"الإمبريالية الروسية" والرقيب الأميركي

الإمبريالية الروسية والرقيب الأميركي . الكاتب : فارس الخطاب

undefined 

تراقب الولايات المتحدة عن كثب كافة تحركات القيادة الروسية منذ أن كلف الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسن في أغسطس/آب 1999م فلاديمير بوتين، الرجل القادم من أمانة مجلس الأمن في روسيا الاتحادية ليصبح رئيسا للحكومة، ثم بعد توليه اختصاصات رئيس روسيا الاتحادية بالوكالة منذ 31 ديسمبر/كانون الأول 1999 بعد استقالة الرئيس بوريس يلتسن. وانتخابه في 26 مارس/آذار 2000 رئيسا لروسيا الاتحادية.

استطاع بوتين خلال فترات توليه رئاسة الدولة أو رئاسة وزرائها أن يعيد لملمة روسيا بعد أن عصفت بها رياح تفكك مكونات هيبتها ونفوذها العالمي

بوتين -هذا الرجل الذي يجيد اللغتين الإنجليزية والألمانية إلى جانب الروسية، حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية، ذو نفس أمني عال- استطاع خلال فترات توليه رئاسة الدولة أو رئاسة وزرائها بالتناوب مع رفيقه دميتري ميدفيديف، أن يعيد لملمة روسيا بعد أن عصفت بها رياح تفكك مكونات هيبتها ونفوذها العالمي ضمن منظومة محكمة كان يطلق عليها (الاتحاد السوفياتي) عام 1989م، فعمل على تعزيز السلطة المركزية مع الحفاظ بشكل فائق الدقة على نمو اقتصادي مستقر، فوصل الاحتياطي الأجنبي للبنك المركزي إلى 84 مليار دولار، وأصبح الاقتصاد الروسي واحدا من أكبر عشر اقتصادات في العالم، وارتفاع الدخل السنوي للسكان بنسبة بلغت أكثر من 50%.

واستطاع خلال فترة حكمه تسديد ديون خارجية تجاوزت الخمسين مليار دولار، لم يكن هذا فقط حجم التغيير الحاصل خلال فترة حكم بوتين بل رافق ذلك تحديث القوات المسلحة الروسية وسلوك سياسة (التدخل الناعم) في الأزمات الدولية كسبيل للحفاظ على هيبة روسيا الدولية بعد أن فقدت تماما خلال الفترات التي شهدت ضعف ثم تهاوي الاتحاد السوفياتي هذه الهيبة، واستطاعت روسيا من خلال بضعة أزمات عالمية إعادة وضعها كواحدة من القوى العالمية المؤثرة في الخريطة السياسية العالمية.

كل هذه التطورات بالطبع كانت وما تزال تحت المجهر الأميركي، وربما كان لتهور الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في موضوع احتلال العراق غير الشرعي تحديدا سببا رئيسا في انشغال الولايات المتحدة، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، بتداعيات الموقف في العراق بعد أن ظهرت المقاومة العراقية لتفيق المحتل الأميركي على حقيقة وهن وضعف قدرته على تحقيق مشروعه الشرق أوسطي عبر بوابة العراق، مما سمح لروسيا -وربما لغير روسيا كذلك- بتحقيق قفزات كبيرة في برامج متعددة تشمل الاقتصاد والسياسة والتسليح وغيرها، مستفيدين من انشغال الإدارة الأميركية بمحاولات إيجاد مخارج لوضعها الحرج في بلاد الرافدين.

ومع ظهور الثورة السورية، ظهرت مخالب الدب الروسي جلية في السياسة الدولية من جهة، وفي الصراع على مناطق النفوذ وخاصة في الشرق الأوسط وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط من جهة أخرى، فكان الدعم العلني والقوي والمباشر للنظام في سوريا، وكان الموقف الذي وضع روسيا من جديد في دائرة تحديد القرار الدولي تجاه قضايا إقليمية محددة.

ومن هنا أيضا باتت صورة الحرب الباردة تظهر بحياء تارة وبقوة تارة أخرى بين واشنطن وموسكو في موضوع قد يبدو محددا بسوريا والموقف من الأوضاع فيها لكنه في حقيقة الأمر ليس كذلك، فهذه وزيرة الخارجية الأميركية تعلن في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 2012 معارضة الولايات المتحدة وبشكل علني لـ"إعادة بناء الوحدة السوفياتية" في صورة "الاتحاد الجمركي"، في حين اعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كلام كلينتون أنه "لا يعدو كونه مجرّد ترّهات فارغة".

بدل أن تستثمر أميركا النصر السياسي والأيديولوجي والاقتصادي وحتى العسكري بسقوط الاتحاد السوفياتي، انشغلت بما شتت العالم وسمح ببروز ظواهر أقلقته كظاهرة القاعدة وعدم حل مشكلة فلسطين

واشنطن في عهد أوباما، ترى بعين أكثر استقرارا ووضوحا من تلك التي كانت في عهد بوش الابن، وهي تعلم أن استضافة روسيا  للمرة الأولى اجتماع قادة منتدى التعاون الاقتصادي لمنطقة آسيا والمحيط الهادي في مدينة فلاديفوستوك (وتعني سيد الشرق)، في موقع كان سابقا قلعة عظيمة للقياصرة والسلطة السوفياتية، يمثل رسالة ظاهرها أن تكون روسيا جسرا اقتصاديا بين أوروبا وروسيا، لكن باطنه يعني السيطرة اقتصاديا على منظومة دول المنتدى، كما سيساهم تطبيق في تعزيز حركة التجارة بين أوروبا ومنطقة آسيا والمحيط الهادي عبر الأراضي الروسية بخمسة أضعاف على الأقل بحلول عام 2020.

وقد نجح بوتين في إعطاء الانطباع بأن روسيا هي دولة لديها فرص واسعة، وهي مستعدة للتعاون مع الدول المجاورة من أجل تحقيق الأهداف المبتكرة والمشتركة، كما نجح في محاولات إبهار المشاركين بما حققته روسيا اقتصاديا وعلى مستوى الرفاهية الاجتماعية ليكون بذلك أول رئيس روسي يتحدث عن نموذج روسي للرفاهية الرأسمالية مطالبا بالاستفادة من هذا النموذج لتعميمه كنموذج حياة وبناء اقتصادي قائم على أسس ليست كالتي يقوم عليها النظام الرأسمالي الغربي.

إن العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا أو الاتحاد السوفياتي (سابقا) كانت مؤطرة -وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية- بملاحقة نفوذ كل منهما وخاصة في قارة آسيا، بسبب الالتزام الأميركي القديم بالحفاظ على ميزان القوى في منطقة المحيط الهادي، لهذا كانت حرب فيتنام والحرب الكورية، ولهذا أيضا غيّرت واشنطن من سياستها تجاه الصين فكان التقارب الأميركي الصيني في عهد الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون لعزل الاتحاد السوفياتي حينها وتحديد مناطق نفوذه، وقد نجحت الولايات المتحدة كثيرا في خططها حتى حققت الضربة القاضية ليسقط الاتحاد السوفياتي بشكل مدو عام 1989م.

وبدل أن تستثمر الولايات المتحدة هذا النصر السياسي والأيديولوجي والاقتصادي وحتى العسكري -بما جعلها القوة العالمية الأوحد في العالم- انشغلت بما شتت العالم وسمح ببروز ظواهر أقلقت العالم كظاهرة القاعدة وعدم حل مشكلة فلسطين واستمرار التوتر في مناطق عديدة في العالم مع ارتفاع ظاهرة الفقر والبطالة إضافة إلى ظاهرة استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية (المفرطة أحيانا) تجاه العراق وأفغانستان وغيرهما، وغيرها من التفاصيل التي جعلت وجود قوة عالمية واحدة كابوسا كان العالم ينتظر الخلاص منه.

من هنا كان لتحرك روسيا أهمية كبرى، حيث عمدت القيادة الروسية إلى ترميم بنائها الداخلي وخاصة ضمن جمهوريات الاتحاد الروسي التي تعاملت مع محاولات اختراقها غربيا بكل حزم وقوة، ثم إعادة بناء القوة الروسية المحلية والعالمية ثم عمدت إلى ذات الأسلوب الأميركي في عهد نيكسون، حيث تقاربت وتعاونت مع الصين، وقد ظهرت مواقفهم المشتركة جلية في الأمم المتحدة لإعاقة المبادرات الغربية خاصة تلك المتعلقة بسوريا، كما تبذل قصارى جهدها للاستفادة من التقارب مع الصين للحد من نفوذ واشنطن في المحيط الهادي حتى وصفت واشنطن روسيا بشريكة بكين الخطيرة في “لعبة العروش” الآسيوية.

تعتقد أميركا أن أفضل وسيلة للحد من نمو التنين الصيني الكبير في آسيا والمحيط الهادي وأفريقيا هو السماح لروسيا بإعادة إحياء نفوذها الاقتصادي والسياسي في الشرق الأقصى

أميركيا ترى الإدارة الأميركية أن روسيا لا تزال ضعيفة ولا سيما في منطقة المحيط الهادي في ظل وجود قوى كبيرة متنفذة في هذا المجال الحيوي وهي حسب تسلسل قوتها: الصين، والهند، واليابان، ثم الولايات المتحدة، كما ترى واشنطن أن روسيا ما زالت قلقة جدا من تنامي النفوذ الصيني في آسيا، وبخاصة تحركاتها على دول آسيا الوسطى، إضافة إلى تصورات أميركية بأن أفضل وسيلة للحد من نمو التنين الصيني الكبير في آسيا والمحيط الهادي وأفريقيا هو السماح لروسيا بإعادة إحياء نفوذها الاقتصادي والسياسي في الشرق الأقصى لتناكف الصين وتحد من توسع نفوذها فيه.

 
أما في الشرق الأوسط فلا يمكن التحدث عن وجود نفوذ فعلي لروسيا أو نفيه. وواضح أن الولايات المتحدة وتركيا والآن قطر والمملكة العربية السعودية، تؤثر أكثر من روسيا على الأحداث التي تجري في المنطقة وإن بدا أن مصالح روسيا بدأت تضغط باتجاه الحفاظ عليها خاصة من خلال نافذتي إيران وسوريا وربما العراق أيضا، وأن التمسك الروسي بموقفه تجاه سوريا يضعها في اختبار حقيقي أمام جميع دول العالم.

لذلك إذا ما تخلت روسيا عن دعم سوريا في اللحظة الحرجة كما فعلت مع طرابلس وبغداد من قبلها, فإن ذلك سيعطي انطباعا ورسالة لجميع شركائها في العالم بإلغاء الاعتماد عليها نهائيا كحليف دولي وهو ما يمكن أن يحصل فعلا في أي لحظة، لذلك فإن روسيا التي ازدهرت في عهد بوتين سوف لن تضع نفسها في مأزق مشترك وستسعى بقوة خلال الفترة المقبلة إلى إخراج بشار الأسد من حكم سوريا بشكل يحفظ هيبتها والتزامها وبدون أية تداعيات على أن يكون لها مساحة في كعكة سوريا الجديدة وهو ما سيكون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.