الثورة وإعادة إنتاج الحكم العسكري

الثورة وإعادة إنتاج الحكم العسكري - الكاتب: بشير عبد الفتاح

undefined

اقتحام الجيش للسباق الرئاسي
تراجع الطلب الشعبى على الديمقراطية
تأزم العلاقات المدنية العسكرية
التقبل الغربي

يفصح تاريخ الثورات البشرية عن رؤية مفادها أن الثورة إذا ما ضلت طريقها أو عجزت عن تحقيق أهدافها أو أخفقت في مواكبة ثورة التوقعات الشعبية المنبثقة عنها، يمكن لقطاعات واسعة من الشعب -الذي تجشم عناء الكلفة الباهظة للفعل الثوري على المستويات الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية- أن تشيح بوجوهها عن النخب المدنية التي أنهكها وقطع أوصالها التكالب المحموم على السلطة، مفضلة اللوذ بالنخبة العسكرية التي تنجح في إبراز نفسها كخط دفاع أخير في بلد يوشك أن يورده قطار الثورة الجامح موارد الفشل والانهيار.

وعديدة هي النماذج لثورات أعادت إنتاج الأنظمة السابقة أو الحكم العسكرى مرة أخرى، إن بشكل منفرد بمعنى هيمنة العسكريين على السلطة بمفردهم، أو من خلال توافق وتنسيق بين العسكر ونخبة مدنية.

ففي دراستها لقرابة 85 حالة انتقال نحو الحكم المدني الديمقراطي حول العالم بين عامي 1974 و1999 اكتشفت باحثة أميركية أن ثلاثين منها فقط هي التي نجحت مقابل 34 حالة عادت فيها البلاد أدراجها إلى الحكم المطلق، بينما وقعت 21 حالة في براثن الديمقراطية الشكلية.

وفي دولة كأوكرانيا، أفرزت الثورة البرتقالية عام 2004 بيئة سياسية مهدت لإعادة إنتاج نظام ما قبل الثورة. فخلال الفترة الانتقالية التي امتدت ما بين عامي 2004 إلى 2010، أفضى الإخفاق والتسلط اللذين خيما على حكم يوشانكو أول رئيس بعد الثورة إلى فوز الرئيس السابق يانكوفيتش في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2010، رغم أن الثورة البرتقالية كانت قد وضعت إسقاط نظامه وإنهاء حكمه على رأس أولوياتها.

ولم يختلف الحال كثيرا في مصر بعد حركة الضباط الأحرار في العام 1952، والتي اكتسبت وصف الثورة بعد تأييد غالبية الشعب لها. فلم تفلح محاولات اللواء محمد نجيب بعد عودته للرئاسة عام 1954 لإقرار الديمقراطية وحل مجلس قيادة الثورة، الذي أجهض عدد من قياداته تلك المحاولات عبر إلغاء قرارات 25 مارس/آذار الخاصة بإجراءات التحول نحو الحكم المدني الديمقراطي والتخلص من محمد نجيب تماما بوضعه رهن الإقامة الجبرية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954.

واليوم، ورغم التأكيد المتواصل للمجلس الأعلى للقوات المسلحة على عزمه تسليم السلطة للمدنيين في نهاية شهر يونيو/حزيران المقبل، لا تزال تلوح في الأفق المصري معطيات شتى منذرة باحتمال إعادة إنتاج نظام يوليو العسكري مجددا بشكل أو بآخر، لعل أبرزها:

رغم التعهدات التي قطعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعدم الزج بمرشح ينتمي للمؤسسة العسكرية للمنافسة على منصب الرئاسة، فإن الفترة الانتقالية لم تخل من مساع للدخول على خط الماراثون الرئاسي

اقتحام الجيش للسباق الرئاسي
رغم التعهدات التي قطعها المجلس الأعلى للقوات المسلحة في بياناته وتصريحات أعضائه منذ توليه زمام الأمور في البلاد عقب تنحي مبارك في الحادي عشر من فبراير/شباط 2011، بعدم الزج بمرشح ينتمي للمؤسسة العسكرية للمنافسة على منصب رئيس الجمهورية، إلا أن الفترة الانتقالية لم تخل من مساع متواصلة ومتنوعة من جانب تلك المؤسسة للدخول على خط الماراثون الرئاسي.

فمن جهة، ظهرت بين الفينة والأخرى حملات دعائية تروج لترشح شخصيات محسوبة على العسكريين لمنصب الرئيس، وأطلقت شعارات من قبيل: "وزير الدفاع المشير طنطاوي رئيسا"، و"مدير المخابرات ونائب الرئيس السابق اللواء عمر سليمان رئيسا". ومن جهة ثانية، عمدت قيادات سابقة في الجيش وأجهزة الاستخبارات إلى إعلان الترشح للرئاسة، كرئيس الأركان الأسبق الفريق مجدي حتاته، الذي عاد بعد ستة أشهر وعدل عن الترشح، ثم الفريق أحمد شفيق قائد القوات الجوية ووزير الطيران ورئيس الوزراء الأسبق، والذي أبدى مؤخرا استعداده للتنازل عن الترشح لمصلحة اللواء عمر سليمان إذا ما ترشح معتبرا إياه الأصلح لتولي الرئاسة.

وكذا الفريق حسام خير الله -وكيل المخابرات العامة الأسبق- وممدوح قطب -المدير العام الأسبق بجهاز المخابرات العامة- كما تردد إسم اللواء سامح سيف اليزل كنائب للمرشح الرئاسي منصور حسن قبل انسحابه من السباق. حتى جاء اللواء عمر سليمان ليؤكد ترشحه رسميا للرئاسة حاسما جدلا طويلا.

وبالتوازي مع هذين المسارين، حرصت دوائر عسكرية واستخباراتية على مد جسور التفاهم مع مرشحين رئاسيين مدنيين ممن لم يمانعوا في التنسيق معها، في الوقت الذي لم تتورع السلطات المعنية عن الاستفادة من معطيات البيئة الانتخابية، لاسيما تلك القانونية والدستورية والدعائية، فضلا عن توظيف العلاقات القلقة والفرص التنافسية بين المرشحين الرئاسيين، من أجل ضبط إيقاع الماراثون الرئاسي وتوجيه مساراته ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، على نحو ما ظهر جليا في مسألة جنسيات المرشحين وأسرهم كما انسحاب بعضهم من السباق أو تنازله لمصلحة مرشحين آخرين. الأمر الذي اعتبره البعض مسعى من المجلس العسكري لتهيئة الأجواء أمام ترشح اللواء عمر سليمان وتعظيما لفرص فوزه بالرئاسة.

تراجع الطلب الشعبى على الديمقراطية
إذا كان لكل ثورة تكلفة يتعين على الشعوب تحملها حتى بلوغ تلك الثورات للغايات المرجوة منها، فإن حدود قدرة أي شعب على التحمل ترتهن بطبيعة وسرعة أداء القائمين على الأمور خلال المرحلة الانتقالية، ذلك أن الثورات إذا ما ضلت طريقها أو لم تفلح في تحقيق أهدافها أو تحتوى الارتباكات الأمنية والاقتصادية والسياسية المصاحبة لها والناجمة عنها، قد تضطر شرائح شعبية واسعة، بعد أن ضاقت ذرعا بتعثر المرحلة الانتقالية وتخبطها وطول أمدها، إلى التخلي عن الأحلام والمرامي الإستراتيجية للثورة كالديمقراطية لمصلحة المطالب التكتيكية الملحة كاستعادة الأمن وتحقيق الاستقرار الاقتصادي.

ولكم حفل تاريخ الثورات البشرية بنماذج عديدة في هذا المضمار، كانت مصر مسرحا لأحدها عقب ثورة يوليو 1952. فبإيعاز من الجناح المناهض لدمقرطة البلاد وعودة الجيش لثكناته داخل مجلس قيادة الثورة، والذي اعتبر مساعي الجناح الآخر بقيادة محمد نجيب في هذا الخصوص مؤامرة على الثورة ومحاولة لتسليم البلاد إلى القوى الرجعية التي كانت تهيمن على مقاليد الحكم قبل الثورة، خرج عمال النقل في 28 مارس/آذار 1954، في مظاهرات حول مبنى البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة رفعت شعارات من قبيل: "لا أحزاب ولا برلمان"، "تسقط الديمقراطية.. تسقط الحرية" الأمر الذي أسفر عن إلغاء قرارات 25 مارس الخاصة بتدشين إجراءات التحول الديمقراطي لينتصر دعاة "الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية" على تيار "الديمقراطية السياسية".

واليوم ثمة تشابه بين الحالتين، إذ يبدو أن تفاقم مخاوف قطاعات شعبية من أعباء المرحلة الانتقالية وضبابية المستقبل في ظل تفاقم الاضطرابات الأمنية والسياسية والاقتصادية إضافة إلى مساعي الإسلاميين للهيمنة على مفاصل السلطة مع تواضع أدائهم خلال المدة المنقضية، من شأنه أن يعزز فرص أي مرشح رئاسي محسوب على المؤسسة العسكرية أو قريب منها.

فمع تنامي أعداد المرشحين الرئاسيين ذوي الخلفيات الإسلامية تفجرت حالة من الاستقطاب السياسي الحاد بين القوى السياسية المصرية، وتحديدا العلمانية منها والإسلامية، وتحت وطأتها جنحت قوى سياسية مدنية لمطالبة المجلس العسكري بتقديم مرشح رئاسي ذي خلفية عسكرية في مواجهة المرشحين الإسلاميين إنقاذا للدولة المدنية والتأكيد على القيم والثوابت الاجتماعية بما يحفظ للبلاد تعددها الثقافي والتأكيد على حقوق المواطنة والمساواة بين أبناء المجتمع. وهو ما ينذر بإمكانية تشكل محور علماني مدني عسكري في مواجهة المحور الإسلامي بشقيه الإخواني والسلفي.

تبارت النخب المدنية في توسيع فجوة الثقة مع العسكريين وتكريس الصور الذهنية النمطية السلبية المتبادلة بالقدر الذي يقود إلى تفزيعهم واستعدائهم وتحفيزهم على البقاء في السلطة 

تأزم العلاقات المدنية العسكرية
ثمة صور ذهنية نمطية سلبية متبادلة بين العسكريين والمدنيين فيما يتصل بشؤون الحكم والسياسة وإدارة البلاد، تؤثر بدورها على نمط العلاقات السائد بين الطرفين. فمن جانبهم، يعتقد العسكريون أن المدنيين لا يتمتعون بمستويات من الكفاءة والحزم بما يكفل إدارة البلاد على النحو الأمثل، حتى أن مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية في تأكيده نهاية مارس/آذار الماضي على رفض الجيش مساس أي طرف بمشروعاته الاقتصادية، برر ذلك بمخاوف العسكريين من إفشال المدنيين لها حيث قال: "لن نترك اقتصادنا للدولة حتى لا "يخرب".

على الجانب الآخر، يوقن المدنيون بأن العسكريين لا يجيدون التعاطي الناجع مع القضايا والأمور المدنية، ولا سيما السياسية منها. ومن رحم تلك التصورات المتبادلة، انبلج ما يمكن اعتباره أزمة ثقة بين الجانبين.

ولقد برزت جلية تلك الأزمة في تفاعلات الطرفين بعد سقوط مبارك. إذ هرع كل طرف لإقصاء الآخر قدر المستطاع عن السلطة والحيلولة دون استئثاره بعملية وضع أطرها الدستورية والقانونية. وفي حين لجأت دول عديدة في مراحل التحول الديمقراطي كجنوب أفريقيا والفلبين والمكسيك وبولندا وكوريا الجنوبية وتشيلي والمجر وغيرها، إلى تجاوز أزمات ثقة مشابهة من خلال الحوار البناء والتفاهم بين العسكريين ونخبة مدنية متوافقة تستند إلى دعم شعبي مما ساعد تلك الدول على إنجاز الانتقال الهادئ والآمن باتجاه الديمقراطية والحكم المدني، افتقدت التجربة المصرية بعد ثورة يناير 2011 آليات كهذه.

فمن أسف أن تفتقد النخب المدنية المصرية إلى الحد الأدنى من التوافق والثقة المتبادلة المرتكزين إلى دعم شعبي، وفي تعاطيها مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، تبارت تلك النخب في توسيع فجوة الثقة معه وتكريس الصور الذهنية النمطية السلبية المتبادلة بالقدر الذي يقود إلى تفزيع العسكريين واستعدائهم وتحفيزهم على البقاء في السلطة بصيغة أو بأخرى لحماية خصوصية مؤسستهم ومكتسباتها.

ففيما اعتبره العسكريون استفزازا من قبل المدنيين، بدأ هؤلاء في بلورة طروحات مثيرة لدور الجيش في مرحلة ما بعد مبارك على شاكلة "الخروج الآمن" أو "الخروج العادل" أو "ضرورة الملاحقة القضائية لأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة". ولم يتبن المدنيون نهجا تفاوضيا وتدرجيا لإبعاد الجيش عن السياسة وتعرضوا مباشرة لما يعتبره قادته قدس أقداسه كمناقشة ميزانيته العسكرية ومشروعاته الاقتصادية وتحجيم دوره السياسي من خلال نصوص صريحة وواضحة ومفصلة في الدستور الجديد.

وربما بعثت تصريحات مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية قبل نهاية مارس/آذار الماضي برسائل تحذيرية مباشرة في هذا الخصوص. حيث أكد بلهجة حازمة أن الجيش لن يسمح لأية جهة بالتدخل في مشاريعه الاقتصادية التي تتراوح تقديراتها ما بين 10% إلى 40% من الاقتصاد الكلى للبلاد، أو حتى الاقتراب منها، وأنه سيقاتل من أجلها معتبرا إياها بمثابة أمن قومي.

وفي تلويح بعدم تقبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة أي محاسبة سياسية عن إدارته للمرحلة الانتقالية، أكد أنه ليس بمقدور أحد محاسبة من بذل جهوداً ضخمة لإدارة البلاد وسط الظروف العصيبة التي شهدتها حتى اضطر لسحب القوات المسلحة من مواقعها ودفعها للشارع لمواجهة ما أسماه "كرة النار التي ألقيت بين يديه".

ثمة تفهم بل وتقبل غربي لإعادة إنتاج الحكم العسكري في مصر، لأسباب عديدة لعل أهمها: تشابك المصالح بين واشنطن والنخبة العسكرية في مصر, وغياب بديل مدني ليبرالي معتدل في ظل وجود الخيار الإسلامي
 

التقبل الغربي
لما كان نجاح عملية الانتقال من الحكم العسكري إلى الحكم المدني يتطلب تقبلا ودعما دوليين على غرار حالات أوكرانيا، وجورجيا، وجنوب أفريقيا، وتركيا، ودول شرق أوروبا، يبدو الأمر جد مغاير في الحالة المصرية، حيث يمكن القول إن هناك تفهما بل وتقبلا غربيا لإعادة إنتاج الحكم العسكري في مصر، لأسباب عديدة لعل أهمها: تشابك المصالح بين واشنطن والنخبة العسكرية في مصر إلى حد يصعب على الأخيرة التضحية به، على الأقل في المدى المنظور.

إضافة إلى غياب بديل مدني ليبرالي معتدل يمكن أن يبقي على شروط وأسس علاقات القاهرة مع الغرب، في وقت يظل الخيار أو البديل المدني الوحيد المتاح في مصر منحصرا في التيار الإسلامي غير الموثوق به من قبل واشنطن وتل أبيب كونه يظل قابلا للانفجار في وجههما بأي وقت.

وانطلاقا من التحليل السابق، يبدو أن معطيات محلية ومتغيرات إقليمية ودولية قد تكاتفت جميعها لتغيير مسار ثورة يناير 2011 وحملها على إعادة إنتاج نظام يوليو العسكري مجددا وإن بآليات وصيغ مختلفة.

فبإدراكه لحقيقة التقاء مصالح الأطراف الإقليمية والدولية عند رفض تحول مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية، يكون المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد تلقى قوة دفع إضافية مهمة لمساعيه الرامية لاحتواء ثورة يناير 2011 بعد أن نجحت في اختراق نظام مبارك وإسقاطه من دوائره المتآكلة.

حتى إذا ما اصطدمت تلك الثورة بالدائرة الأقوى المتمثلة في المجلس العسكري، وجدته محتضنا لها ومرحبا بها باعتبارها هبة السماء لإنقاذ سفينة نظام يوليو 1952 العتيد من غرق وشيك، حال دونه التخلص من الأثقال الزائدة التي بات يجسدها مبارك ووريثه وبطانة السوء من المارقين والدخلاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.