حديث المناظرة

حديث المناظرة - الكاتب: فهمي هويدي

undefined
لأن حدث المناظرة بين مرشحي الرئاسة المصرية تأريخي واستثنائي بامتياز، فإنه يظل بحاجة إلى تحقيق وتدقيق فيما قيل وما لم يقل ليس فقط لكي نستوعب ونتفهم، ولكن أيضا لكي نستفيد ونتعلم.

(1)

لم يعرف تاريخنا مناظرات أهل السياسة, خصوصا ما تعلق منها بشأن الرئاسة, ربما لأن تقاليد الاستبداد في بلادنا أشاعت بين الناس أن الرئاسة قدر مكتوب لأناس بذواتهم

لا أستطيع قبل أي كلام في الموضوع أن أتجاهل أمرين، الأول أنها التجربة الأولى في التاريخ المصري (في عام ٢٠٠٧ حدثت مناظرة بين مرشحي الرئاسة في موريتانيا) التي يقف فيها اثنان من مرشحي الرئاسة أمام بعضهما البعض لكي يعرضا نفسيهما على الرأي العام. صحيح أن تراثنا العربي حافل بمناظرات أهل العلم، ولهم في ذلك كتابات غنية، أذكر منها ما سجله الإمام أبو حامد الغزالى متعلقا بآداب المناظرة، في مؤلفه الشهير «إحياء علوم الدين». وتحدث فيه عن مناظرات الفقهاء والمقلدين من الشافعية والأحناف بوجه أخص، وحاول أن يبدد التلبيس في تشبيه المناظرات بمشاورات الصحابة، وأن يبين آفات المناظرة وما يتولد عنها من مهلكات الأخلاق، لأنها تدفع أطرافها إلى تتبع عورات بعضهم البعض وإشهار نقائصهم بالحق أو بالباطل، التماسا للانتصار في الرأي وكسبا للجاه والرياسة الدنيوية.

لم يعرف تاريخنا مناظرات أهل السياسة، خصوصا ما تعلق منها بشأن الرئاسة. ربما في أغلب الأحيان لأن تقاليد الاستبداد في بلادنا أشاعت بين الناس أن الرئاسة قدر مكتوب لأناس بذواتهم، لا شأن لها باختيار الناس أو قرارهم. ولأننا حديثو عهد بالتجربة، فإن ما يعتريها من نقائص وثغرات يصبح أمرا طبيعيا ينبغي أن نترفق به ونحتمله.

الأمر الثاني أن الذين قاموا بالتجربة من الإعلاميين والإعلاميات يستحقون التحية والتقدير، إذ أتاحوا لنا أن نعيش تلك اللحظات النادرة، التي نشاهد فيها رئيسا -أو مشروع رئيس- يؤخذ من كلامه ويرد -ولا يستقبل كلامه بحسبانه تنزيلا محصنا لا ينطق فيه صاحبه عن الهوى. وأي نقد للجهد الذي بذله أولئك الزملاء ينبغي ألا ينتقص مما قدموه، ولكنه يحاول أن يكمله ليحقق المراد من المناظرة بصورة أفضل وأوفي.

(2)

الانطباع الأولى عن الأسئلة أن أغلبها جاء مثيرا للفضول بأكثر مما كان كاشفا عن السياسات ومثيرا للعقول. أما الانطباع الثاني أنها ركزت بدرجة عالية على الشأن الداخلي، وبدت متأثرة بحالة الانكفاء التي يعاني منها الإعلام المصري خصوصا بعد الثورة. والمسألتان بحاجة إلى بعض الشرح والإيضاح.

لقد بدت الأسئلة وكأنها ورقة امتحان مدرسي، ركزت على شخصية كل مرشح بأكثر مما ركزت على أفكاره وسياساته إزاء القضايا الكلية، ناهيك عن أنها تجاهلت بعض القضايا الحيوية في حين ألقت على المرشحين أسئلة حول الراتب الشهري والأزمة المالية والحالة الصحية والامتيازات المتوقعة، والتدخل في اختيار الوزراء وكيفية تشكيل لجنة الدستور والموقف من أحداث العباسية والتعامل مع الإضرابات الفئوية.. إلخ.

مثل هذه الأسئلة الأخيرة قد تقدم الشخص ولكنها لا تسمح لنا بأن نتعرف على أفكاره وتعامل برنامجه مع القضايا الكلية التي ترتبط بالمصالح العليا للوطن.

أغلبها أسئلة المناظرة جاء مثيرا للفضول بأكثر مما كان كاشفا عن السياسات ومثيرا للعقول, كما أنها ركزت بدرجة عالية على الشأن الداخلي، وبدت متأثرة بحالة الانكفاء التي يعاني منها الإعلام المصري خصوصا بعد الثورة

إن قضية الاستقلال الوطني لم تأخذ حقها في الحوار، رغم أنها تشكل جوهر السياسة الخارجية المصرية، ومعروف أن استقلال مصر منقوص على الصعيدين الإقليمي والدولي. فدورها في القرار العربي محدود للغاية. وليس سرا أن الجامعة العربية تديرها في حقيقة الأمر دولتان هما السعودية وقطر. كذلك فإن العلاقة بين مصر وكل من إسرائيل والولايات المتحدة، تتعامل معها مصر بحسبانها الطرف الأضعف الذي يتلقى بأكثر مما يقرر أو يبادر. واختزال العلاقة مع إسرائيل في التساؤل عما إذا كانت عدوا إستراتيجيا يعد ابتسارا واجتزاء للملف الأساسي المتمثل في استقلال الإرادة والاهتداء بالمصالح الوطنية العليا في رسم السياسات وتحديد طبيعة العلاقات الخارجية.

لم نعرف شيئا عن موقف المرشحين إزاء التجمعات الإقليمية العربية، المغاربية أو الخليجية. ولا إزاء الجارتين السودان وليبيا، ولا إزاء القضية الفلسطينية التي تحل ذكرى نكبتها اليوم (الثلاثاء 15 مايو/آيار). ولا إزاء الدولتين الكبيرتين تركيا وإيران.. (ثم التعرض لإيران في سؤال عابر).

حتى الشأن الداخلي، فإن ملفات عديدة لم يتم التطرق إليها. لم نسمع شيئا عن قضية مصيرية مثل التنمية في مصر، مرتكزاتها ومقاصدها. لم يتطرق أحد إلى كيفية استثمار الطاقات البشرية الكبيرة في البلد وكيفية توظيفها للتأكيد على التنمية الذاتية، التي توظف خبرات البشر وإمكانيات البلد المتوفرة لتكون الأساس في تحقيق النهضة المرجوة، قبل أي لجوء إلى الاستدانة والاقتراض من الخارج، خصوصا أن انطلاقة الداخل تشكل أكبر عنصر لجذب استثمارات الخارج، وإمكانياتها بلا حدود في مجالات الزراعة والصناعة والسياحة.

لم تتعرض المناقشات -ولم يلق سؤال- حول قضية البطالة المتفاقمة، والتي يتحدث عدد غير قليل من الخبراء عن أنها وصلت في صعيد مصر إلى 50% من السكان، الأمر الذي يجعل من البطالة لغما داخليا شديد الانفجار. فآثارها الاجتماعية خطيرة والتداعيات التي تترتب عليها مخيفة، حتى وجدنا شبابا باتوا يفضلون المغامرة باحتمال الموت في البحر لكي يصلوا إلى شواطئ أوروبا، بدلا من أن يعيشوا بلا أمل في مصر. ويظل مستغربا ألا يتطرق الحديث عن أولئك الملايين من البشر، الذين هم ثروة حقيقية إذا أحسن استثمارها، في حين اعتنت الأسئلة بمسألة كشوف العذرية (رغم أهميتها) والتعامل مع الموضوع القانوني للإخوان.

قضية البيئة الملوثة في مصر تم تجاهلها أيضا، رغم ما تمثله من أهمية بالغة بالنسبة لقضيتي التنمية والصحة العامة، ناهيك عن أنها أصبحت تحتل موقعا متقدما في تحديات العصر التي تحتشد لأجلها الدول ولا تتوقف المؤتمرات التي تعقد لمواجهتها كل حين.

(3)

تغييب مثل هذه القضايا الحيوية أضعف موضوعية الحوار، الأمر الذي لم يتح لنا أن نتعرف بشكل جاد على سياسات وبرامج المرشحين إزاءها. من ناحية أخرى فإن الإجابات التي قدمت على الأسئلة الموجهة حققت اتفاقا حول تمثيل الجميع في لجنة وضع الدستور وحول فرض الضرائب التصاعدية والالتزام بالحد الأدنى والأعلى للأجور. وذلك شيء طيب لا ريب، لكن الأمر لم يخل من ملاحظات سلبية أخرى، منها على سبيل المثال:

* أن المرشحين تبادلا الاتهامات الشخصية، إذ عمد السيد عمرو موسى إلى تخويف المشاهدين من الدكتور أبو الفتوح باعتباره إخوانيا سابقا، فما كان من الأخير إلا أن رد عليه مذكرا بانتمائه إلى نظام مبارك، الأمر الذي يصنفه ضمن الفلول. وإطلاق هذا التراشق لم يكن في صالح عمرو موسى، لأنه حين رمى أبو الفتوح بأنه "إخوانجى" فإنه استخدم فزاعة نظام مبارك، في حين أن ذلك الاتهام لم يعد مشينا في الوقت الحاضر، إلا أن تصنيف عمرو موسى ضمن الفلول مما يشينه ويسئ إليه بعد الثورة. وفي كل الأحوال فقد بدا عمرو موسى هاربا من ماضيه ومنكرا له، أما أبو الفتوح فقد بدا معتزا بماضيه الذي اعتبره رصيدا له في انخراطه مع الثورة.

أبو الفتوح اعتبر إسرائيل عدوا يهدد الأمن القومي المصري, أما موسى فأكد أن إسرائيل ليست عدوا، فبدا الأول تعبيرا عن منطق وموقف الثورة المصرية، أما الثاني فقد بدا ملتزما بخطوط سياسة نظام مبارك

* حاول عمرو موسى وهو يخوف من إسلامية أبو الفتوح أن يكرس إقصاء التيار الإسلامي، في حين أن أبو الفتوح حرص على إقامة المصالحة بين التوجه الإسلامي والديمقراطية. من ثم فإن الأول قدم نفسه باعتباره رئيسا لبعض المصريين، في حين أن الثاني أراد أن يقنعنا بأنه رئيس لكل المصريين.

* حين سئل الاثنان عن مبرر انتخاب كل منهما، قال موسى إنه تبوأ مناصب عدة وخبراته كثيرة، وأن مصر في أزمة الآن وبحاجة إلى رجل دولة (مثله) فاهم للعالم ومدرك للظروف المحيطة، ولم يحدثنا عن السياسة التي سيتبعها في تعامله في ذلك العالم الخارجي، أما أبو الفتوح فقد اعتبر نفسه رمزا لاصطفاف الجماعة الوطنية، حيث يشترك في تأييده الليبراليون واليساريون والإسلاميون. فبدا من الإجابتين أن الأول يصوب نظره نحو الدولة والثاني يصوبه نحو المجتمع.

* استلفت نظر كثيرين نفور عمرو موسى من الأغلبية التي صوتت لصالح التعديلات الدستورية، وحين اعتبر أن الذين قالوا "لا" هم الثوار الحقيقيون -وهو منهم – في إشارة إلى أن الـ77% الذين أيدوا التعديلات يقعون في مربع الثورة المضادة. وبدا ذلك تجريحا من جانبه للأغلبية التي يطلب تأييدها!

* قال موسى إن مصر دولة فقيرة وإن المطالب الفئوية التي تكاثرت بعد الثورة لا تختلف كثيرا عن الذين يحاولون حلب بقرة نضب لبنها. وتلك قراءة لا تعول كثيرا على التنمية الداخلية كما تهون كثيرا من شأن غنى البلد بثروته البشرية وموارده الاقتصادية. وهذه الرؤية لا ترى حلا لمشكلة التنمية في مصر سوى الاعتماد على الاستثمار الأجنبي والقروض الخارجية.

* كان الاختلاف واضحا بين المرشحين حول الموقف إزاء الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، فأبو الفتوح رفض الاستجابة لأي تأثيرات خارجية على سياسة مصر الخارجية، واعتبر إسرائيل عدوا يهدد الأمن القومي المصري. أما موسى فأكد على أن سياسته لن تغضب الولايات المتحدة، وأن إسرائيل خصم لا يحبه المصريون. وكرر مرتين أنها ليست عدوا، فبدا الأول تعبيرا عن منطق وموقف الثورة المصرية، أما الثاني فقد بدا ملتزما بخطوط السياسة التي التزم بها نظام مبارك.

(4)

كان عمرو موسى أكثر عدوانية وتوترا، في حين بدا أبو الفتوح أكثر هدوءا وتماسكا. ومع ذلك خرج المرشحان متعادلين تقريبا رغم الهنات هنا وهناك، بحيث يتعذر القول بأن أحدهما اكتسح الآخر. وهذا ما شهدت به وكالات الأنباء الأجنبية التي تابعت المناظرة، إلا أن الاستقطاب كان واضحا في بعض معالجات الصحف المصرية. فقرأنا في أوساط العلمانيين تهليلا لصالح عمرو موسى وحفاوة بالغة بما قاله وهجوما مقذعا على "أبو الفتوح" استند إلى جذوره الإخوانية. وذهب أحد الكاتبين في هجائه لأبو الفتوح إلى القول بأن موسى وجه إليه ضربة قاضية وأخرجه من سباق الرئاسة في أول جولة للحوار.

خلال فترة الاستراحة التي تخللت المناظرة طلب موسى فنجانا من القهوة الأميركية، أما أبو الفتوح فقد اكتفي بفنجان من القهوة التركية، الأمر الذي تصيده بعض الخبثاء واعتبروه إشارة لها دلالتها السياسية

لم يخل الأمر من هجاء لموسى، استعاد موقفه في مؤتمر دافوس حين انسحب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من المنصة احتجاجا على منعه من الرد على تجاوزات وأغاليط شمعون بيريز رئيس إسرائيل، لكن عمرو موسى الذي كان جالسا بالقرب منه تردد في التحرك ثم بقي في مقعده بعد إشارة من الأمين العام للأمم المتحدة. وغمز آخرون في مكافأة نهاية الخدمة التي منحت له عند مغادرته منصبه في الجامعة العربية، والتي طلب المندوب السعودي زيادتها إلى خمسة ملايين دولار في اجتماع مجلس الجامعة، وهو مبلغ لم يكافأ به أي أمين عام آخر في تاريخ الجامعة العربية، حيث كانت القاعدة أن يكافأ بمبالغ في حدود نصف مليون دولار فقط.

هذه الأصداء كانت من تداعيات تركيز التراشق والحوار حول الأشخاص. ولم تكن بعيدة عنها إشارة جريدة "الشروق" في عدد السبت 12/5 إلى أنه خلال فترة الاستراحة التي تخللت المناظرة فإن موسى طلب فنجانا من القهوة الأميركية، أما أبو الفتوح فقد اكتفي بفنجان من القهوة التركية، الأمر الذي تصيده بعض الخبثاء واعتبروه إشارة لها دلالتها السياسية. مرحبا بالتراشق المهذب بين المرشحين للرئاسة، وبشقاوة وتخابث المتابعين، طالما أننا نتقدم على طريق تأسيس معنى الديمقراطية بديلا عن مصر مبارك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.