الربيع العربي.. بين حسابات الحقل وحصاد البيدر

الربيع العربي.. بين حسابات الحقل وحصاد البيدر 0الكاتب: خالد المعيني

undefined

هل الحراك الشعبي العربي ثورة؟
قوانين الثورة العربية وشروطها
الهوية الحقيقية للثورة العربية وغاياتها

إذا كان التعريف العلمي لمعنى الثورة يشير إلى أنها عملية انتقال السلطة من طبقة إلى أخرى أو من تحالف إلى آخر، فإنه بعد مرور أكثر من عام على ربيع الثورات العربية أصبح من الضروري إجراء مراجعة هادئة وموضوعية لحصاد هذه الثورات وفرز ثمارها وتصنيفها وفقا للشروط المنهجية لمعنى الثورات لغرض التعرف بدقة بعيدا عن سراب الإعلام وصخبه ومن خلال صياغة معادلة يمكن من خلالها قياس مناسيب ما جرى وما يجري وأين استوفى مفهوم الثورة جوهره وشروطه في هذا القطر أو ذاك.

ثم ما هي المسافة التي تفصل الحراك الشعبي العربي عن معيار الثورة الحقيقية وهل بالإمكان توحيد الرؤيا والفكرة والهوية كشرط يسبق الثورة ويحدد مسارها، ومحاولة استشفاف قوانين تاريخية حقيقية وليست افتراضية أو ديماغوجية، دافعة ومحركة للثورة العربية تقود الحراك الشعبي وتمده بموجات جديدة من الزخم الثوري وصولا لتحقيق المعنى الكامل للثورة وتحقيق الأهداف الكبرى المنشودة للشعب العربي.

بهذا المعنى علينا التأني في دراسة ما يجري وعدم التسرع في الحكم عليها حيثما نضجت شروطها كاستحقاق داخلي في هذا القطر، أو يجري الإسراع في إنضاجها واستيلادها بعملية جراحية "قيصرية" في ذلك القطر استجابة لاستهدافات خارجية في سياق قوانين جديدة لإدارة الصراع الإقليمي والدولي. 

يقاس المد الثوري بمدى التغيير الحاصل على ثلاثة مستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكثيرا ما يقترن مصطلح الثورة بشقها السياسي لتختزل في عملية استبدال طاقم الحكم

هل الحراك الشعبي العربي ثورة؟
 يشير الاستعمال المعاصر لمفهوم الثورة (REVOLUTION) إلى شقين، يتعلق الشق الأول بنمط التغييرات الكبرى والجذرية التي تحصل في المجتمع نتيجة انتقال السلطة من طبقة اجتماعية إلى أخرى أو نشوء طبقات جديدة كدلالة على وجود ثورة حقيقية.

وينطبق الشق الثاني من الاستعمالات المعاصرة لمصطلح الثورة على التغيير الجزئي –على نطاق صغير- الذي يطال قشرة السلطة السياسية  حيث تتم الإطاحة بالحكام من مناصبهم واستبدال آخرين بهم دون أن يتبع ذلك تغيير جذري على المستوى الاقتصادي أو على مستوى منظومة القيم الاجتماعية التي تسود المجتمع. يوصف التغيير الكبير في الشق الأول غالبا بأنه ثورة مستوفية للشروط، في حين يعتبر نطاق التغيير في الشق الثاني  في حدود "الانقلاب"*.

ويقاس المد الثوري بمدى التغيير الحاصل على ثلاثة مستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكثيرا ما يقترن مصطلح الثورة بشقها السياسي لتختزل في عملية استبدال طاقم الحكم، وتاريخنا السياسي العربي حافل بهذه الملابسات حيث كثيرا ما يتداخل مفهوم الثورة الذي يحلو للبعض تسويقه رغم ندرة نماذجه العربية بناء على الواقع العربي، مع مفاهيم أخرى مقاربة كالتغيير الجزئي في مستوى البناء السياسي الفوقي، والفتنة، والفوضى، إضافة إلى الانقلاب الذي يبدو أنه النموذج الأكثر تكرارا في هذا التاريخ حيث يعاد إنتاجه في كل مرة ولكن بأشكال وصيغ مختلفة.

قوانين الثورة العربية وشروطها
إذا كان هناك من قانون أساسي بصورة عامة للثورات ففي اعتقادنا يمكن أن نطلق عليه قانون "شدة التناقض" الذي نستطيع تعريفه بأنه تلك الفجوة التي كثيرا ما تتسع بين الشعارات والأيديولوجيات المطروحة وفشل وعجز قادتها، وما بين واقع الشعب الاقتصادي الذي يعيشه ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة التي تحكمه، وكلما تقلصت هذه الفجوة ابتعد احتمال الثورة وكلما أخذت هذه الفجوة في الاتساع فإن ثورة ما ستولد من أحشاء المجتمع وهي أمر حتمي وواقع لا محالة بغض النظر عن الكيفية التي ستعبر بها عن نفسها سواء كان ذلك بانقلاب أو انتفاضة أو ثورة شعبية عفوية وبغض النظر عن الصورة التي ستتخذها.

ويبدو أن معظم الثورات تكون عادة مسبوقة ربما على مدى جيل بفترة اختمار وغليان، وهنا قد تعبر الثورة عن نفسها بحالة من الانفجار الشعبي العفوي والعاطفي ولكن عدا هذه الحالة فإن القاعدة العامة في الثورات الحقيقية هي أن يجري توجيهها من قبل مفكرين وهذا يعني وجود شرط تلازم الغليان الشعبي المتصاعد مع الأفكار الثورية التي تحدد نمط التناقضات الاجتماعية التي يجب أن تحلها وترسم شكل النظام الذي تود أن تقيمه. فكما أن الأفكار الثورية لوحدها ليست ذات قيمة فإن الثورة الشعبية بدون أهداف وأساس نظري للتغيير ستكون غير ذات جدوى وتنتهي إلى غير ما يحلم به الثائرون.

شروط ومناخ الثورات العربية أصبحت ناضجة ولكن هذا لا يعني أنها استكملت كافة الشروط فهي لا تزال في مراحلها الأولى من المخاض لأن الثورة رديف للتغيير الجذري

وبقدر تعلق الأمر بالحراك الشعبي الثوري العربي فإن شروط ومناخ هذه الثورات قد أصبحت ناضجة ولكن هذا لا يعني أنها استكملت كافة الشروط فهي لا تزال في مراحلها الأولى من المخاض لأن الثورة رديف للتغيير الجذري، ومن هنا يصح القول إن الحراك لم يأخذ بعدُ شكله النهائي ولا يزال قيد التبلور.

إن المفكرين والمثقفين العرب لا يزالون خارج معادلة الحراك الشعبي العربي حيث يجتر بعضهم من خلال هياكل ومؤسسات متحنطة (مؤتمرات قومية –إسلامية ) أفكارا أصبحت من التراث الإنساني لا تمت بصلة للواقع وطريقة تفكير وهموم الشباب العربي، تعيش في صوامع عاجية فقدت كل تأثير لها على مستوى الشارع العربي لاسيما بعد الربيع العربي الذي أثبت تكلس هذه الأفكار ومؤسساتها المتهرئة وهي في طريقها إلى الانحسار والتلاشي بل ربما الانقراض، وهنا تكمن المأساة في عدم وجود جسور فكرية لتأطير هذا الحراك الثوري الذي يمر به الشعب العربي.

إننا نوجه دعوة للمفكرين والمثقفين العرب لممارسة دورهم في قيادة وتوجيه الحراك الشعبي الثوري العربي في هذا المفصل من تطور هذا الحراك حيث يتأرجح بين قوى الجذب إلى الخلف ومحركات الاندفاع إلى الأمام، وذلك من خلال الانخراط فيه وعدم الاكتفاء بالتفرج وتجاوز حالة المراقبة إلى المعايشة لهذه اللحظة التاريخية والحاسمة وتقديم عطائهم وخبراتهم السياسية والفكرية اللازمة للحيلولة دون إجهاضه ولضمان صيرورة وديمومة هذا الحراك وعدم تركه ألعوبة بيد الأجندات الخارجية، أو جعله لقمة سائغة بيد قوى الثورة المضادة.   
                           
الهوية الحقيقية للثورة العربية وغاياتها
بالنظر لتوفر قوانين وشروط الثورة العربية في مناطق كثيرة من الوطن العربي فإن الحراك الشعبي العربي يمكن أن يحث الخطى باتجاه أهدافه المنشودة في حال اتخاذه مسارين متوازيين  متلازمين، الأول يتطلب استيفاء الثورة لبعدها الأكبر الذي يتجاوز المناطقية أو الطائفية ليتخذ من البعد العربي إطارا وهدفا.

فمن العبث أن تتحقق لأي حراك في أي بلد عربي إنجازات حقيقية وجذرية دون إطلاق كافة طاقات الأمة وفي مقدمتها الثروات التي أصبحت ملكية خاصة لهذه العائلة أو تلك, فالثورة مفهوم شامل لا تمكن تجزئته، والتساؤل الرئيسي الذي يجب أن نرفع من خلاله سقف هذه الثورات هو المدخل الحقيقي لثورة حقيقية يمكن أن تحدث، والتساؤل هو إذا كانت كل من تركيا وإيران باعتبارها أمة لديها مشاريع قومية واضحة في المنطقة وتعرف ماذا تريد، فما هو مشروعنا نحن العرب وماذا نريد في معترك القرن الحادي والعشرين؟ إنها فرصة تاريخية لإعادة تعريف أنفسنا، هل حقا سيتمخض جبل الحراك الثوري العربي عن "فأر" تغيير الرئيس هنا وهرب الرئيس أو التمثيل بجثته أو محاكمته هناك، واختزال هذا المخاض التاريخي إلى مطالب غامضة ومبهمة ذات نهايات سائبة؟

إن قصة الثورة تتعلق باستكمال أساسها النظري ورسم الطريق أمام أجيال الثورة لتعرف بدقة ماذا تريد وما هي حدود الثورة وكيف تتقدم إلى الأمام لتخوض تحديات العصر في القرن الحادي والعشرين والثاني، لتعي أن معركتها ضد كراسي الحكم هي المعركة الأيسر، وأن الثورة لا يمكن أن تستقيم دون العمل على نسف ملايين الأطنان من تراكمات التخلف والأساطير والخرافات التي تحولت إلى شبه مسلمات وعقائد مقدسة لا يمكن المساس بها. وهذه المعتقدات تشكل عائقا وتقف في اتجاه معاكس لروح العصر وتوجهاته وتحدياته. 

قصة الثورة تتعلق باستكمال أساسها النظري ورسم الطريق أمام أجيال الثورة لتعرف بدقة ماذا تريد وما هي حدود الثورة وكيف تتقدم إلى الأمام لتخوض التحديات

ينطلق الطريق الثاني للثورة من خصوصية كل مجتمع عربي على حده، وعلينا أن نربط كل حراك بواقعه أولا، وبهدف أسمى ثانيا، لشد الأنظار دائما باتجاه أهداف كبرى، الأمر الذي سيؤسس لتنميط أهداف الثورة على امتداد ساحة الوطن العربي رغم اختلاف الساحات لضمان ديمومة الزخم الثوري للشباب العربي واستثماره وعدم إيقافه عند حدود مجتزأة ستجعل منه نهبا لقوى الثورة المضادة والعودة به إلى المربع الأول.

إن من شأن هذا التنميط توحيد الرؤيا وتبادل الخبرة وزيادة مساحة الأمل لدى الشباب العربي وزيادة قدرتهم على المناورة الداخلية وخلق أرضية حقيقية لقيام مؤسسات وهياكل عربية معاصرة تنسجم مع تطلعات الشباب، فليس من المعقول أن ترعى مؤسسة لم يبق منها سوى اسم الحراك الشعبي الثوري، وينبغي لهذا الحراك أن تكون له مؤسساته وهياكله الخاصة الفكرية والسياسية والعملياتية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
• معجم "بلا كويل" للعلوم السياسية، ترجمة مركز الخليج للأبحاث، دولة الإمارات العربية، سنة 2004 ، ص 582

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.