صراع الإرادات في أزواد ومخاطر الصوملة

الكاتب: محمد الغابد صراع الإرادات في أزواد ومخاطر الصوملة

undefined

عِبرٌ التجارب السابقة
إرادة التحرير والانتخاب
مقايضة الاعتراف بدور
مخاطر الصوملة

خلال السنوات السبع الأخيرة ظل إقليم أزواد في شمال مالي أخطر مناطق الساحل والصحراء اشتعالا, حيث أصبح مرتكزا وعمقا إستراتيجيا لنشاط قاعدة المغرب الإسلامي والعديد من عصابات تهريب المخدرات الدولية، غير أن ما تسميه الحركة الوطنية لتحرير أزواد حرب التحرير التي قادت إلى انقلاب عسكري وضعت الإقليم مجددا على فوهة بركان صراع محتمل للمليشيات المسلحة المتعددة المنازع المنتشرة في كل مكان بالشمال المالي.

عِبَرُ التجارب السابقة
مر الصراع في الإقليم بعقود من المد والجزر، غير أن الغلبة ظلت دائما للأنظمة المالية التي نجحت في سياسة إخضاع الإقليم لحكمها دون أن تبذل جهدا تنمويا يذكر فيما يتعلق بمدن الشمال، وهذا ما وجد فيه السياسيون الطوارق بغيتهم لتأسيس فكرة الانفصال عن الجنوب، ويمكن اليوم أن نعتبر أن الطوارق قد أدركوا ثأرهم وصفَّوْا حسابهم التاريخي مع الرئيس آمادو توماني توري الذي نجح في إجهاض مشروع الحكم الذاتي الذي انتزعه الطوارق بنضالهم مطلع تسعينيات القرن الماضي بتوقيعهم اتفاقية تامنراست الأولى 1990 مع الرئيس الأسبق موسى اتراوري حيث قام آمادو توماني توري بعد انقلابه 1991 بتشكيل مليشيات "غند غواي" وتعني "ملاك الأرض"، وغالبية المنتسبين إليها من قومية الصونغاي التي ينتمي إليها وتشكل عنصرا سكانيا مهما في الشمال بعد الطوارق والعرب.

الحركة الوطنية لتحرير أزواد على وعي كبير بتجارب الحكومات المالية السابقة وأساليب إخضاعها للإقليم، كما أن الظروف التي مكنت في السابق السياسة المالية من النجاح في تقويض سيطرة الطوارق قد تغيرت الآن بسبب العديد من العوامل

وتولى عبد الله محمد الأمين ميكا قيادة الجناح السياسي والإعلامي لهذه التنظيم في التسعينيات وقد أصدرت الحركة جريدة "صوت الشمال" (la voi du nord) وقاد الجناح العسكري الضابط "همات هماني كيت".

وقد لعبت هذه المليشيات دورا مهما اعتمد على اشتباكات مع الطوارق من أجل تسويغ تدخل الجيش تحت ستار حماية السكان، ونجح الجيش المالي في إستراتيجية التدخل الأهلي لفض النزاعات بين السكان، وكانت أفضل وسيلة استعان بها لاستعادة السيطرة على الإقليم أواخر عام 1991.

ولا يستبعد العديد من المراقبين اليوم أن تلجأ الحكومة المالية وحلفاؤها الدوليون إلى اتباع إستراتيجية مشابهة يكون هدفها خلخلة سيطرة الحركات المهيمنة على الإقليم في الوقت الراهن إضافة إلى التأثير على شعارات استقلال الإقليم التي ترفعها الحركات الطوارقية.

وتؤكد العديد من المعطيات أن الحركة الوطنية لتحرير أزواد على وعي كبير بتجارب الحكومات المالية السابقة وأساليب إخضاعها للإقليم، كما أن الظروف التي مكنت في السابق السياسة المالية من النجاح في تقويض سيطرة الطوارق قد تغيرت الآن بسبب العديد من العوامل.

غير أن إخفاق الحركات التي تسيطر على الإقليم في تأسيس نموذج حكم عادل يرتكز على الاستقرار وإيجاد وضع أفضل مما كان سائدا من قبل، قد يدفع بكثير من الشرائح الاجتماعية غير الطوارق إلى التعاون مع الأمن والجيش الماليين من أجل استعادة الوضع السابق الذي سيكون أفضل بكثير إذا ما اندلعت اشتباكات بين المليشيات المسلحة في الإقليم، خصوصا بين الحركة الوطنية لتحرير أزواد من جهة، ومجموعات قاعدة المغرب الإسلامي وأنصار الدين المتحالفة معها من جهة أخرى.

إرادة التحرير والانتخاب
للمرة الثانية في تاريخ الدولة المالية يشكل الشمال مصدرا للتأثير على مصداقية سيادة الدولة المالية على كامل أراضيها، واليوم تتنازع المرحلة الانتقالية في مالي أولويات سياسية صعبة جدا، فلا بد من أن تدبر السلطة الجديدة توافق الطبقة السياسية المالية بشأن تحرير الشمال، واستعادة "سيادة" الدولة المالية عليه، قبل الانتخابات التي ينبغي أن تجري حسب نص الدستور خلال أربعين يوما من شغور منصب الرئيس.

غير أن الأربعين يوما التي يمنحها الدستور لانتقال السلطة لا تكفي في ظل الظروف الحالية لبحث الإشكاليات المتعلقة بالانتخابات لوحدها، فضلا عن وضعية الشمال الذي انفصل بصورة عملية، وفقدت الدولة السيطرة عليه بشكل نهائي.

ومن غير الممكن سياسيا ربط الأجندة الانتقالية بمصيره نظرا لحجم التعقيد والتشابك الذي يلف مصير هذا الإقليم كما أن إجراء انتخابات في ظل هذا الوضع سيعطي الانطباع بهامشية إقليم يمثل سكانه نسبة كبيرة من عدد سكان مالي.

ويشير العديد من المراقبين الأزواديين إلى أن السلطات الانتقالية في مالي لا يمكن أن تكون صاحبة حل مقبول لقضايا الإقليم، لأن صلاحياتها من الناحية القانونية مقتصرة على إجراء الانتخابات في الآجال المحددة في الظروف الطبيعية، كما أن نسبة كبيرة من سكان الإقليم تناضل منذ عقود من أجل تقرير المصير، وهو حق مسلَّمٌ به ومبدأ من مبادئ القانون الدولي الإنساني، وبالتالي فمصير الإقليم لا تقرره القوانين النابعة من سيادة الدولة المالية وحدها، وإلا لما كانت وضعيته معقدة لدرجة أن نسبة كبيرة من السكان حملت السلاح من أجل وضع حد لرموز السيادة المالية والحصول على الاستقلال.

مصير إقليم أزواد لا تقرره القوانين النابعة من سيادة الدولة المالية وحدها، وإلا لما كانت وضعيته معقدة لدرجة أن نسبة كبيرة من السكان حملت السلاح من أجل الحصول على الاستقلال

ويرجح بعض المتتبعين للحدث السياسي في مالي أن خياراتها السياسية فيما يتعلق بالإقليم تنحصر في خيارين اثنين لتحقيق هدف التشبث بالإقليم والمضي في إنجاز الانتخابات في آجالها المقررة دستوريا، وهذان السيناريوهان هما:

1- تدويل قضية السيادة على الإقليم من خلال التشبث بحقائق الجغرافيا الموروثة عن المحتل الفرنسي، والاعتماد في هذا الصدد على موقف الاتحاد الأفريقي والعديد من دول الجوار التي تتخوف من انتقال عدوى الانفصال إليها، خصوصا النيجر والجزائر وموريتانيا.

2- أن تتقدم الحكومة الانتقالية المالية بطرح مبادرة سياسية تهدف لمنح حكم ذاتي ذي صلاحيات واسعة للإقليم في إطار اتحاد كونفدرالي، وإذا ما نجحت مالي في حشد دعم دولي واسع لموقف من هذا القبيل فإنها ستدخل على خط الأجندة الدولية الباحثة عن حل جذري لمشكلات الإقليم الذي يشكل اليوم في رأي العديدين تهديدا للأمن الإقليمي والعالمي نظرا للنشاط الواسع لما يعبر عنه الغربيون والفرنسيون على وجه الخصوص بـ"الخطر الإسلامي".

 وقد تحقق هذه المبادرة هدفا تكتيكيا مهما يتمثل في تهديم أرضية الوفاق السياسي بين حركات الإقليم المتنافسة، والدفع باتجاه إعادة نسج التحالفات على قواعد جديدة قد تسمح لدولة مالي بإدخال متغير جديد يسهل لها استعادة سيادتها على الإقليم مجددا.

مقايضة الاعتراف بدور  
منذ انطلاق الحرب في الشمال اتضح بشكل لا لبس فيه أن دور القوى الدولية، وخصوصا الغربية، فيها كان بارزا؛ فالفرنسيون معنيون بشكل مباشر بوضعية الإقليم الذي ينشط فيه تنظيم القاعدة الذي اختطف وقتل العديد من الرعايا الفرنسيين في المنطقة خلال السنوات الأخيرة.

ومن الواضح أن فرنسا وحلفاءها الإقليميين أرادوا وضع اليد على الإقليم وملء الفراغ الذي خلفه رحيل العقيد معمر القذافي، الذي شكل خلال العقود الأخيرة أهم ركن يأوي إليه الطوارق ويؤثر في مواقفهم السياسية. ولذلك أرادت فرنسا أن تتقدم منذ اللحظات الأولى لانهيار نظام القذافي باتجاه وراثته في هذا الجانب خصوصا، لتؤسس بشكل أفضل لوضعية تسمح لها بتصفية حسابها مع القاعدة التي تحتجز منذ العام الماضي سبعة فرنسيين كانوا يعملون في شركة استغلال مناجم اليورانيوم بالنيجر.

وتأسيسا على التصريحات الإعلامية والتسريبات الصحفية فإن فرنسا قد نسجت تحالفا قويا مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تلقى ثناء واسعا في العديد من وسائل الإعلام الفرنسية مقابل حملة إعلامية واسعة تتعرض لها القاعدة وحلفاؤها الأزواديون.

ومع أن فرنسا تتمسك علنا بوحدة التراب المالي ، فإن الرئيس نيكولا ساركوزي ألمح في تصريح له نشرته جريدة لونوفيل أوبسرفاتور "le nouvel observateur" الفرنسية إلى أن الأزواديين يستحقون حكما ذاتيا داخليا بشمال مالي، وهو ما لمست فيه الصحيفة نوعا من التساهل في الموقف بشأن وحدة التراب المالي.

وتتداول العديد من وسائل الإعلام منذ الأسبوع الماضي أخبارا عن عزم فرنسا دعم الحركة الوطنية لتحرير أزواد من أجل انخراطها في مشروع فرنسي يلقى دعما دوليا ويهدف لتصفية وجود تنظيم القاعدة في الإقليم، وتشير بعض البرقيات والتقارير إلى وصول معدات تسليح فرنسية ثقيلة لاستعمالها في الحرب على القاعدة.

وقريبا من موقف فرنسا أعلن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز أنه لا يحبذ فكرة استقلال الطوارق عن مالي، ولكنه فضل منح مناطق الشمال حكما ذاتيا وأعرب عن استعداد بلاده للمشاركة في أي عمل عسكري يهدف للقضاء على الإرهاب في المنطقة في إطار مهمات الاتحاد الأفريقي والمنظومة الدولية.

الموقف الموريتاني الفرنسي المتطابق في هذه القضية اتضح بشكل أكبر في إطار تصريحات قادة الحركة الوطنية لتحرير أزواد الذين يعلنون استعدادهم للنهوض بدور إنهاء سيطرة القاعدة على الإقليم، غير أن خطاب الحركة الإعلامي في الخارج ليس بالضرورة هو الموجه الرئيسي للموقف الداخلي المعقد، الذي تواجهه تهديدات ومخاطر الصوملة والبلقنة بما تحمله من آلام موجعة.

يُطل شبح الحرب المدمرة على إقليم أزواد وتدفع العديد من الإرادات الإقليمية والدولية إلى حرب قادمة, تريدها مالي حربا للحفاظ على وحدة الأراضي المالية, وتريدها فرنسا وموريتانيا حربا لتصفية القاعدة

مخاطر الصوملة 
يُطل شبح الحرب المدمرة على إقليم أزواد وتدفع العديد من الإرادات الإقليمية والدولية إلى حرب قادمة في الإقليم، تريدها مالي ومجموعة غرب أفريقيا والاتحاد الأفريقي حربا للحفاظ على وحدة الأراضي المالية، وتريدها فرنسا وموريتانيا حربا لتصفية القاعدة من الإقليم، وتريدها أطراف أخرى حربا للسيطرة على الموارد الطبيعية الممتدة على طول حوالي خمسة ملايين كيلومتر مربع وتسيل لعاب العديد من الجهات.

ويُشعل الموقع الإستراتيجي للإقليم التنافس بين القوى التي تبحث عن موطئ  قدم يمكنها من دخول هذه المنطقة الشاسعة التي تصل امتداداتها إلى أعماق القرن الأفريقي، بل تصل إلى شواطئه حيث توجد ملاحة دولية نشطة لا يكدر صفوها إلا القراصنة الصوماليون.

ومن أبرز المخاطر المتوقعة أن الحرب في الإقليم ستتحول بسرعة إلى صراعات عرقية، أكثر من كونها صراعا أيديولوجيا ضد خطر القاعدة أو ما تسميه فرنسا "الخطر الإسلامي" وممرات التهريب الدولي للمخدرات.

فالمليشيات المسلحة الآن ترفع شعارات فكرية وسياسية ولكنها في عمقها تتأسس على قبائل ومجموعات عرقية كالطوارق والعرب والصونغاي والفُلاَّن.

وأي صراع يندلع الآن بينها سيكون مصيره في النهاية حربا قبلية تلبس لباس الأيديولوجيا ومن هنا ستكون الحرب في عمقها حربا بين القبائل والأعراق، وهنا مكمن الخطر.

ولن تضع الحرب أوزارها إلا إذا أفنى أحد الطرفين الآخر، وهو ما سيطيل أمدها لعقود، كما هي الحالة في الصومال الآن، وعندها تكون الأطراف التي تذكي الصراع هي الخاسر الأكبر لتجاهلها الطبيعة المؤثرة فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.