بغداد وأربيل بين اللقاء والصدام

بغداد وأربيل بين اللقاء والصدام - خورشيد دلي

undefined

عوامل الصدام
عناصر اللقاء والتهدئة
حسابات مسار الأزمة السورية

منذ رحيل القوات الأميركية عن العراق قبل نحو عام، تتراكم الخلافات بين بغداد وأربيل، ومع هذا التراكم للخلافات، تشتد الأزمة بين المركز والإقليم ويتحول التحالف بين الأكراد وائتلاف دولة القانون الحاكم إلى صراع مرير بين قطبين، وتزداد عمقا في ظل القضايا الخلافية الكثيرة والهواجس المتبادلة والمخاوف الدفينة، وتشابك العوامل الإقليمية التي تجعل من الصراع بين الجانبين على شكل كسر ذراع الآخر.

عوامل الصدام
تشكل قضايا النفط وطرق تصديرها ومستقبل كركوك وباقي المناطق التي توصف بـ"المتنازع عليها" وقوات البيشمركة (الجيش الخاص بإقليم كردستان العراق) وحصة الإقليم من الموازنة وغيرها، أبرز القضايا الخلافية بين الجانبين، والسمة المميزة لهذه الخلافات هو تأجيلها وتفاقمها مع الوقت.

وهذا الأمر يجعل من الصعب التوصل إلى حلول توافقية، خاصة في ظل الانقسام الحاصل في السياسات والرؤى بشأن الأزمة السورية ودور العوامل الإقليمية (إيران وتركيا) المغذية للصراع.
 
الثابت أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الذي تمكن وبدعم إيراني كبير في تهميش منافسه السابق على رئاسة الوزراء إياد علاوي، نجح في جعل المحور الأساسي للصراع هو مع أربيل وتحديدا قيادة إقليم كردستان، وينطلق المالكي في مساعيه هذه إلى تحقيق هدفين. الأول: تعزيز مركزية الدولة وهيمنتها خلافا للدستور الذي ينص على فدرالية الحكم في العراق الاتحادي.

والثاني: محاولة كسب المكون العربي السني وتجيشه لصالح صراع قومي عربي-كردي، ولعل ما يعطي مصداقية لتوجه المالكي هذا هو الخطاب الاستقلالي للقيادة الكردية بزعامة مسعود البارزاني التي لم تعد تخف تطلعها إلى إقامة دولة كردية، مستفيدة من مناخات الربيع العربي وتجربة دولة جنوب السودان والتوجه الفلسطيني إلى الأمم المتحدة الانفتاح التركي والدولي على إقليم كردستان العراق.

لا ينفك الزعيم الكردي مسعود البارزاني عن اتهام المالكي بالديكتاتورية وتشكيل جيش مليوني وحصر السلطات بشخصه

في الواقع، المالكي وفي سعيه إلى تعزيز الحكم المركزي من خلال تعزيز صلاحياته الشخصية، يدرك أن ثمة طلاقا سياسيا حصل بين ائتلافه الحاكم (دولة القانون) والتحالف الكردستاني منذ تصدر لقاء أربيل الأول ثم الثاني مسألة حجب الثقة عن المالكي في البرلمان ومحاولة إسقاطه.

ودفع ذلك بالكثيرين إلى القول إن التحالف بين الجانبين أكذوبة، خاصة أن كل طرف تخندق خلف القضايا الخلافية وجعل منها قاعدة لمواقفه في التصعيد.

وبلغت المواجهة بين الجانبين مستويات خطرة في ظل تسارع الخطوات والقرارات التصعيدية للمالكي، فصفقات الأسلحة التي عقدها المالكي ولا سيما الصفقة الأخيرة مع روسيا التي بلغت قيمتها أربعة مليارات دولار، ومن ثم تشكيل قيادة عمليات دجلة لنشرها في المناطق "المتنازع عليها" بحجة التطورات السورية وليس انتهاء بالخطاب التصعيدي ضد شخص البارزاني الذي وصل إلى حد تسريب خبر منعه من السفر دون موافقة الحكومة العراقية، دفع بالجانب الكردي إلى الاستنفار وحشد قواته في تلك المناطق في مواجهة القوات العراقية التي احتشدت أيضا، وهو ما عزز من خيار الصدام بين الجانبين.

في مقابل التصعيد الذي يمارسه المالكي لا ينفك الزعيم الكردي مسعود البارزاني عن اتهام المالكي بالديكتاتورية وتشكيل جيش مليوني وحصر السلطات بشخصه، فهو القائد العام للجيش ووزير الدفاع والداخلية ورئيس المخابرات ومجلس الأمن القومي والمسؤول المالي الأول وغيرها من الصلاحيات التي يقول البارزاني إنها تعبير عن الديكتاتورية وإنه لن يقبل بها حتى لو كلف ذلك البلاد حربا جديدة أو إعلان استقلال إقليم كردستان.

عناصر اللقاء والتهدئة
عندما جرت اشتباكات قبل فترة بين القوات الحكومية وقوات البيشمركة في قضاء طوزخرماتو الشمالي وحشد الطرفان قواتهما وسط تصعيد كلامي غير مسبوق، اعتقد المراقبون أن المواجهة المباشرة باتت حتمية، لكن الذي حصل أن الطرفين دخلا في مفاوضات شاقة وصعبة في بغداد ينتظر منها التوصل إلى نوع من التوافق.

يومها قيل إن نائب الرئيس الأميركي جو بايدن والمكلف بالملف العراقي اتصل مع نوري المالكي وأخبره بأن المواجهة العسكرية مع قوات البيشمركة خط أحمر، وأن بلاده ستتدخل عسكريا في حال حصول مثل هذه المواجهة، مبديا الاستعداد لنشر قوات أميركية للفصل بينهما إذا استدعى الأمر.

وعلى خلفية هذا التدخل الأميركي، عقد الطرفان سلسلة مباحثات في بغداد، يأملان منها نزع فتيل المواجهة من خلال سحب القوات الإضافية التي نشرت مؤخرا في المناطق المتنازع عليها، وتشكيل آلية مشركة لإدارة الملف الأمني عبر تسليم مهمة الأمن لقوات الشرطة والأجهزة الأمنية، ورغم الاشتراطات الصعبة للطرفين وغياب الثقة التامة فإن مثل هذا الحل يبقى الأمثل ولو مؤقتا، نظرا للفيتو الأميركي الذي يمنع المواجهة العسكرية.

رغم الجدل بشأن الدستور يشكل الاتفاق عليه كناظم للخلافات ومرجعية للقاء أو التوافق مخرجا ممكنا للأزمة إذا توفرت النية وشحذت الإرادة بعيدا عن الحسابات الخفية والنزعة الفردية للحكم

إلى جانب العامل الأميركي، ثمة قاسم مشترك يعلن الطرفان التزامهما به ألا وهو الدستور، فالمالكي يرى أن خطواته هي في إطار صلاحياته الدستورية إذ من مهامه الحفاظ على الأمن العام للبلاد.

وهو في قضية حشد القوات الإضافية في المناطق المتنازع عليها يتحجج بالاتفاق الذي جرى بين الجانبين عام 2009 على أساس الإدارة المشتركة لهذه المناطق مع حق القيادة للجانب الحكومي.

في المقابل يشكك الأكراد الذين يعلنون التزامهم الدائم بالدستور في نوايا المالكي، ويتساءلون عن توقيت نشر هذه القوات، وفي العمق يتخوفون من أن يشن المالكي حربا عليهم، خاصة في ظل نزعة التسلح القوية لديه، وفي أحسن الحالات يعتقدون أن أهداف المالكي ليست بعيدة عن هدف السعي إلى حسم سيطرته على بعض المناطق الإستراتيجية ولا سيما النفطية منها في حال أعلن إقليم كردستان استقلاله لاحقا.

وفي زعم المالكي بأن إجراءاته تأتي في إطار تطبيق الدستور، يقول الأكراد لماذا يريد المالكي تنفيذ الدستور بطريقة انتقائية وتحديدا البنود التي تعزز صلاحياته فقط ولا يطبق الدستور كاستحقاق وطني رغم إقراره منذ العام 2005؟

ويسترسلون في الأسئلة عن مصير المادة 140 بشأن الاستفتاء على مصير كركوك وكذلك قانون النفط، فتطبيق الدستور لا يمكن أن يكون بصورة انتقائية وفي خدمة تعزيز صلاحيات الحكم المركزي على حساب الإقليم.

في الواقع، رغم هذا الجدل بشأن الدستور يشكل الاتفاق عليه كناظم للخلافات ومرجعية للقاء أو التوافق مخرجا ممكنا للأزمة إذا توفرت النية وشحذت الإرادة بعيدا عن الحسابات الخفية والنزعة الفردية للحكم.

حسابات مسار الأزمة السورية
لا يمكن النظر إلى تصاعد حدة الصراع بين بغداد وأربيل بعيدا عن العوامل الإقليمية ولا سيما مسار الأزمة السورية وتداعياتها، وموقف كل طرف من هذه الأزمة وحساباته المستقبلية.

فالمالكي الذي يقف إلى جانب النظام السوري يرى أن انهيار الأخير يشكل خطرا كبيرا على مصيره ومصير مكونه السياسي في ظل اعتقاده بأن المشهد السياسي المقبل في سوريا سيشجع المكونات المهمشة في العراق ويدفعها إلى التحرك من أجل تغيير المشهد السياسي الحاكم في بغداد وربما وضع نهاية لحكمة.

رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بات ينظر إلى البارزاني كحليف قوي مقابل أزمة متفاقمة في علاقته بالمالكي

في حين يرى أكراد العراق أن انهيار النظام السوري سيؤدي إلى خلق فرصة أمام أكراد سوريا لنيل حقوقهم من خلال الاعتراف بهم مكونا، وربما في نيلهم شكلا من أشكال الحكم الذاتي، ويقوي كل ذلك من النزعة القومية الكردية في عموم المنطقة حيث التطلع إلى إقامة دولة كردية هو في صميم الحلم الكردي.

الانقسام بين بغداد المالكي وأربيل ليس بعيدا عن جملة العوامل الإقليمية والدولية، بل إن موقف المالكي الداعم للنظام السوري أدى إلى أزمة قوية بينه وبين الجارة الشمالية أي تركيا، وكذلك إلى مشكلات مع دول الخليج والولايات المتحدة، مقابل تحسن علاقات هذه الأطراف ولا سيما تركيا مع أربيل رغم الطموحات الكردية الصاعدة.

فرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بات ينظر إلى البارزاني كحليف قوي مقابل أزمة متفاقمة في علاقته بالمالكي.

وعليه، فإن درجة الصراع بين بغداد وأربيل تصعيدا أو تهدئة، باتت لها علاقة بالأزمة السورية ومآلاتها، فالمالكي يرى أن بقاء النظام إلى جانب علاقاته القوية بحليفته إيران سيعزز من نفوذه وسيعطيه المزيد من أوراق القوة الإقليمية في معركة مع البارزاني وأردوغان.

في المقابل، يرى البارزاني أن انهيار المالكي سيقوي من موقعه، سواء من خلال التفاوض مع بغداد على القضايا الخلافية أو حتى المواجهة التي يعد كل طرف العدة لها، معادلة ربما تؤجل المواجهة إلى حين معرفة مآل الأزمة السورية، وخوض المعركة بأساليب جديدة، سواء عبر التفاوض أو على الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.