المدينة المقدسة بين التهويد والتحرير

العنوان: المدينة المقدسة بين التهويد والتحرير

undefined

من زمن هرتزل إلى زمن نتنياهو
من الحاخام شلومو إلى الإرهابي فيجلين
في ظل الثورات العربية
على أجندة العرب

بلا تهويل.. هناك مجزرة حضارية مفتوحة يقترفها الاحتلال في المدينة المقدسة، التي لا تبعث أحوالها اليوم، بعد نحو أربعة وستين عاما على النكبة وخمسة وأربعين عاما على احتلالها, على التفاؤل أبدأ، بل إنها ربما لا تبقي لدينا شيئا من التفاؤل إذا لم يتحرك العرب بمنتهى الجدية والمسؤولية باتجاه إنقاذها.

فموجات الحملات والاعتداءات المتواصلة التي تشنها دولة الاحتلال على المدينة ومقدساتها باتت سافرة منفلتة، كما أن المحاولات المتكررة لقوى اليمين المتطرف التي تحاول بوتيرة متصاعدة اقتحام باحات الأقصى، وتكثيف الأنشطة الاستيطانية داخل البلدة القديمة وخارج أسوارها على حد سواء، يضاف إلى كل ذلك الاعتداءات والاستفزازات العنصرية ضد أهل القدس التي تترجم عمليا إلى صدامات مفتوحة معهم، هي التي تخيم على المدينة، وتستحضر إلى المشهد  تلك الأدبيات والأجندات الصهيونية المبيتة ضد المدينة المقدسة منذ عهد هرتزل.

من زمن هرتزل إلى زمن نتنياهو
فقد كان نبيهم مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتزل قال في إحدى خطبه في المؤتمر الصهيوني الأول (29–31 أغسطس/ آب 1897): "إذا حصلنا يوماً على القدس وكنت لا أزال حياً وقادراً على القيام بأي شيء.. فسوف أزيل كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وسأحرق الآثار التي مرت عليها قرون".

وما بين زمن هرتزل، واليوم، يعتلي نتنياهو المنبر السياسي الأيديولوجي الصهيوني ليعلن تباعا:
"اليوم لن أتحدث عن فك الارتباط، وإنما عن الارتباط بتراثنا وبالصهيونية، وبماضينا، وعن مستقبلنا هنا في أرض أجدادنا التي هي أرض أبنائنا وأحفادنا، ومن أجل أن نواصل السيطرة على مصيرنا يجب أن نؤسس قدراتنا الشاملة في الأمن والاقتصاد والثقافة والتعليم، وإذا أردنا أن نتحدث عن شيء أكثر أساسية فإنني سأتحدث عن ثقافة قيم الهوية والتراث، ثقافة معرفة جذور شعبنا، ثقافة تعميق ارتباطنا الواحد مع الآخر في هذا المكان، وأعتقد أن الثقافة تبدأ أولا في التناخ، لدينا حوال ثلاثين ألف معلم تاريخي يهودي يجب أن نحييها من جديد، إن شعبا لا يتذكر ماضيه، فإن حاضره ومستقبله يبقى ضبابيا/ نتنياهو أمام هرتزليا".

نتنياهو:
القدس الموحدة عاصمة إسرائيل وليست مستوطنة، والشعب اليهودي بنى القدس منذ ثلاثة آلاف سنة، ويبني القدس اليوم

وليواصل بعد ذلك مسلسل تصريحاته التي تحمل في أحشائها موقفا صريحا يخلد الاحتلال ويزيف الرواية والحقائق التاريخية، فيقول على سبيل المثال: "إن القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل وليست مستوطنة"، زاعما في كلمة أمام اجتماع لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية ما يسمى "إيباك" أن "الشعب اليهودي بنى القدس منذ ثلاثة آلاف سنة، وهو يبني القدس اليوم".

لذلك، فإن محاولات اليمين الصهيوني المتشدد اقتحام المسجد الأقصى والتي تصدى لها وأحبطها المقدسيون، ليست مجرد اعتداءات يمينية على المقدسات،  ففي المشهد الفلسطيني حروب صهيونية مفتوحة للإجهاز على الأرض والتاريخ والحضارة والتراث وكل المعالم التراثية التي تحكي حكايات الوجود والحضور العربي في هذه البلاد فلسطين، حروب صهيونية مفتوحة لاختراع رواية وهوية وحضارة صهيونية مزيفة على أنقاض روايتنا وهويتنا وحضارتنا العربية الإسلامية.

وإن كان نتنياهو يشن حربا تراثية حضارية صريحة: من الأقصى وكنيسة القيامة وكل الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، إلى الحرم الإبراهيمي في خليل الرحمن، إلى مسجد بلال –قبة راحيل- في بيت لحم.. إلى قبر يوسف في نابلس، إلى خطة العمل من أجل تهويد نحو ثلاثين ألف معلم تراثي يهودي مزعوم، مع التركيز دائما وأبدا على المدينة المقدسة باعتبارها "مدينة الآباء والأجداد" لهم، ثم إلى مطالبة الفلسطينيين والعرب بالاعتراف بـ"إسرائيل دولة للشعب اليهودي"، فإن ذلك ليس صدفة أو يقظة صهيونية متأخرة أو مفصولا عن تاريخهم وتراثهم العدواني على هذا الصعيد.

فلا يمكننا أن نفهم هذا الذي يجري على أرض فلسطين والمدينة المقدسة من هجمات استيطانية تهويدية هستيرية إلا في سياق الإستراتيجيات والأيديولوجيات الصهيونية التي تسعى في الآونة الأخيرة لأن تعطي غطاء توراتيا لكافة الإجراءات الجارية على الأرض.

من الحاخام شلومو إلى الإرهابي فيجلين
وما بين زمن هرتزل وزمن نتنياهو أيضا، تلتقي مختلف الأطياف السياسية الأيديولوجية الصهيونية على تكريس مكانة القدس والهيكل لديهم، باعتبار المدينة "مدينة الآباء والأجداد" أولا، وباعتبار أكثر من ستة آلاف موقع تراثي فيها "تراثا يهوديا" ثانيا، وباعتبار أن "من حق اليهود أن يفعلوا ما يشاؤون فيها "ثالثا، مما يبيح لهم على سبيل المثال موجات من الاعتداءات والاقتحامات المتلاحقة ضد الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية على حد سواء، ومما يبيح لهم أيضا العمل على هدم الأقصى تمهيدا لإقامة الهيكل الثالث المزعوم.

وقد تكشفت العقلية الصهيونية التدميرية تجاه الأقصى مبكرا جدا بعد العدوان والاحتلال عام 1967، حينما طلب الجنرال الحاخام شلومو غورن كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي من الجنرال عوزي نركيس قائد المنطقة الوسطى –في يوم احتلال القدس واقتحام الحرم القدسي الشريف عام 1967، "العمل على نسف الصخرة والمسجد الأقصى للتخلص منهما مرة واحدة وإلى الأبد"، ولم ينفرد شلومو بهذه العقلية التدميرية ضد الأماكن المقدسة، حيث إن عدد رجال الدين -الحاخامات– اليهود الذين شاركوه أفكاره ومعتقداته ونواياه أو ساروا عليها لاحقاً، ضخم وقد تزايد وفرخ أعداداً أخرى وأخرى على مدى سنوات الاحتلال.

وليس صدفة أن رأينا ونرى حتى يومنا هذا مسلسل محاولات التدمير ضد الأماكن المقدسة بغية نسفها ومحوها من الوجود إلى الأبد، فكافة المعطيات المتراكمة تؤكد لنا أن النوايا والمخططات والجماعات الإرهابية الصهيونية كلها قائمة.. والمسألة بالنسبة لها مسألة وقت وتوقيت فقط..؟!

من الحاخام شلومو، إلى الإرهابي فيجلين المرشح القوي لزعامة الليكود مستقبلا، كلهم يجمعون على أدبيات ونظريات هرتزل ونتنياهو المتعلقة بالقدس والأقصى والهيكل المزعوم

ويقود الجماعات التي تواصل محاولات اقتحام الأقصى المبارك في الآونة الأخيرة الإرهابي موشيه فيجلين، الذي نافس نتنياهوعلى زعامة حزب الليكود.

واستهداف المدينة المقدسة لا يقتصر على تلك التنظيمات فقط، فهناك الدولة الصهيونية بكل مؤسساتها الوزارية والإدارية والإعلامية، تعمل بلا كلل من أجل إحكام قبضتها الاستيطانية والدينية والسياسية/السيادية على القدس، وحسب بعض التقارير الفلسطينية فإن ما يجري في القدس من إجراءات إسرائيلية لا يُعد إلا "تطهيراً عرقياً"، و"باتت إسرائيل في المرحلة النهائية من أحكام سيطرتها على القدس ومحيطها".

وإذا ما أضفنا لكل ذلك هذا التصعيد الأخير من قبل نتنياهو بخصوص حائط البراق، فإن النوايا والمخططات والأهداف الإسرائيلية المبيتة ضد القدس والأقصى والبراق جزء لا يتجزأ منها، وتغدو واضحة صريحة.

فمن الحاخام شلومو، إلى الإرهابي فيجلين المرشح القوي لزعامة الليكود مستقبلا، كلهم يجمعون على أدبيات ونظريات هرتزل ونتنياهو المتعلقة  بالقدس والأقصى والهيكل المزعوم.

في ظل الثورات العربية
غير أن الملاحظ في الآونة الأخيرة، وفي هذا السياق الهجومي الصهيوني التهويدي، أن حملاتهم التهويدية في القدس أخذت تحمل طابعا تفريغيا تزييفيا شاملا وعلى نحو مسعور لم نشهده من قبل، وذلك في ضوء الثورات والحراكات الشعبية العربية التي أخذت القيادات الصهيونية تتوجس منها خوفا ورعبا على مستقبل "إسرائيل".

وفي ذلك، فهم يجمعون هناك في تقديراتهم وقراءاتهم الإستراتيجية على أن "إسرائيل تواجه تحديات إستراتيجية حقيقية ومستقبلا غامضا في ظل الثورات العربية"، ولذلك فهم" يعتبرون أنفسهم في سباق مسعور مع الزمن والتطورات"، ويشنون حروبا مفتوحة على كامل الأرض العربية الفلسطينية المحتلة، ويشنون حربا من نوع خاص على المدينة المقدسة، بغية تحويلها إلى "مملكة وحدائق توراتية"، تحقق أمنية نبيهم هرتزل في إزالة كل شيء ليس مقدساً لدى اليهود فيها، وحرق الآثار التي مرت عليها قرون، وتحقيق برنامج رئيس حكومتهم نتنياهو الذي يجسد خلاصة الفكر والنوايا والمخططات الصهيونية في تهويد القدس والتراث فيها.

فإن كانت الدولة والقيادات والأحزاب والجماعات الإرهابية الصهيونية عملت على مدى سنوات الاحتلال السابقة لانطلاقة الثورات العربية، وفق مخططات وبرامج سطو وتهويد روتينية، فإنها تجمع اليوم أكثر من أي وقت مضى، على ضرورة مسابقة الزمن والتطورات الدرامية في العالم العربي، والعمل على إحكام  القبضة التهويدية الصهيونية على المدينة المقدسة، عبر إقامة المزيد والمزيد من "حقائق الأمر الواقع الاستيطاني"، قبل أن تتمخض الثورات العربية عن خرائط ومعادلات وموازين قوى أخرى مختلفة، قد تضع حدا للمشاريع التهويدية، وتفرض على دولة الاحتلال تراجعا في مخططاتها، وربما تفرض عليها حروبا وجودية لم تأت في حساباتهم.

على أجندة العرب
لقد تفشت حمى الاستيطان والتهويد بشكل مذهل وسافر، وأخذت الحكومة الإسرائيلية تسرع في أنشطتها الاستيطانية التهويدية، مستثمرة انشغال العرب على امتداد مساحة العرب، بأوضاعهم الداخلية إلى حد كبير، لدرجة أننا لم نلحظ نشاطا عربيا حقيقيا من أجل القدس، باستثناء مؤتمر القدس الدولي الذي عقد بإشراف الجامعة العربية في الدوحة يومي 26 و27 فبراير/ شباط الماضي، حيث طرح المؤتمرون فكرة ومشروع تدويل القدس، ودعوا إلى إنشاء لجنة دولية على مستوى الأمم المتحدة للتحقيق في الإجراءات التي تتخذها "إسرائيل" منذ عام 1967 لتهويد القدس وإجبارها على التراجع عن هذه الإجراءات!

فلا شك أن جبهة التدويل ولجان التحقيق وتفعيل الأبعاد القانونية والأخلاقية ومواثيق وقرارات الأمم المتحدة، في غاية الأهمية، غير أنها ليست كافية لإجبار "إسرائيل" على التراجع عن التهويد!

فهم هناك في "إسرائيل"، يعملون من أجل اختلاق وصناعة قدس يهودية كما اختلقوا وصنعوا دولة "إسرائيل"، غير أن تلك الدولة من وجهة نظرهم لا تكتمل إلا بتكريس "القدس يهودية عاصمة أبدية لهم".

فما يجري هناك على الأرض يحتاج إلى إعادة الارتباط ما بين القدس وفلسطين، وإلى إعادة الاعتبار للمدينة المقدسة لتغدو ثانية على قمة الأجندات والاهتمامات العربية والإسلامية!
فالذي اعتدنا عليه حتى الآن عقد القمم والمؤتمرات العربية من أجل القدس، لتنتهي مع انتهائها، بينما قاطرة الاستيطان والتهويد واختطاف المدينة تسير!

فنعم للتدويل وتشكيل اللجان الدولية وتفعيل القوانين والمواثيق والقرارات الأممية، ولكن تبقى الحاجة أولا إلى إعادة الارتباط ما بين القدس وفلسطين والعرب ارتباطا قوميا عروبيا حقيقيا…!

التدويل ولجان التحقيق وتفعيل الأبعاد القانونية والأخلاقية ومواثيق وقرارات الأمم المتحدة، في غاية الأهمية، غير أنها ليست كافية لإجبار "إسرائيل" على التراجع عن التهويد

فإذا كانت هذه الخلاصة هي الاستخلاص الأهم في الموقف الفلسطيني العربي، وإذا كان هذا الاستخلاص يصطدم بقوة بالسياسة الرسمية الإسرائيلية الاحتلالية تجاه القدس، وبمخططات الاستيطان والتهويد والإحلال الجارية على قدم وساق هناك، فإن السؤال الملح الذي يطرح نفسه بقوة: القدس تتهود.. فما الحل وما العمل العاجل كي لا تخرج القدس من كل الحسابات الفلسطينية والعربية والدولية كما تريد الدولة الصهيونية؟

هكذا هو المشهد المقدسي اليوم في ظل الثورات والأوضاع  العربية، فالقدس  تتعرض للسطو الصهيوني التهويدي السافر في وضح النهار، وما لم ينتفض الفلسطينيون والعرب والعالمان الإسلامي والمسيحي ضد هذا التهديد، وما لم نر إستراتيجية فلسطينية عربية شاملة لإنقاذ وتخليص القدس، فإن القدس والمقدسات في خطر حقيقي حقيقي. ونقصد بالإستراتيجية العربية الشاملة، تلك الإستراتيجية التي تحشد فيها الأمة طاقاتها وقدراتها الشاملة على مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية من أجل قضية فلسطين بشكل عام، وقضية القدس بشكل خاص. 

ومثل هذه الإستراتيجية العربية الشاملة تحتاج بلا أدنى شك إلى خطط جزئية ومرحلية وقائية ودفاعية في المرحلة الأولى تمنع إسرائيل من إضفاء الشرعية على احتلالها وتهويدها للقدس أولاً، وتدافع عن هوية وانتمائية القدس ثانيا.

وتحتاج كذلك إلى خطط متوسطة وبعيدة المدى من أجل تحقيق لمّ الشمل العربي والارتقاء العربي إلى مستوى الأخطار المحدقة، وصياغة خطاب عربي يعبر عن الحقوق المشروعة والثابتة للعرب في القدس .

وبالضرورة يجب أن يحتل الدعم العربي الشامل للموقف الفلسطيني قمة أولويات الإستراتيجية العربية، ونقصد بالموقف الفلسطيني ذلك الموقف الرسمي المطالب بالسيادة العربية على القدس والموقف الشعبي الفلسطيني المقاوم لمخططات التهويد الإسرائيلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.