محاكمة مبارك وانتخابات الرئاسة المصرية

العنوان: محاكمة مبارك وانتخابات الرئاسة المصرية

undefined

إحباط سياسي
نوستالوجيا ثورية
صعوبة التنبؤ
تأثير متواضع

ما بين انطباعات سلبية وردود أفعال متشنجة خلفتها المرحلة الأولى من محاكمة مبارك والتي واكبت إجراء الانتخابات الرئاسية، برأسه أطل التساؤل حول تأثير تلك المحاكمة على الجولة الثانية من أول انتخابات رئاسية تنافسية تشهدها مصر بعد الإطاحة بالرئيس المخلوع.

إحباط سياسي
لم يكن تأثير محاكمة مبارك على الانتخابات الرئاسية وليد يوم النطق بالحكم فقط وإنما يعود إلى ما قبل إجراء الجولة الأولى من الانتخابات، حيث كانت تستبد بغالبية المصريين حالة من الإحباط السياسي الشديد على أكثر من صعيد. فما برحت الأوضاع الأمنية والاقتصادية المتدهورة تنذر بتأخر موعد جنى ثمار الثورة. وما زالت المرحلة الانتقالية حبيسة الارتباك والتعثر بجريرة إخفاق القوى السياسية في التوافق حول سبل استيفاء الاستحقاقات الأساسية كالدستور والانتخابات الرئاسية وغيرها.

وبالتوازي، كان الغموض والتشتيت يلفان محاكمة مبارك ورموز نظامه مع الافتقار للأدلة الثبوتية التي تدينهم بعد أن نجحت أجهزة عديدة موالية لهم في تبديد وإتلاف تلك الأدلة خلال فترة الستة أشهر الممتدة ما بين تنحي مبارك في فبراير/شباط 2011 وبدء المحاكمة في أغسطس/آب من ذات العام، وهو ما ترافق مع سعي دفاع مبارك الحثيث لتوسيع دائرة الاتهام في القضية وتفريعها لتطال عددا من المسؤولين داخل المجلس العسكري وخارجه توخيا لتشويه معالمها وإطالة أمد الفصل فيها.

تفاقمت حالة الإحباط السياسي إثر صدور أحكام المرحلة الأولى من محاكمة القرن، بعد تبرئة مبارك ونجليه وحسين سالم في قضايا الفساد المالي بما يسد الطريق أمام استعادة الأموال المنهوبة والمهربة للخارج

ولقد تفاقمت حالة الإحباط السياسي إثر صدور أحكام المرحلة الأولى من محاكمة القرن، والتي برأت مبارك ونجليه وحسين سالم في قضايا الفساد المالي بما يسد الطريق أمام استعادة الأموال المنهوبة والمهربة للخارج، ثم حصول مساعدي العادلي على البراءة في قضية قتل المتظاهرين فيما يشي بإمكانية تخفيض الحكم على مبارك والعادلي إلى مستوى مماثل خلال الدرجات التالية من التقاضي.

وكان من شأن تزامن تلك الأحكام الصادمة مع نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، أن زج بزرافات من القوى السياسية والتيارات الثورية إلى ميدان التحرير مجددا، مطالبين بمحاكمات ثورية لمبارك وأعوانه، وتطبيق قانون العزل السياسي وإلغاء الانتخابات الرئاسية وتشكيل مجلس رئاسي مدنى، وهى مطالب أقل ما توصف بأنها محاولة للعودة إلى المسار الثوري كما الانقلاب أو الردة على العملية السياسية التي سبق لغالبيتهم الارتضاء بها عقب تنحي مبارك، لكن سرعان ما ضاقوا بها ذرعا بعدما تبين لهم أنها تمضي في الاتجاه المعاكس للمسار الثوري.

نوستالوجيا ثورية
بقدر ما تطوى الثورات بين ثناياها من سمات وملامح إيجابية، فإنها لا تخلو في ذات الوقت من تداعيات سلبية شتى من أبرزها جنوح العملية السياسية الديمقراطية التي تنطلق إبان المراحل الانتقالية للثورات باتجاه إعادة إنتاج النظام الذي اندلعت من أجل إسقاطه تلك الثورات.

فقد تحل دكتاتورية شخص أو دكتاتورية أيديولوجيا محل الدكتاتورية البائدة، وقديماً كان أرسطو يقول: "الحكم الاستبدادي قد يتحوّل أيضاً إلى حكم استبدادي". كذلك، فإن الثورة والديمقراطية لا تتلازمان بالضرورة، وإلا بماذا نفسر مثلا إفراز ثورات عظيمة شهدتها دول كروسيا والصين نظم حكم غير ديمقراطية باسم "دكتاتورية البروليتاريا"، أو إنتاج الثورة الإيرانية لنظام حكم ثيوقراطي يهيمن عليه رجال الدين؟!

ولطالما وقعت ثورات شتى حول العالم في براثن إعادة إنتاج النظام السابق عبر انتخابات تقترب كثيرا من الشفافية والنزاهة. ويحضرنا ههنا نموذجان: أولهما، نموذج الثورة الرومانية في عام 1989، حينما تمكن إيون إيليسكو أحد رجالات الدكتاتور المخلوع تشاوشيسكو من خوض أول انتخابات رئاسية والفوز فيها ليصبح أول رئيس لرومانيا بعد الثورة ويظل في السلطة من عام 1990 وحتى عام 2004 ، وهو ما خوله الالتفاف على ثورة الشباب وإجهاضها توطئة لإعادة إنتاج النظام السابق.

وفي أوكرانيا، أفرزت الفترة الانتقالية للثورة البرتقالية التي اندلعت عام 2004 بيئة سياسية مهدت لإعادة إنتاج نظام ما قبل الثورة. حيث أفضى إخفاق يوشانكو أول رئيس منتخب بعد الثورة إلى فوز الرئيس السابق يانكوفيتش، الذى من أجل إسقاط نظامه تفجرت الثورة، في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2010.

وفي مصر اليوم، تكاد تشي معطيات مشابهة لتلك التي شهدتها كل من رومانيا وأوكرانيا، بإمكانية تكرار ذات السيناريو خلال المرحلة الانتقالية لثورة 25 يناير2011 . ومن أبرز تلك المعطيات:

– تعاظم الفجوة بين المسار الثوري والعملية السياسية المترتبة عليه. ففي حين تعد الثورة حدثا استثنائيا بالأساس ينتظر منه إحداث تغييرات جذرية تطال كافة مناحي الحياة، وفق آليات التغيير الثوري، وليس من خلال الأدوات والوسائل التقليدية التي تعتمد نتائجها في الأصل على موازين القوى السياسية بين الفاعلين السياسيين كالانتخابات وغيرها، لا تتورع تلك الأخيرة عن تمهيد السبيل لصعود الفصيل الأكثر خبرة وجاهزية، وهى معايير لا تتوفر بالطبع لدى صناع الثورة الذين يشكلون لاعبا جديدا على الساحة السياسية تنقصه الخبرة وتعوزه الإمكانات.

بات المصريون بصدد عملية منظمة وممنهجة لإعادة إنتاج نظام ما قبل الثورة، لاسيما بعد أن تمخض الاستحقاقان البرلماني والرئاسي عن انبعاث حالة الاستقطاب السياسي الحاد ما بين الإخوان المسلمين والحزب الوطني المنحل

ومن ثم، بات المصريون بصدد عملية منظمة وممنهجة لإعادة إنتاج نظام ما قبل الثورة، لاسيما بعد أن تمخض الاستحقاقان البرلماني والرئاسي عن انبعاث حالة الاستقطاب السياسي الحاد ما بين جماعة الإخوان المسلمين والحزب الوطني الديمقراطي المنحل، مع تبدل الوضع القانوني للمتنافسين، ليغدو الأخير "منحلا" أو "محظورا" فيما تعتلى الأولى والتي كانت "محظورة" فيما مضى، صدارة المشهد السياسي.

– نجاح مخططات شيطنة الثورة، فقد تسنى لقادة الثورة المضادة، من خلال تشجيع الانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي والتراخي في التعاطي معهما، في ترسيخ قناعات لدى غالبية المصريين بأن ثورة يناير هي المسؤولة عن غياب الأمن وإرباك الاقتصاد وتعثر كافة أوجه الحياة. الأمر الذى أسفر عن تبدل أولويات الناخبين من تحقيق الديمقراطية ومحاربة الفساد واستعادة الكرامة الوطنية وبلوغ العدالة الانتقالية إلى التماس الأمن وتحصيل لقمة العيش.

وبتزامن ذلك مع تأخير موعد الانتخابات الرئاسية لعام ونصف العام بعد اندلاع الثورة، بدأت وعود المرشحين المحسوبين على النظام السابق في الانتخابات الرئاسية بتلبية تلك الاحتياجات الأولية تلقى آذانا صاغية لدى قطاعات واسعة من المصريين، خصوصا بعد تبريد الثورة وتراجع وتيرة تفاعلهم مع الحالة والفعل الثوريين.

– تعجل غالبية المصريين جني ثمار الثورة وافتقادهم للقدرة على الصبر لحين اكتمال نضجها، وهو ما ترافق مع غياب البديل الملائم بعد إسقاط النظام الذي اعتادوا عليه طيلة عقود وأقلم الكثيرون منهم أوضاعهم على محامده ومثالبه. فمع عجز القوى السياسية المدنية والثورية عن التوافق والتنسيق فيما بينها أو بلورة رؤية أو بديل مناسبين، تتفاقم ميول قطاع كبير من المصريين باتجاه تأييد عودة النظام العسكري، لاسيما وأن المؤسسة العسكرية تحظى بمكانة خاصة لدى عموم المصريين، الذين يعتقدون في قدرة العسكريين على الأداء الناجع والتصدي للأزمات على عكس الحال بالنسبة للمدنيين.

– عدم رغبة شريحة كبيرة من المصريين في تحمل الكلفة الباهظة للتغيير وتهربهم من تحمل المسؤولية الملقاة على عواتقهم في هذا المضمار، وهو ما يمكن أن نعزوه إلى العلاقة الأبوية والمزمنة بين المصريين والسلطة ونزوع شريحة كبيرة منهم إلى الاستسهال والارتكان إلى الخيار المتاح الذي اعتادوا عليه وتفضيله على آخر لم يألفوه أو يجربوه أو يثقوا حتى في قدراته كالبديل الثوري أو الإسلامي.

– تنامي احتمالات انخفاض نسبة المشاركة السياسية إلى ما دون 30% مع اتساع شريحة المترددين في حسم سلوكهم التصويتي بين الناخبين إلى نسبة تناهز 40%، إضافة إلى تفكير نسبة أخرى لا تقل عن 25% في مقاطعة الانتخابات أو إبطال أصواتها احتجاجا على نتائج الجولة الأولى منها، وهو ما يعظم من فرص مرشحي النظام السابق ويتيح مناخا ملائما للتلاعب بأصوات المقاطعين والمترددين إذا ما استوجب الأمر.

صعوبة التنبؤ
ثمة تحديات شتى ألقت بظلالها على مساعي التنبؤ بالسلوك التصويتي للناخب المصري خلال الجولة المقبلة من الانتخابات الرئاسية، لعل أهمها:

– إخفاق استطلاعات الرأي المتعلقة بالانتخابات الرئاسية في تنوير الناخبين والمرشحين عبر نتائج علمية دقيقة. فقد شكل هذا الإخفاق عامل تثبيط محوري في التنبؤ بنتائج الانتخابات بسبب افتقار تلك الاستطلاعات لقسط كبير من المهنية والموضوعية، فضلا عن عدم التزام وسائل الإعلام بالمعايير العلمية لنشر نتائجها كحجم العينة، وأسلوب جمع البيانات، ونسبة الخطأ ونوعية الأسئلة، الأمر الذي دفع بالمرشحين الرئاسيين الخاسرين حمدين صباحي وأبو العز الحريري، للتقدم بدعوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لوقف نشر نتائج تلك الاستطلاعات، إذ ارتأيا أن عوزها للمهنية جعلها تؤثر سلبا على الناخبين عبر توجيه سلوكهم التصويتي لصالح مرشح بعينه، سواء بإعطائه نسب تأييد مرتفعة، أو وصمه بصفات إيجابية تجافي الحقيقة.

– نزوع شريحة واسعة من الناخبين المحسوبين على تيار الثورة، بأجنحته المختلفة، كالشباب غير المؤدلج، والليبراليين واليساريين، إلى مقاطعة جولة الإعادة من العملية الانتخابية أو إبطال أصواتهم بعد خروج مرشحيهم من السباق في الجولة الأولى، تاركينهم محاصرين بين خيارين يرتؤون أن أحلاهما مر، فإما الإسلام السياسي أو فلول النظام السابق.

– تعقد الخريطة التصويتية، حيث يمكن في هذا السياق، تقسيم الناخبين المصريين إلى فئتين أساسيتين تنبثق عنهما شرائح فرعية. أما الفئة الأولى، فيمثلها المنتمون لأحزاب وتنظيمات سياسية، سواء ذات خلفية أو مرجعية دينية إسلامية كالإخوان المسلمين والسلفيين والأحزاب والحركات المنبثقة عنهم، أو أحزاب مدنية ليبرالية كانت أو يسارية أو حتى غير محددة المرجعية والأيديولوجية كأحزاب عديدة لا يغيب عنها الحزب الوطني المنحل، الذى برز حضوره جليا إبان الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية إثر دعمه للمرشحين المحسوبين على النظام السابق كموسى وشفيق.

يصعب الزعم بأن فئة الملتزمين حزبيا وتنظيميا تمثل ثقلا انتخابيا، إذ لا ينضوي تحت لوائها سوى 3% فقط من مجموع المصريين، ما يجعل من العسير عليها وحدها حسم نتيجة الانتخابات

ويصعب الزعم بأن هذه الفئة تمثل ثقلا انتخابيا، إذ لا ينضوي تحت لوائها سوى 3% فقط من مجموع المصريين، ما يجعل من العسير عليها وحدها حسم نتيجة الانتخابات رغم تصويت غالبية أعضائها على أساس الانتماء الحزبي والتنظيمي، وهو ما يمكن أن نعزوه لأسباب عدة أهمها: قلة عددها وتواضع وزنها التصويتي، فضلا عن إقلاع قطاع غير قليل منها عن التصويت في الجولة الأولى لمرشحي الحركات والأحزاب التي ينتمى لها، أو حتى لأولئك المرشحين الذين أعلنت تلك الأحزاب والحركات دعمها إياهم. ومن شأن عدم زج غالبية الأحزاب والقوى السياسية بمرشحين رئاسيين أن يتيح حرية أكبر لأتباعها في توجيه أصواتهم حسبما يتراءى لهم.

وأما الفئة الثانية، فتشمل غير المنتمين أو الملتزمين حزبيا وتنظيميا، وهى الفئة الأكبر عددا، حيث تتسع لتضم شرائح عديدة كشباب الثورة، وهم مؤيدو الثورة ومرشحيها كحمدين صباحى وخالد على، وتلك شريحة محدودة للغاية، كما أنها تعاني من انقسام واضح، إن بشأن دعم هذا المرشح أو ذاك، أو بخصوص المشاركة في الانتخابات من عدمه. وتتجلى الشريحة الثانية في أنصار النظام السابق والمناهضين للثورة ومعهم من يئنوا من وطأة كلفتها الاقتصادية والأمنية الهائلة، وهم قليلون لكنهم يتزايدون مع طول أمد المعاناة، ثم تأتى أخيرا شريحة "المترددين".

بيد أن هذا الفسيفساء التصويتي المركب في بيئة تتسم بقلق متنام على كافة الصعد، ربما يتمخض عن تحول ملفت في التوجه الانتخابي لقطاع كبير من الناخبين خلال الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بحيث يميل إلى تغليب البرامج والانتماءات السياسية للمرشحين بعد أن كان يعتمد على شخص المرشح فحسب خلال الجولة الأولى.

تأثير متواضع
برغم ما انطوت عليه من صدمة، لا يبدو في حكم المؤكد أن تفضي محاكمة مبارك إلى إحداث تغيير جوهري يطال السلوك التصويتي للناخبين يصب بدوره، مثلما يتوقع البعض، في مصلحة المرشح الإخواني محمد مرسي. ذلك أن ردود الفعل الآنية الغاضبة حيال الأحكام قد اكتنفها سمت انفعالي غالبا ما سيهدأ مع حلول موعد جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية، خصوصا بعد طعن النيابة على الأحكام، واستمرار حبس نجلي مبارك ومدير مباحث أمن الدولة على ذمة قضايا أخرى، فضلا عن تواتر الأنباء بشأن تراجع الحالة النفسية والصحية للرئيس المخلوع بمستشفى سجن طرة.

ويبقى من الصعب تصور حدوث تغير جذري في مواقف الكتل التصويتية الثابتة والمعروفة لكلا المرشحين الرئاسيين جراء المحاكمة، فلا يزال بمقدور الدكتور مرسي حصد أصوات المنتمين لجماعة الإخوان علاوة على المتعاطفين والمتحالفين معها من السلفيين والثوريين والتيارات الأخرى، كما في وسع الفريق شفيق جني أصوات الحزب الوطني المنحل علاوة على الباحثين عن الاستقرار الأمني والاقتصادي والمتوجسين من صعود الإخوان كالعلمانيين والمسيحيين وغيرهم.

وفيما لن يتسنى لأي من الكتلتين إنجاح مرشحها بمفردها، يبقى الحسم في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية مرتهنا بمواقف الشرائح الأخرى "المحايدة" أو غير المحسوبة سلفا على أي من المرشحين مثل "المترددين" و"راغبى المقاطعة" و"دعاة إبطال الأصوات". ما يعنى في التحليل الأخير أن المرشح الذي سينجح في اقتناص نصيب الأسد من أصوات أولئك "المحايدين"، سيكون هو أول رئيس لمصر الثورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.