عباس يستفز الناس

عباس يستفز الناس . الكاتب : عبد الستار قاسم

 undefined

صفد ليست من حقه
التبرير المتوقع
الاستجابات الدولية المتوقعة
الإستراتيجية
إرضاء العدو ووحدة الشعب
العبرة في ضعف الشعب

يعلن الرؤساء المنتخبون عادة بعد ظهور نتائج الانتخابات أنهم رؤساء لكل الناس وليس للذين انتخبوهم فقط، وذلك لطمأنة مختلف الأطياف السياسية والاجتماعية بأن ظلما أو إجحافا لن يقع، وأن تنفيذ مختلف البرامج سيأخذ باعتباره مصالح ومواقف وآراء الناس على كافة مشاربهم. لم يشذ محمود عباس عن هذه القاعدة بعدما تم انتخابه إذ أعلن أنه رئيس لكل الفلسطينيين وليس لفئة معينة فقط.

لكن المتتبع لمواقف وسياسات عباس يرى بوضوح أنه فئوي ويغلّب المصالح التنظيمية على المصالح الوطنية. فمثلا تدخل في الترشيح للانتخابات المحلية وقال إنه لن يسمح بتعدد قوائم انتخابية لحركة فتح، وعمل على فصل من خاض الانتخابات خارج القوائم الرسمية للحركة.

هذا طبعا ليس شأنه، ومن المفروض أنه شأن قيادة خاصة لحركة فتح. ومن الواضح أيضا أنه لم يتحرر في سياساته العامة من الفئوية، وعمل باستمرار على تغليبها على حساب وحدة الشعب الفلسطيني، وكان من نتائج هذا التحوصل الفئوي والتزمت التنظيمي أن اقتتل الفلسطينيون وتشرذموا.

صفد ليست من حقه
طلع علينا عباس بتاريخ 1/11/2012 بتصريحات عبر وسيلة إعلام صهيونية تستهتر بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، إذ قال إنه من حقه أن يرى مسقط رأسه مدينة صفد الواقعة في شمال فلسطين المحتلة/1948، لكن ليس من حقه أن يعيش فيها. وأضاف أن فلسطين بالنسبة له هي الضفة الغربية وقطاع غزة (الأرض المحتلة/1967)، وأنه كرئيس للشعب الفلسطيني لن يسمح بقيام انتفاضة ثالثة مسلحة.

عندما يعلن عباس أن لا حق له بالعيش في صفد إنما هو يعلن رفض حق العودة للشعب الفلسطيني، وبهذا ينفي حقوق ملايين الفلسطينيين اللاجئين، والذين فقدوا أراضيهم أو جزءا منها عام 1948

عندما يعلن عباس أن لا حق له بالعيش في صفد إنما هو يعلن رفض حق العودة للشعب الفلسطيني، وبهذا ينفي حقوق ملايين الفلسطينيين اللاجئين، وحقوق الذين فقدوا أراضيهم أو جزءا منها عام 1948 ودون أن يفقدوا أماكن سكنهم. ويؤكد هذا الرفض بقوله إن فلسطين لم تعد تلك التي كانت وإنما التي تقلصت إلى الضفة وغزة. وما دام يرفض حق العودة، فهو يرفض حق تقرير المصير. أي أنه يرفض الثابتيْن الفلسطينييْن اللذين تم الاتفاق عليهما بين مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية وهما حق العودة وحق تقرير المصير.

جهدت حركة فتح التي تقود منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع الاتفاقيات مع إسرائيل وإقامة السلطة الفلسطينية في إقناع الناس بأنها لم تتنازل عن الثوابت الفلسطينية، على الرغم من أن التنازل مبني في اتفاق أوسلو، وفي مختلف الخطوات العملية المصاحبة لتطبيقه. والآن ماذا سيكون القول بعد هذا الوضوح؟

التبرير المتوقع
كالعادة المستمرة منذ أكثر من أربعين عاما، التبرير جاهز وهو أن القيادة لها الحق "بالتكتكة"، أي استعمال الأساليب والوسائل المختلفة من أجل أن تقنع العالم بحقوق الشعب الفلسطيني ما يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. للرئيس ومعاونيه، وفق التبرير، أن يتجاوزوا القناعات الفلسطينية الشعبية والفصائلية من أجل كسب الساحة الدولية، والتفوق على إسرائيل في المنطق السياسي والدبلوماسي وعزلها عما يسمى المجتمع الدولي.

منذ أربعين عاما وشعب فلسطين يقدم التضحيات، والقيادات تقدم التنازلات تحت شعار التكتيكات. اعترفت القيادات بإسرائيل، وأخذت تنسق أمنيا مع الصهاينة حتى بات الفلسطينيون وكلاء أمنيين لإسرائيل، وربطت لقمة خبز الشعب بإرادة العدو، ونشرت الفساد في البلاد، ومزقت العباد وأتت على مقومات وحدة الناس، وعززت مشاعر الشك والهوان. تدهورت القضية الفلسطينية إلى درك في الحضيض، وما زال هناك من يتحدث عن براعة المناورات الدبلوماسية للقيادة الفلسطينية.

الاستجابات الدولية المتوقعة
برر بعض مستشاري عباس حديثه للتلفاز الصهيوني بأنه محاولة لاستمالة الرأي العام الإسرائيلي لصالح إقامة دولة فلسطينية. فعباس ذكي لأنه يعمل على إدخال الطمأنينة إلى نفوس الصهاينة، فلا يستمرون ضحايا للشكوك حول النوايا الفلسطينية بعد إقامة الدولة. هذا منطق فاشل، وفشله مستمر منذ أن قدمت منظمة التحرير مبادرتها الأولى لحل القضية الفلسطينية عام 1969 والتي نصت على إقامة دولة ديمقراطية علمانية في فلسطين.

أصرت إسرائيل منذ عام 1967 على أن الحل لمشاكلها مع العرب يتم فقط عبر المفاوضات الثنائية المباشرة، وأن لا دولة غربي نهر الأردن غير دولة إسرائيل، ولا جيش غير جيش إسرائيل. وقد جاء قرار مجلس الأمن 242 ليؤكد على موقف إسرائيل من حيث التفاوض ونفي وجود الفلسطينيين. قرار 242 الذي اعترفت به منظمة التحرير لا يأتي على ذكر الفلسطينيين بتاتا، على الرغم من أن المنظمة حاولت صناعة جو سياسي على الساحة الفلسطينية يوهم الناس بأن القرار ينص على إقامة دولة فلسطينية.

قررت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عام 1978 السير في البحث عن حل سلمي للقضية الفلسطينية، وتعاونت مع CIA في لبنان أمنيا لإثبات حسن النوايا، وقام عرفات بزيارة مصر التي كانت تحت المقاطعة العربية عام 1983، ثم صدر إعلان نبذ الإرهاب عام 1985، ثم اعترف المجلس الوطني الفلسطيني بإسرائيل عام 1988، ثم أتى مدريد وملحقاته.

كل هذا التكتيكات لم تأت على الشعب الفلسطيني بذرة واحدة من حقوقه الوطنية الثابتة. انتقلت منظمة التحرير من فكرة التحرير إلى فكرة السلطة، ومن فكرة السلطة القائمة على التحرير إلى فكرة السلطة الممنوحة، ومن معاداة الاحتلال إلى التنسيق مع الاحتلال، إلخ.

إذا ظن قائد فلسطيني أنه يستطيع إقناع إسرائيل بتقديم شيء جوهري، فإن عليه أن يبحث ليرى أن إسرائيل لا تعتمد على الأذلاء والمستجدين الذين يهينون شعوبهم

إسرائيل ودول الغرب التي تدعمها لا تعطي شيئا للضعفاء، وإنما يستعملونهم في مواجهة الأقوياء بخاصة في مجال الفتن الداخلية. إذا ظن قائد فلسطيني أنه يستطيع إقناع إسرائيل بتقديم شيء جوهري له خارج متطلبات الحياة اليومية، فإن عليه أن يبحث ليرى أن إسرائيل لا تعتمد على الأذلاء والمستجدين الذين يهينون شعوبهم لأنها تعلم أن من لا خير فيه لشعبه لا يمكن أن يكون قادرا على خدمتها. إسرائيل لا تفكر بسلام مع فلسطيني يعتقل ابن شعبه ليلا دفاعا عن أمن إسرائيل، وإنما تفكر في كيفية استعماله ومص دمائه بالمزيد.

الإستراتيجية
البحث عن إستراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية والقيادة الفلسطينية بصورة خاصة قائم منذ عشرات السنوات. إذا كان للقيادة حق بالقيام بالتكتيكات المختلفة من أجل العبور بالفلسطينيين من مآزق وأزمات، وتحقيق التطلعات الفلسطينية، فأين هي إستراتيجية هذه القيادة؟ لكل قيادة عاقلة رؤية أو فلسفة أو أهداف تعمل على تحقيقها على المدى البعيد، وهي توظف الكثير من الطاقات والقدرات للتعامل مع الهموم والعراقيل اليومية والآنية للعبور نحو ذلك المدى البعيد. وهذا ما يعرف بتناغم الإستراتيجية والتكتيك، أو الصيالة وفق اللغة العربية. لكن لا يبدو أن القيادة الفلسطينية قد تبنت إستراتيجية توظف أعمالها اليومية نحو بلوغها.

لا توجد إستراتيجية فلسطينية اجتماعية تعمل على التطوير الاجتماعي وتقوية أواصر الوحدة والعمل الجماعي، ولا إستراتيجية ثقافية توحد ثقافة الشعب في كافة أماكن تواجده، ولا إستراتيجية لتعزيز قيم الانتماء والالتزام. ولم يكن هناك إستراتيجية لإقامة ثورة أو مقاومة منظمة وفق أسس علمية قائمة على معايير السرية والتحصين الأمني، ولا خطة لتعزيز البعد الأخلاقي في التعامل مع الآخرين وفي حمل السلاح، إلخ.

ما رأيته عبر السنوات هو تضحيات جسيمة يقدمها الشعب الفلسطيني، وفهلوة وعشوائية وشعارات جوفاء من قبل القيادة مثل يا جبل ما يهزك ريح، ويا واد (وادي) ما تخرقك ميّ (مياه). وحتى الآن لا يوجد إستراتيجية فلسطينية، ولم أجد قيادة فلسطينية تدعو إلى مؤتمرات وحوارات للبحث في مسائل إستراتيجية يمكن صياغتها ضمن ميثاق فلسطيني واضح يشكل نبراسا لخطوات مختلف القوى والأفراد.

فإلى ماذا يستند عباس عندما يفجر تصريحاته بالجملة من على منبر صهيوني؟ فقط إلى رقة قلوب الصهاينة. فإذا غاب التخطيط بعيد المدى، ولم تتوفر نوايا لعملها، فمعنى ذلك أن التكتيك نفسه هو الإستراتيجية. ومن دراساتي المستمرة حول الوضع الفلسطيني، توصلت إلى أن التكتيك الفلسطيني كان يقوم على استنزاف الشعب عبر الإحباطات والهزائم المغلفة بشعارات ثورية بهدف إيصال الشعب إلى مرحلة من اليأس لا يستطيع معها القيام برد فعل حيال تصفية حقوقه الوطنية الثابتة. احتفال الشعب بمؤتمر مدريد، وباتفاق أوسلو بعد ذلك، وخدمة أمن العدو، ونمو العقلية الاستهلاكية على حساب القيم الوطنية تشير إلى صحة هذا الاستنتاج المر.

إرضاء العدو ووحدة الشعب
أيهما أهم: إرضاء العدو وطمأنته، أم الحفاظ على وحدة الشعب واستعادتها إن لم تكن موجودة؟ تاريخيا، لا يوجد سياسة اسمها إرضاء العدو، وإنما خديعة العدو. قد يظهر القائد بمظهر الخانع أحيانا للتورية على أمر يخطط له سرا ويُعدّ لتنفيذه، لكن هذا لم يثبت وجوده على الساحة الفلسطينية.

العدو يخشى وحدة الشعب، ويطمئن بتمزقه, فعندما نتكتك باتجاه إرضائه إنما نعمل على تمزيق الناس بالمزيد, وإذا تمزق الناس، فإن العدو يستهتر بهم ولا يمكن أن يعطيهم دولة كما يمكن أن يظن عباس

لم تتوفر جهود تخطيطية ولا أبعاد إستراتيجية نبني عليها ونقول إن عباس سيفاجئ العدو بما سيوجعه. فضلا عن أن العدو الذي يواجه الشعب الفلسطيني لا يرضى، ولا يتبنى سياسة المكافآت. العدو يطالب الفلسطينيين بالمزيد مهما بلغت الانبطاحية الفلسطينية، وعادة يخاطب قادة فلسطين قائلا إنهم لم يقوموا بالمطلوب منهم على أكمل وجه، وعليهم أن يبذلوا مزيدا من الجهود.

من الملاحظ بصورة جلية أن سياسات إرضاء العدو واستجلاب عطفه وطمأنته قد أثارت دائما خلافات كبيرة على الساحة الفلسطينية، وساهمت كثيرا في إحداث التمزق الاجتماعي، والعزوف عن القيم والأخلاق الوطنية، وتكريس مشاعر الشك والريبة، وإشعال الاقتتال. بينما القاعدة الأولى في عملية التحرير تستند إلى وحدة الشعب، وتوجيه مختلف الطاقات باتجاه الهدف، وتعزيز العلاقات القائمة على الثقة بين مختلف الأفراد والقوى السياسية. الشعب يفقد عنفوانه إن تمزق، ويتفتت إلى جماعات ضيقة وأفراد يهتمون بمصالحهم الشخصية على حساب المصالح العامة. وقد عانى الشعب الفلسطيني من هذه الآفات على مدى سنين، واقتتلوا مرات عديدة في الأردن ولبنان وفلسطين.

العدو يخشى وحدة الشعب، ويطمئن بتمزقه. فعندما نتكتك باتجاه إرضائه إنما نعمل على تمزيق الناس بالمزيد. وإذا تمزق الناس، فإن العدو يستهتر بهم ولا يمكن أن يعطيهم دولة كما يمكن أن يظن عباس.

العبرة في ضعف الشعب
من المتوقع أن يتعلم القادة من تجاربهم، لكن هذا التوقع لا ينطبق على عباس في الكثير من تصريحاته بما فيها التصريحات الأخيرة على التلفاز الصهيوني. كان بإمكان عباس أن يقدم إجابات دبلوماسية حتى لا يستفز الشعب الفلسطيني أو يحقره أو يعتدي على حقوقه. كالعادة، عباس لم يوازن كلامه، ولم يحسب حسابا للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، ولم يفكر بأن ما يتمنى أن يجنيه من هكذا أقوال لن يتحقق.

ويظهر أن عباس قدّر أن الشعب الفلسطيني قد أصابه ما أقعده فأصبح أعجز من أن يرد الفعل فيرفع إصبعه في وجه من يتحدثون باسمه. على مدى سنوات، لم يستطع الشعب الفلسطيني الوقوف في وجه سياسات قياداته التي لم تنجز له شيئا ملموسا فيما يتعلق بحقوقه الوطنية الثابتة، واستطاع خمسون فاسدا أن يسيطروا على الناس في الضفة الغربية، ويسيروهم وفق إرادتهم. وإذا كان لشعب أن يقف شاردا تائها أمام قيادات تستهتر بتطلعاته، فإن عليه ألا ينتظر حبل نجاة من السماء، أو عامود مشنقة ينصبها له عدوه. هو يشنق نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.