منافذ إسرائيلية في مفاوضات الخرطوم وجوبا

منافذ إسرائيلية في مفاوضات الخرطوم وجوبا - الكاتب: نادية سعد الدين

undefined

خطى متوالية
محركات الدور الإسرائيلي في جوبا

يجد الكيان الإسرائيلي في مفاوضات هشة آيلة للانهيار في أية لحظة بين الخرطوم وجوبا، حول قضايا خلافية لم يحسمها اتفاق السلام عام 2005، فيما أجلها استفتاء 9 يوليو/تموز 2011 لما بعد الانفصال، منفذاً إضافياً أكثر خطورة "للتغلغل" في جنوب السودان، بغية تحقيق أهداف إستراتيجية في ساحة الوطن "الأم"، لم تنفصل يوماً عن معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، في ظل خطى متوالية في العلاقة الإسرائيلية الجنوب السودانية، ودور أميركي أوروبي يبتغي حصاد مغانمه عن نواتج أفعاله.

إن خطاب "اللاعودة" الإسرائيلي عن السودان الجنوبي، الذي تأسس فعلياً منذ ستينيات القرن العشرين وأرسى دوراً بارزاً في مشهد الانفصال عن الشمال، سيجد موطئ قدم ثقيلة في المحادثات الأمنية بين دولتي السودان التي أعلن مؤخراً عن توقفها توطئة لاستئنافها مع نهاية الشهر الجاري في أديس أبابا، وأيضاً في ثنايا القضايا الشائكة بين الطرفين، مما يحيط شكوكاً حول مدى إمكانية بلوغ اتفاق ثنائي في شهر أغسطس/آب القادم وفق المهلة الزمنية المحددة من قبل مجلس الأمن الدولي لتلك الغاية، وبما يجرّ معه، في حال الانتكاسة مجدداً، ويلات مفتوحة على كافة الاحتمالات.

خطى متوالية
تسارعت خطوات العلاقة الإسرائيلية الجنوب سودانية، منذ انفصال الأخير عن الشمال وفق استفتاء 9 يوليو/تموز 2011، تمهيداً لإعلان دولة شغلت مقعدها الفوري في هيئة الأمم المتحدة تحت الرقم 193، وحظيت باعتراف إسرائيلي فوري بعد يوم واحد من إعلان استقلالها، تأسيساً لإرث علائقي تاريخي يعود إلى عام 1963 مع حركة تحرير جنوب السودان، توطد عام 1985 من خلال تقديمه، إلى جانب واشنطن، دعماً مالياً وعسكرياً ولوجستياً مفتوحاً للجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة جون غارنغ (توفي عام 2005)، ومن بعده سلفاكير ميارديت الذي بات رئيس حكومة جنوب السودان، فيما استمر الحضور الإسرائيلي البارز حتى مرحلة الانفصال وما بعدها.

حظيت جوبا باعتراف إسرائيلي فوري بعد يوم واحد من إعلان استقلالها، تأسيساً لإرث علائقي تاريخي يعود إلى عام 1963 مع حركة تحرير جنوب السودان، توطد عام 1985

وجرى صوغ العلاقة الثنائية عبر تدشين أول زيارة رسمية إسرائيلية علنية إلى جوبا في 29 أغسطس/آب 2011 استهدفت تعزيز مجالات التعاون الزراعية والمائية والتكنولوجية والنفطية، تبعتها زيارة علنية أولى لسيلفاكير إلى الكيان المحتل في 20 ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، والتي وصفها "بلحظة تاريخية" في ما سمّاها "أرض الميعاد" التي تعدّ "نموذجاً يحتذى به ومثالاً للنجاح"، وفق ما تناقلته وسائل الإعلام. وأسست الزيارات المتبادلة لفتح سفارة إسرائيلية في جوبا، وإعلان الأخيرة عن اتخاذ خطوة مماثلة.

ولم تكن أهداف الطرفين واحدة؛ فقد سيطر على أولويات ساسة الحكم في جنوب السودان هاجس بناء الدولة الوليدة وتلبية احتياجاتها وتلقف الأيدي الإسرائيلية الممدودة بالدعم، إضافة إلى معالجة إشكالية المهاجرين الجنوبيين "غير الشرعيين" في الكيان المحتل، الذين وصل عددهم منذ عام 2008 إلى زهاء ثلاثة آلاف شخص، وفق المعطيات الرسمية الإسرائيلية.

بينما استهدف التحرك الإسرائيلي صوبه، أساساً، تغيير معادلة الصراع العربي الصهيوني والمساس بالأمن القومي العربي، عبر مسعى إقامة "حلف مع دول مسيحية في أفريقيا لتشكيل حزام ضد بلدان عربية تقع ضمن ساحتها، تحسباً لصعود حركات إسلامية إلى الحكم فيها، ولخدمة مصالح الاحتلال السياسية والاستخبارية، وتوسيع قاعدة نفوذه في ساحة إستراتيجية بالنسبة إلى مصر والسودان"، بحسب المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية السابق ألون ليئيل.

ويعتقد آخرون، مثل الكاتب الإسرائيلي بني موريس، بمخطط إسرائيلي لإعادة تنظيم "سياسة الجوار"، التي وضعها بن غوريون عام 1948، "لتشمل دولا أخرى مضادة عربياً، وتطويق النفوذ الإيراني في القارة الأفريقية، وتوظيف علاقته ببلدانها في المحافل الدولية، حيث يشكل الصوت الأفريقي زهاء 31% من مجموع الأصوات في الأمم المتحدة، واستخدامها ورقة ضغط ضد مصر التي تعدّ منابع النيل بالنسبة إليها قضية إستراتيجية".

ولم يغب العنصر النفطي عن مرامي التحرك، خاصة بعد اكتشافه ضمن باطن أرضه عام 1978، استناداً إلى معطيات قلقة تفيد بفقدان الشمال لنحو 70% من احتياطيات النفط، وخسارة قرابة 45% من موارده، بإعلان الدولة الجنوبية، بينما يشكل النفط 98% من موارد موازنة الأخيرة، بما يؤهل القضية النفطية لترؤس مقدمة إشكاليات العلاقة بين الطرفين.

محركات الدور الإسرائيلي في جوبا
تتعدى المداخل الإسرائيلية في ساحة جنوب السودان مرحلة ما بعد تأسيس الدولة، إلى إيجاد موطئ قدم ثقيلة بين جوانب قضايا خلافية عالقة مع دولة الشمال تنتظر المعالجة، وسط أهداف إستراتيجية إسرائيلية في السودان، ودور أميركي أوروبي يبتغي حصاد مغانمه عن نواتج أعماله.

* قضايا الخلافات الشائكة: لم يحسم الانفصال سوى وجه واحد من قضايا الخلافات الشائكة بين دولتي الشمال والجنوب، تاركاً معالجتها لما بعد الانفصال، لأن بحث كل واحدة منها يستغرق وقتاً يصعب تقديره ونتائجه، باعتبارها إشكاليات قابلة للتفجّر في أية لحظة، عند الأخذ بالاعتبار دور الأطراف الخارجية، الإسرائيلية الأميركية، الحاضرة بين ثناياها. وقد برز ذلك جلياً في فشل المفاوضات التي جرت بين حكومتي الطرفين حتى الآن، إبان مواجهات وقعت بين الجانبين في فترات متباينة، هددّت بنذر حرب وشيكة.

ومن أبرز الملفات الخلافية؛ النفط، وترسيم الحدود، التي تمتد إلى نحو 1950 كم، وتضمّ ثروات نفطية ومعدنية وحيوانية، وذلك بسبب اختلاف الصيغ التي يعرضها كل جانب لخط الحدود. وتنبثق منها قضيتا أبيي وهجليج، عدا عن أزمة دارفور وشرق السودان في ظل تنامي مطالب الانفصال وحق تقرير المصير.

بينما تشخص تحديات الدولة الوليدة في افتقاد الحدّ الأدنى من البنية التحتية والكوادر المؤهلة لقيادة وتنفيذ عملية إعادة الإعمار، واستشراء الفساد المعطل لجهود البناء والتنمية المستدامة، والمهدد للاستقرار والأمن، ودمج الفصائل المسلحة في صفوفها، والقدرة على حماية حدود مترامية الأطراف، بنحو 600 ألف كم مربع تقريباً، وبناء هوية موحدة ثقافية اجتماعية للشعب الجنوبي نتيجة التنوّع العرقي والقبلي الذي أشعل التوتر والاشتباك لأسباب تتعلق بالموارد الطبيعية والسلطة، عدا عن الانشقاقات التي وقعت داخل صفوف الحركة الشعبية نفسها، بما يجعل تلك التحديات منافذ حيوية أمام الأطراف الخارجية، بخاصة الإسرائيلية منها، الحاضرة لتلبية طلب جنوب السودان بتقديم الدعم والخبرات في كافة المجالات.

يتعاظم منسوب القلق المصري السوداني، ليس فقط من احتمال نقص المياه المتدفقة نحوهما, أو من ملامح دور إسرائيلي مشبوه, وإنما أيضاً من سيناريو بيع المياه الذي تروّجه بعض دول المنبع

* توزيع مياه النيل: لم تبدّد تطمينات جنوب السودان بعدم تأثير الانفصال على حصتي القاهرة والخرطوم قلق الأخيرتين، مثلما لم تدحض تكهنات انضمامها (مع إثيوبيا وأوغندا ورواندا وكينيا وتنزانيا) إلى اتفاقية عنتيبي لعام 2010 بشأن إعادة توزيع حصص مياه النيل على دول الحوض، التي رفضت مصر والسودان التوقيع عليها، أو التزامها باتفاق البلدين عام 1959 لاقتسام المياه، وذلك بعدما باتت الدولة الوليدة تحتل الرقم 11 لحوض النيل، ودولة منبع له بوجود حوض بحر الغزال داخل حدودها، والمكان الأفضل لمشروعات زيادة حصة المياه لمصر والسودان، عبر التخزين أو شق الترع، مثل مشروع قناة جونغلي، الذي وقف الكيان الإسرائيلي خلف إقناع الحركة الشعبية لتحرير السودان بتعطيل تنفيذه عبر استهدافه بعمليات مضادة، رغم عظم فوائده المتأتية على مصر لتوفير مياه إضافية لها.

ويتعاظم منسوب القلق المصري السوداني، ليس فقط من احتمال نقص المياه المتدفقة نحوهما وتأثر حصتهما المائية، أو من ملامح دور إسرائيلي مشبوه قد يدفع بتسريع عجلة التطورات تجاه زيادة استهلاك المياه هناك، في ظلّ زيادة عدد الدول المطالبة بحصة أكبر مع قيام كيان جديد، وإنما أيضاً من سيناريو بيع المياه الذي تروّجه بعض دول المنبع، بخاصة إثيوبيا التي تسيطر على 85% من مصادر مياه النيل، وسعيها لإقناع جنوب السودان به.

وقد بدر عن الجنوب السوداني ما يعزّز هذا القلق، عند مطالبته بإعادة توزيع الحصص المائية بين الدول الأعضاء وفق الواقع الجديد، ورفضه استئناف العمل في حفر قناتي جونغلي ومشار، تزامناً مع ارتفاع وتيرة هجوم إثيوبيا ضد مصر بسبب الخلاف على مياه النيل، ومحاولة إقناع دولة الجنوب بالانضمام إلى اتفاقية 2010 وتعديل اتفاقية 1959، وإعلانها في فبراير/شباط 2011 عن مشروع بناء سدّ بالقرب من الحدود السودانية، بالتعاون مع شركة إيطالية، قد يجدد الاحتقان المصري الإثيوبي القديم بسبب قضية السدود، ويلحق ضرراً بمصر والسودان من ناحية فقد كمية من المياه، إزاء معلومات تفيد بوقوف أطراف إسرائيلية غربية وراء دعمه وتمويله، كما يحيي الحلم الإسرائيلي القديم باقتناص حصة من مياه النيل، تبعاً لمشاريع طرحها الأخير، مثل مشروع ترعة السلام لنَيل نحو 800 مليون متر مكعب، أي الاستفادة من مداخيل مصر من المياه عند أسوان، وتحويل جزء من مياه النيل إلى صحراء النقب عبر سيناء.

ولم يكن الكيان الإسرائيلي بعيداً عن كل ما يجري حول مياه النيل، حيث كان يمدّ إثيوبيا بالخبرات الفنية لمساعدتها في بناء شبكة سدود على النهر مقابل هجرة يهود الفلاشا إلى فلسطين المحتلة، ودفعها إلى إحياء مشروعات خططت لها أديس أبابا سابقاً لاستغلال مياه النيل، ستؤدي إلى تخفيض كميات المياه المتدفقة على مصر والسودان وإلحاق الضرر بمشروعاتهما التنموية.

كما عزز وجوده في دول أعالي النيل والهضبة الاستوائية، عبر توثيق علاقاته مع إريتريا بزيادة حجم التبادل التجاري وفتح الشركات الإسرائيلية تحت غطاء أوروبي ونسج روابط أمنية متينة، سمحت بإقامة قاعدتين إسرائيليتين على أراضيها، وتزويدها بالخبرات العسكرية والتدريبية. وتمكّن عبر علاقاته الوطيدة مع كل من كينيا وأوغندا وتنزانيا (دول بحيرة فكتوريا) من تحقيق هيمنة استخباراتية على جزء من ساحل شرق أفريقيا، ونيله تسهيلات أمنية في الأراضي الكينية، فضلاً عن تغلغله الاقتصادي والأمني في "دول البحيرات العظمى" (رواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية)، وإقامة علاقات وثيقة معها، بهدف بلوغ منابع النيل، وتدويل البحر الأحمر، والحيلولة دون أن يصبح عربياً، ومحاصرة الأمن القومي العربي، ولا سيما في امتداده المصري والسوداني.

يسمح الوجود الإسرائيلي في جنوب السودان وبعض دول القرن الأفريقي، بفتح منفذ حيوي صوب البحر الأحمر، وإيجاد عمق إستراتيجي يتيح رصد أي نشاط عسكري عربي في المنطقة

*المنافذ إلى البحر الأحمر والقرن الأفريقي: يسمح الوجود الإسرائيلي في جنوب السودان وبعض دول القرن الأفريقي، مثل إثيوبيا وجيبوتي وإريتريا، التي تتحكّم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وخليج عدن، وهو الطريق المائي الطبيعي لنقل نفط الخليج إلى أوروبا والولايات المتحدة، بفتح منفذ حيوي صوب البحر الأحمر، وتوسيع وجوده العسكري وتأمين مصالحه، وإيجاد عمق إستراتيجي يتيح رصد أي نشاط عسكري عربي في المنطقة، وكسر أي محاولة لحصار عربي ضد قواته وسفنه في البحر الأحمر، وضمان الاتصال والأمن لخطوطه البحرية العسكرية والتجارية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط إلى آسيا وأفريقيا، والاحتفاظ بقوة بحرية وبرية وجوية في مواجهة البلدان العربية، والاستمرار في تقوية ميناء "إيلات" حربياً، بموازاته تجارياً، لضمان المنفذ الذي أوجده لنفسه منذ عام 1949.

إن علاقات الكيان الإسرائيلي مع دولة جنوب السودان ستشهد تواصلاً وتعزيزاً في كافة المجالات، وستجد منافذ لبسط حضوره الثقيل بين جوانب القضايا الإشكالية العالقة بين الشمال والجنوب، والمفاوضات الدائرة بينهما، وسط غياب عربي ودعم أميركي مفتوح، مما يهدد الأمن القومي العربي، باعتباره هدفاً إستراتيجياً إسرائيلياً لا يبتعد عن مرامي الكيان المحتل للتحرك في مساحات تؤثر في معادلة الصراع العربي الصهيوني، بما يخدم مصالحه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.