للمنصف "المغيّر".. الديناميكية اللولبية!

العنوان: لـ"المنصف المغيّر" .. "الديناميكية اللولبية"! - عبدالله البريدي - عبدالله

 undefined

كتب المفكر الرئيس -وليس الرئيس المفكر- الدكتور المنصف المرزوقي مقالاً معمقاً ومعبراً في موقع الجزيرة نت بعنوان "تونس.. إلى أين؟" (يوم 5/7/2012)، وصدّره بقول ذي دلالة بليغة ومؤلمة، حيث يقول "من يتأمل الوضع في تونس اليوم لا يرى إلا الأزمة.. إنها أزمة عميقة معقّدة متتابعة مثل موجات المحيط، في كل الميادين".

مقاله السابق، دفعني إلى إفشاء جزء من بحث أشتغل عليه، وهو يعالج مسألة التغيير ويعرض لنظرية علمية دقيقة، وأحسب أن الوضع في تونس وبقية دول الربيع العربي، بل في جميع الدول العربية، يمكن أن يَفيد بشكل جيد من تلك النظرية العلمية التي قيل عنها إنها "نظرية لكل شيء"، وذلك من فرط قدرتها التفسيرية وقوتها التنبؤية إزاء التغيير في الراهن والمستقبل. وهي نظرية -كما سنعلم- قديمة نسبياً، إلا أنها لم تنل أي اهتمام بحثي في الأدبيات العربية.

الديناميكية اللولبية والميمات
نظرية "الديناميكية اللولبية" أوردها بيك وكوان في كتابهما الصادر عام 1996 بعنوان "الديناميكية اللولبية"، وهي حصيلة تراكمية أفادت من جهود وإسهامات بحثية امتدت لنحو أربعين عاما، وقد اتكأت بشكل جوهري على أعمال عالم النفس الأميركي كلير غريفز في ستينيات القرن العشرين. كما أفادت من إسهامات عالم الأحياء البريطاني ريتشارد داوكنز في كتابه "الجينة الأنانية"، إضافة إلى إسهامات عالم النفس البولندي الأميركي ميهالي سيكسنتميهالي في كتابه "الذات المتطورة".

ومن المصطلحات المحورية في نظرية الديناميكية اللولبية مصطلح "الميمات" (ومفردها ميم)، وقد اقترحه ريتشارد داوكنز عام 1976 في كتابه المشار إليه سابقاً. وقد نحت داوكنز هذا المصطلح كي يستخدم في الفضاء الثقافي كمقابل لمصطلح "الجينات" الذي يستخدم في الفضاء المادي أو الوراثي على وجه التحديد، ومن ثم فالميمات ينظر إليها كما لو كانت "الحمض النووي للثقافة"، حيث إنها تعمل كوحدة للانتقال الثقافي عبر مسارات التقليد والمحاكاة، وبعبارة أخرى تعمل كناقل للأفكار أو الرموز أو الممارسات الثقافية من عقل إلى آخر عبر الأحاديث والكتابة والفن والقدوات العملية ونحو ذلك.

فنحن -بحسب داوكنز- حين نموت لا نخلّف فقط بعض جيناتنا، بل قدراً من الميمات أيضاً ولفترات أطول لأنها تحمل أفكاراً ذات أعمار مديدة. ويعتمد انتشار الميمات على مستوى قبولها وكارزميتها في الوسط الاجتماعي التي تسعى إلى ترسيخ نفسها فيه، مع اتصاف الميمات بالتنافس والتآمر فيما بينها لكي تثبت أطول فترة ممكنة، مع سعيها إلى طرد الميمات المنافسة لها، في استعارة مع "الجينة الأنانية" (داوكنز 1976).

وقد أشار المنصف المرزوقي إلى بعض "الميمات" التي ظلت تنتقل من "دماغ" ومن "جيل" إلى آخر، وهو يتمنى نقيض ذلك، كما ألمح إلى "ميمات" جديرة -في رأيه- بأن تحظى بتأشيرة الانتقال عبر الأدمغة والأجيال، فهو يقول "يجب هنا أن أوضح رؤيتي للقيم، وأنه لا علاقة لها بالأخلاقية الجوفاء، التي يتحايل بها الضعفاء على الأقوياء لضمان مصالح يعجزون عن فرضها، ولا تلك التي يتحايل بها الأقوياء على الضعفاء لمزيد من الاستغلال. القيم بالنسبة لي حصيلة تجربة الأجيال التي سبقتنا والتي تعلمت فيما يخص فضيلة الصدق مثلا، أن الكذب لا يجدي نفعا، فتأتينا بمثل هذه المقولات والتحذيرات "إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى".. قس على نفس المنوال في كل الميادين. يا لعجبي من الذين يتجاهلون هذا الكنز من التجارب والتحذيرات والإشارات إلى الطريق الصحيح، فيعيدون تصرفات فاشلة، لينتهوا في آخر المطاف إلى نفس الاستنتاجات التي وصل إليها كل من مروا قبلهم عبر القرون على وجه البسيطة!".

وما سبق، يؤكد وجود حاجة ماسة إلى تنفيذ ما يشبه "المسح الفكري" لتحديد الأفكار المحورية -الميمات الكبيرة- التي يتعين انتقالها وتلك التي يفضل عدم انتقالها، وهي -كما نعلم- مهمة عسيرة للغاية، ولكن حسبنا التباحث حولها واستفراغ الوسع حيالها.

ويجب ألا يغرب عن البال أن مصطلح "الميمات" قد انحاز إلى "الأفكار" وعكس ديناميكية انتشارها من دماغ إلى آخر بطريقة ما، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الإنسان جهاز "استقبال سلبي" لهذا "الميم" أو ذاك دون تفحص وتمحيص، حيث إنه يتوفر على جهاز معرفي راق، كما أن لديه "مصفاة" لعملية الفرز والتقييم ومن ثم الاستبقاء أو الاستبعاد، وهي مصفاة الثقافة واللغة، الأمر الذي يجعلنا نقر بوجود قدرٍ محتوم من "التحيز".

التغيير من منظور الديناميكية اللولبية
وفق هذا المنظور، التغيير معطًى أو نتيجة حتمية، نظراً للتغير المستمر في "شروط الحياة" و"طرائق التفكير". ويؤكد بيك وكوان أن "الأزمنة المختلفة تنتج عقولاً مختلفة" (بيك وكوان، 1996:17)، ويشيران إلى أن التغيير الحادث في أي منهما عادة ما يستثير "ميمات جديدة" ذات قوة تفسيرية ومستويات مرتفعة من القبول والكارزما والقابلية للنقل برموز ملائمة في المحيط الثقافي والاجتماعي التي تنشأ أو تنتشر فيه. وقد عبر غريفز عن التأرجح الدائم بين التغيير والثبات النسبي بمقولة دقيقة جاء فيها أن "التغيير ليس هو القاعدة، كما أن الافتقار إلى التغيير ليس هو القاعدة أيضاً" (بيك وكوان، 1996: 74).

نظرية الديناميكية اللولبية لم تكتب بعد الربيع العربي، وإنما سبقته بسنوات عديدة، حتى لا يعتقد البعض أنها كتبت خصيصاً للربيع العربي، وذلك ناتج من قدرتها المدهشة تفسيراً وتنبؤاً

التغيير -من منظور النظرية- يمر بمراحل خمس يأخذ بعضها برقاب بعض في سياق لولبي، وسأستعرضها بشكل مختصر، معيداً التأكيد أن تلك النظرية لم تُكتب بعد الربيع العربي، وإنما سبقته بسنوات عديدة، واستعراضي لها سيكون بشكل مجرد ووفق ما جاءت في الكتاب. والسبب في هذا الإيضاح أن البعض قد يعتقد بأنها كتبت خصيصاً للربيع العربي، وذلك ناتج عن قدرتها المدهشة، تفسيراً وتنبؤاً.

يمر التغيير -على مستوى الأسرة أو الجماعة أو المنظمة أو المجتمع أو الثقافة أو الدولة- بالمراحل التالية (بيك وكوان 1996):

المرحلة الأولى- توازن ألفا:
تتسم أوضاع المجتمع في هذه المرحلة بالاستقرار والتوازن/التناغم بين "شروط الحياة" و"طرائق التفكير"، إلا أنه توزان/تناغم مخادع، وذلك أنه استقرار ظاهري (شكلي)، إذ ثمة تغير وحَراك يكمنان في القشرة العميقة، مما يوحي بتجاوز مرحلة التوازن/التناغم بطريقة ما وفي وقت ما، وذلك نابع من حتمية التغير في شروط الحياة وطرائق التفكير. وستعجز الحلول المولدة لحل مشاكل هذه المرحلة عن الإبقاء على وضع التوازن/التناغم إلى الأبد، وذلك أن من طبيعة تلك الحلول أنها تولّد أجيالاً من المشاكل الجديدة. وما سبق يؤذن بالانتقال إلى "مرحلة بيتا".

المرحلة الثانية- وضع بيتا:
تشهد هذه المرحلة حالة من عدم التأكد والغموض والشكوك والإحباط، ويتفشى شعور بوجود خطأ ما ممزوج بحنين إلى الأيام السابقة (Nestalgia)، وتعجز الأساليب القديمة عن الوفاء بالاحتياجات والتطلعات الراهنة، مما يؤذن ببدء عملية تفكك للأوضاع القائمة، وتخلّق مشاكل جديدة يشعر بها الناس، بطريقة قد لا يتمكنون في بدايات نشوئها من التعبير عنها بوضوح كافٍ فضلاً عن تبريرها، مع تنامي مشاعر عدم الارتياح والإحباط في النفوس أكثر منها في العقول.

ونظراً للغموض الذي يكتنف هذه المرحلة فإن ثمة من يسعى إلى استعادة الأساليب القائمة في مرحلة ألفا (السابقة) لاعتقاده بأنها صالحة، مع دفع الناس إلى بذل المزيد من الجهود والاتصاف بالجدية والذكاء، وربما يتم توجيه موارد إضافية علها تفلح في ردم الفجوة المتزايدة. ومثل تلك المبادرات قد تنجح في استعادة التوازن من جديد، ومن ثم العودة إلى وضع ملائم من "ألفا"، وقد تفشل تلك الجهود وربما تتسبب في جعل الأوضاع أسوأ، الأمر الذي يدفع المجتمع إلى المرحلة الأعمق من بيتا (بيتا العميقة)، بطريقة تجعل من المتعذر العودة إلى "ألفا" القديمة، وهنا نكون قبالة الانتقال الذي لا مفر منه إلى "مرحلة غاما".

المرحلة الثالثة- فخ غاما:
هذه المرحلة تكون محمّلة بمشاعر الغضب وفقدان الأمل والميل نحو التمرد أو الجموح، مع مراعاة أن الانتقال من مرحلة "بيتا" إلى "غاما" يكون مصحوباً بزيادة معيقات استعادة التوازن من جديد. كما تشهد هذه المرحلة نوعاً من الوضوح في الرؤية حول الأوضاع الرديئة والمتردية، وبغض النظر عن مدى دقة الإدراك، فإن الناس يبدؤون ببلورة "رؤية جديدة" حول أسباب تلك الأوضاع واتجاهاتها.

ومع ذلك، فثمة شيء من الاحتمال بإمكانية تصحيح الأوضاع وتحسينها، بشرط توافر أكبر قدر ممكن من مقومات التغيير المستهدف. وفي حال عدم توافرها بالقدر الكافي فإن ذلك يعني التورط في فخ غاما (أو غاما العميقة) مع تزايد ملحوظ للإحباط والغموض، مما يسبب انتقال المجتمع إلى درجات أكبر من الغضب وعدم الاستقرار، مع تقلص هوامش الانتظار لمعرفة أين أو كيف ستتجه الأوضاع؟ كما هي في مرحلة "بيتا"، حيث يغلب على الناس في مرحلة "غاما" شعور بأنهم لن يخسروا شيئاً من جراء التردي الكبير في الأوضاع، وستنتشر بشكل أكبر مشاعر الغضب والإحباط والغموض واليأس، وسيصل الألم إلى الروح، وستتعاظم معيقات استعادة التوزان -سواء أكانت حقيقية أم متخيلة- بما يرسخ تورط المجتمع في "فخ غاما" ويجذر مشاعر الشك وانخفاض حاد للثقة الذاتية والقدرة الذاتية، والرغبة في الهروب وتكسير الحواجز والتابوهات. وكل ما سبق يمهد انتقال المجتمع إلى "مرحلة دلتا".

في المرحلة الخامسة من النظرية يكون المجتمع قد حقق مبتغاه من التغيير واستعاد التوازن/التناغم بين شروط الحياة وطرائق التفكير بقدر كافٍ، يؤذن بالانتقال إلى مرحلة ألفا الجديدة

المرحلة الرابعة- جيشان دلتا:
في هذه المرحلة تحدث حالات من خرق القواعد والتمرد على الأوضاع القائمة، وتتخلّق مشاعر جديدة مضمونها تحمّل المسؤولية لمواجهة التبعات والأقدار المحتومة في التغيير، ويتفشى الشعور بأن الماضي لم يعد حاكماً على الحاضر، مما يدفع الأوضاع إلى تغيرات سريعة وتخطي العوائق والتابوهات بحماسة أكبر من قبل الناس، مع بحثهم عما يشبه "اليوتويبا" التي تشكّل "نواة ألفا الجديدة". وفي هذه المرحلة تتعاظم المخاطر، غير أن الشعور "الثوري" يترسخ أكثر فأكثر، الأمر الذي قد يدفع الناس إلى معاقبة بعض النخب والمتنفذين، لاعتقادهم بأنهم سبب التردي في الأوضاع السابقة، وأنهم يمثلون العائق الأكبر للتغيير المنشود. وكل ذلك يدفع المجتمع إلى تغييرات دراماتيكية كبيرة.

المرحلة الخامسة- ألفا الجديدة:
هذه المرحلة تعكس قدراً أكبر من التماسك لأفكار التغيير التي تبلورت في المراحل السابقة، مع اتجاه الأوضاع إلى الهدوء والاستقرار بعد التغيرات الدراماتيكية السابقة. وكل ما سبق يشي بأن المجتمع قد حقق مبتغاه من التغيير واستعاد التوازن/التناغم بين "شروط الحياة" و"طرائق التفكير" بقدر كافٍ، يؤذن بالانتقال إلى مرحلة "ألفا الجديدة". وهكذا دواليك، فالأوضاع الجديدة مرشحة لدورة جديدة من التغيير اللولبي في دورة تغيير جديدة.

حول الذكاء الجمعي
أتفق تماماً مع الدكتور المرزوقي حول ضرورة تفعيل "الذكاء الجمعي"، وهنا ربما يجدر التأكيد أن الذكاء ليس مقياساً يتفاوت فيه الأفراد وحدهم ويتمايزون فيما بينهم، بل تتفاوت وتتمايز فيه المجتمعات أيضاً، فيقل نصيبها منه أو يكثر.

والذكاء الجمعي يعكس الذكاء الإجمالي للمجتمع وليس ذكاء أفراد المجتمع، ومؤشر ارتفاع "الذكاء الجمعي" إذن لا يتحقق بمجرد توافر عدد من الفلاسفة والعباقرة والعلماء في هذا المجتمع، وإنما بقدرته الفائقة على تحقيق أهدافه المشتركة، والوصول إلى مستويات عالية من التحضر والاستقرار السياسي والاجتماعي، والتمتع بدرجة عالية من "التكيف الحاذق" مع التغيرات الديناميكية التي تعصف به، بل والتكييف البارع لها (انظر كتابي: أسرار الهندسة الاجتماعية، 2011).

وكلمتي الأخيرة، أننا -في جميع الدول العربية- بحاجة ماسة إلى إعادة النظر بشكل معمق في أوضاعنا، وما يكتنفها من حيثيات وتغييرات كبرى وعوامل متشابكة معقدة. وفي اعتقادي أن نظرية "الديناميكية اللولبية" تقدم مستوى جيداً من التفسير والتنبؤ، بل إنها تعين كل دولة على تحديد المرحلة التي تمر بها حالياً، مع فتح الأبواب لكل المشاريع الإصلاحية الحقيقية، وإعادة التأكيد على ضرورة الإسراع في بلورة تلك المشاريع، قبل أن ترتفع التكاليف وتعظم المخاطر.. "وقل اعملوا"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.