وجماعة الإخوان على الاعتدال في سياستهم الخارجية، خصوصا حيال واشنطن، توخيا لاستجداء الدعم الاقتصادي منها، إن كان ذلك الدعم المباشر كالمساعدات والاستثمارات مقابل حزمة من إجراءات تعاون عسكري وأمني، أو غير المباشر المتمثل في تلقي قروض ميسرة من المؤسسات والمنظمات المالية والاقتصادية الدولية المانحة التي تسيطر عليها واشنطن.

أما بخصوص ملف الصراع على السلطة، فيرى خبراء أميركيون أن رئيس مصر الجديد سيهدر وقتا وجهدا هائلين في نزاع مركب على السلطة مع منافسين وخصوم كثر كالمجلس الأعلى للقوات المسلحة والقضاء، إضافة إلى السلفيين وبعض القوى الثورية والمدنية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.