التضحية بستيف جوبز وكربلاء الجديدة

التضحية بستيف جوبز وكربلاء الجديدة - الكاتب: عبدالرحمن الجيتاوي

 undefined

في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي وفي مطعم قرب سان هوزيه في كاليفورنيا، التقى رجلان بدا أنهما مختلفان في كل شيء. الأول سوري تجاوز الخمسين، مدرس جامعي سابق ينحدر من عائلة عريقة وثرية تنسب نفسها إلى العترة الشريفة، ويعمل بجد على تأسيس نفسه في العالم الجديد.

أما الثاني فهو أسطورة أميركية فريدة ومؤسس شركات متعددة امتلك حينها مئات الملايين من الدولارات (زادت إلى مليارات لاحقا) مع أنه لم يبلغ الثلاثين ولم يحمل شهادة جامعية ولا يعرف والديه الحقيقيين، إذ نشأ في كنف رجل متواضع من وسكنسون يعمل في إصلاح السيارات.

دار بين الرجلين حوار مقتضب انتهى بمصافحة سريعة ليظل الرجل "الحمصي" يذكر ذلك اللقاء بفخر ملاحظا أريحية المدير الشهير الذي ترك إكرامية سخية.

وفي مفارقة كنا نظن أنها لا تحدث إلا في أفلام "بوليود" الهندية، اكتشف الاثنان بعد سنوات أنهما أب وإبن. فالمدير الأسطورة "ستيف جوبز" ليس سوى ابن السوري "الدكتور عبد الفتاح جندلي" كما أصبح الآن معروفا وكما ذكر المؤرخ ولتر أساكسون في سيرة ستيف جوبز التي طلب ستيف كتابتها وتم نشرها بالتزامن مع وفاته في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.

حاول ناشطون سوريون الحديث عن ستيف كمثال لما يمكن أن يحققه الإنسان السوري إذا تخلص من القمع. لكن المتمعن في قصة ستيف يجد دروسا أخرى وتناصا مدهشا بينها وبين تفاعلات التورة السورية لجهة التضحية بالإنسان وسياقات الإنكار ومآّلات الأحداث.

عبد الفتاح ناشطا قوميا
كان عبد الفتاح جندلي شابا لامعا على معرفة بجورج حبش وميشيل عفلق. نشاطه القومي أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت مكنه أن يصبح رئيسا "لجمعية العروة الوثقى" التي كانت خميرة من خمائر الفكر العروبي وشفراته الأساس. يمكن على سبيل المثال استحضار أسماء خمسة رؤساء وزارات عرب اختمرت تجربتهم السياسية الأولى في رحاب العروة الوثقى وما أسسه أعضاؤها من هيئات كالنادي العربي.

نشاط عبد الفتاح جندلي القومي أثناء دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت مكنه أن يصبح رئيسا "لجمعية العروة الوثقى" التي كانت خميرة من خمائر الفكر العروبي وشفراته الأساس

ذكاء عبد الفتاح الحاد وطموحه مكناه من الحصول على درجة الدكتوراه قي العلوم السياسية من جامعة وسكنسون عام  1956 وهو في سن الخامسة والعشرين. لكن عبد الفتاح واجه قرارين خطيرين في مقتبل حياته "الأميركية". فعندما رفض والد صديقته "جوان شيبل" زواجهما، قامت هي بعرض رضيعهما "سمير" للتبني عام 1955. وبعد أن توفي والد جوان تزوج الاثنان ثم انفصلا عام 1961 حيث ترك عبد الفتاح زوجته وابنته "منى" ذات السنوات الأربع.

البقية تاريخ كما يقول الأميركيون. كبر سمير وأصبح "ستيف جوبز". وكبرت منى لتصبح الروائية الشهيرة "منى سمبسون". منى كانت تعتقد أن والدها تركها بسبب سعيه لتحقيق مشروع قومي ما وقد كتبت رواية "الأب الضائع" من وحي قصتها الشخصية. ثم استعمل زوجها "ريتشارد أبل" نفس التيمة في إحدى حلقات المسلسل الأميركي الشهير "عائلة سمبسون"، حيث يكتشف بطل المسلسل "هومر" أن والدته (منى) كانت ناشطة ثورية اضطرت للتخلي عنه بسبب مطاردة السلطات الفدرالية لها.

ورغم استقراره في أميركا منذ تخرجه باستثناء فترة محدودة، يبدو أن عبد الفتاح الناشط القومي السابق الفخور لم يبادر بالاتصال بعائلته. ربما كان ذلك نفورا من طليقته المتقلبة. وربما يكون أراد أن يدير ظهره للماضي في سبيل مشروعه الأهم حيث قال إنه كان يطمح في دخول السلك الدبلوماسي وممارسة دور وطني بصورة أو بأخرى.

ستيف ومنى.. بين الإنكار والحنق
بموت ستيف تحولت مقار شركة أبل إلى مزارات تتكوم عندها باقات الورد وتوقد الشموع وتترك حبات التفاح المقضومة كما هو شعار الشركة. كانت المرة الأولى التي نشاهد فيها جماهير واسعة حول العالم تبكي لفقد مدير شركة تجارية. فدموع الجماهير عادة لا تسفح إلا على سياسيين أو فنانين أو قادة دينين.

قد يقال إن التعلق حد الوله بالشركة التي أنتجت الآي-فون والآي-باد هو منتهى الخواء الإنساني وإيذان بوصول عصر الاستهلاك إلى ذروته. لكنه أيضا انعكاس لحالة صناعية فريدة. فأبل لا ترضى بميزة أو ميزتين تنافسيتين في منتجاتها قبل طرحها إلى الأسواق. ليس غير الإبداع الشامل يشفي غليل مديرها الصلف ستيف. 

تبدو أبل مع كل منتج جديد وكأنها تحرق المراحل حرقا وتضرب الصناعات ببعضها البعض فتعيد تعريفها وتمزج علوم النفس بالاجتماع بالتقنية لتأتي بمنتجات فذة كأنها خارجة من فلم من أفلام الخيال العلمي. هي خلطة سحرية لا تتقنها، رغم استماتة المنافسين، سوى أبل. فليس عجيبا والحالة هذه أن يتحول الزبون إلى معجب متيم، والرئيس التنفيذي إلى قديس أو بطل هوليودي، والشركة إلى أكبر شركات العالم قيمة سوقية إذ تصل حاليا إلى 600 مليار دولار وقد تبلغ الترليون خلال سنتين. يعتقد أصدقاء ستيف مثل دل يوكام أن تخلي والديه عنه سبب له الكثير من الألم لكنه أيضا أعطاه استقلالية وسعيا دائما للسيطرة على محيطه.

اعتبر ستيف والده عبد الفتاح، بعد أن أدرك علاقتهما، مجرد "بنك حيوانات منوية". ولعله من السخرية أن تنشأ جمعيات وجوائز عربية باسم ستيف جوبز اتكاء على "جيناته العربية". فستيف نفسه لم يهتم أبدا بأصله العربي وظل على حياد سلبي من قضايا الشرق الأوسط. ربما كان هذا نتيجة حنقه على والده الذي تخلى عنه. وربما دفعته حساسيته التسويقية واهتمامه المفرط بصورته أن ينأى بنفسه عن "لوثة" العروبة. وإلا فلم تسامح مع والدته وجعلها جزءا من أسرته على الرغم من كونها هي التي لعبت الدور الأكبر في قرار التخلي عنه؟

وفي خضم تأبين ستيف جوبز، قرأ العالم كلمة الرثاء التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز بقلم منى سيمبسون وجاءت على ذكر والدها قائلة إنها كانت دوما تريد أن تصدق أن أباها تركها دون ما يدل على مكانه "لأنه كان ثائرا مثاليا مشغولا بالإعداد لعالم أفضل للشعوب العربية". كأن منى تسخر من إنكارها وسذاجتها الطفولية إذ تحاول جاهدة خداع نفسها حفاظا على صورة والدها الجميلة.

سيكولوجيا التبرير
ينحاز المدافعون عن النظام السوري "لمصالح مبادئهم" ويحاولون بوعي أو بدونه عقلنة موقفهم بإنكار الذبح اليومي. لكن إنكارهم هذا لا يختلف كثيرا عن إنكار طفلة هجرها والدها وما عاد عندها غير التعلق بصورة قديمة تدافع عن صاحبها باستماتة. في علم النفس، يستخدم الإنسان "الإنكار اللاواعي" عندما يرفض عقله تقبل الواقع فينشئ عالما وهميا موازيا يمكنه فهمه والتعامل معه. إنكار المجزرة الماثلة أمام الأعين هي حالة سيكولوجية بامتياز تتحول إلى جريمة بحد ذاتها وشراكة مباشرة في القتل إذ تتوسل بأساطير "العصابات المسلحة" وخرافة القائد الذي لا "يدري ولا يرضى بقتل شعبه".

ينحاز المدافعون عن النظام السوري "لمصالح مبادئهم" ويحاولون بوعي أو بدونه عقلنة موقفهم بإنكار الذبح اليومي. لكن إنكارهم هذا لا يختلف كثيرا عن إنكار طفلة هجرها والدها

يزيد بن معاوية أيضا كان يدعي أنه لا يرضى بقتل معارضيه. يروي المؤرخون كابن الأثير والطبرسي تنصل يزيد من دم الحسين. وذكرت إحدى روايات المصادر الشيعية أن يزيدا اختلى بعلي بن الحسين بعد أيام من كربلاء ونفى إعطاء الأمر بالقتل قائلا "لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أنني صاحب أبيك (كنت معه) لدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن الله قضى". لو كان حول يزيد بعض إعلاميي عصرنا لاعتبروا الحسين الشهيد وثلته "عصابة مسلحة" مدفوعة "بفكر تكفيري" وساعية لتخريب "محور المقاومة" الصامد بوجه الروم. ألم يحارب يزيد أعداء الدولة من خراسان حتى غرب أفريقيا؟

لكن الكثير من مؤرخي وفقهاء السنة والشيعة على السواء لم يترددوا في تقريع يزيد ولومه على كربلاء بمقالات كثيرة منها كتاب ابن الجوزي تلميذ ابن حنبل (الرد على المتعصب العنيد، المانع من ذم يزيد). نحن هنا لسنا في وارد بحث ذلك الخلاف ولم نورد إلا ما اتفق عليه الكثير من مؤرخي السنة والشيعة لإظهار التشابه الفاضح بين كربلاءي الأمس واليوم.

التواطؤ مع المجرمين في كربلاء السورية لا يفسر إذاً -إذا وضعنا التبريرات المصلحية والطائفية جانبا- إلا في إطار الخلل المريع في الأولويات (المشروع القومي قبل الناس) والسيكولوجيا المنفصمة عن الواقع (الإنكار اللاواعي).

وإلا فكيف يمكن لأي كان أن يصم أذانه عن طحن الجماجم حقيقة لا مجازا؟ يروي حسام الشافعي البطل الأولمبي السابق الذي فقد قدمه في حماة كيف كانت الدبابات، وكأنها خيول كربلاء "الأعوجية"، لا تكتفي بقتل الناس بل تعود جيئة وذهابا على جثثهم حتى يسمع صوت تكسر عظامهم.

وتخبرنا تقارير الصحفيين كيف حورب الناس بالظمأ في معظمية دمشق وذبح الرضع في بابا عمرو، وكيف فصلت رأس زينب الحصني عن جسدها وطافت الأشلاء حتى وصلت أهلها، وكيف اعتقل الطفل حمزة الخطيب في درعا وعاد إلى أهله جثة مقطعة مشوهة بعد أن شوهد سليما خلال الحجز كما ذكر المنشق أفاق أحمد ابن الطائفة العلوية الذي كان مدير مكتب رئيس قسم العمليات الخاصة في المخابرات الجوية. وذكر الأستاذ الجامعي ومدرس بشار الأسد السابق الدكتور محمد الكردي كيف قتل النظام عائلات بأكملها في قريته بشكل عبثي. 

يصبح حياد كل قادر على الكلام جريمة. فسوريا اليوم هي كربلاء ممتدة يشاهدها العالم الذي لا يتعلم من صمته المخزي على جرائم التاريخ. هي مجزرة ينتصر فيها الدم على السيف بقوم يبرزون لحتوفهم المعروفة سلفا. هؤلاء هم الورثة الحقيقيون، فعلا لا قولا، للصرخة الخالدة "أبالموت تخوفوننا؟ طاش سهمكم".

هؤلاء الذين يلغ في دمهم النظام السوري هم أبناء الأنبياء وذراري القديسين والأولياء ومخترعي الأبجدية وصناع الحضارة. كل طفل قتله النظام في حمص هو مشروع ستيف جوبز الذي أسس شركة تزيد قيمتها عن الناتج السوري الإجمالي منذ الاستقلال وحتى اليوم أضعافا مضاعفة.

كل شيخ ووري الثرى في مقبرة جماعية في حماة هو معري ذبيح. كل جندي أعدم لرفضه قتل العزل هو سيف الدولة في عنفوانه، وكل امرأة اغتيلت كرامتها هي ملكة من ملكات تدمر. هؤلاء ليسو أرقاما أو شخوصا في فيلم خيالي. هم ألوف مؤلفة من البشر لكل واحد منهم أسرة وقصة وأحلام.

ماّلات
إن صحت رواية منى سمبسون عن سبب ترك والدها لها، فإن تضحية عبد الفتاح بأسرته في سبيل أولويات "قومية" انتهت به أن يخسر كليهما.

إن صحت رواية منى سمبسون عن سبب ترك والدها لها، فإن تضحية عبد الفتاح بأسرته في سبيل أولويات "قومية" انتهت به أن يخسر كليهما

مارس عبد الفتاح عدة أعمال بعد تخرجه منها التدريس الجامعي وإدارة المطاعم بما فيها المطعم الذي التقى فيه بابنه دون أن يعرفه. وكان مؤخرا، وقد تجاوز الثمانين، مديرا لخدمة الطعام والشراب في ملهى "بومتاون" في مدينة رينو الأميركية قبل ترفيعه ليصبح مدير الملهى.

قال عبد الفتاح جندلي في تصريح لنيويورك بوست قبل سنوات إنه لو عاد به الأمر لأصلح علاقته بأبنائه. قال إنه سيكون كاذبا لو قال إنه لا يشعر بالحزن وإن كل ما يتمناه ليكون سعيدا هو تناول فنجان قهوة مع ابنه. لكن ستيف توفي ولم يتناولا فنجان القهوة ذاك.

الدكتور جندلي مؤخرا نصح الشباب العربي ألا يطيل الإقامة في الولايات المتحدة وأعلن تأييده للثورة السورية وكتب مقالا في صحيفة عربية مهاجرة يقطر لوعة على مدينته حمص. خير الخطائين التوابون. كل ما نأمله الآن ألا يحتاج من خذلوا الشعب السوري في كربلائه إلى ستين سنة ليدركوا خطأهم ويحاولوا إصلاحه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.