قرارات مرسي تضع ثورة مصر على المحك

قرارات مرسي تضع ثورة مصر على المحك - بشير عبد الفتاح

 undefined

تفسيرات متباينة
نظام واهن
محددات الانفراج

ما بين تشييع لأحد شبان جماعة الإخوان المسلمين في دمنهور والذي قضى على خلفية أعمال عنف طالت مقرات الجماعة هناك جراء أزمة القرارات الرئاسية الأخيرة، وآخر متزامن في ميدان التحرير لتشييع شاب لقى حتفه جراء أحداث شارع محمد محمود في نسختها الجديدة، ينعى المصريون وحدتهم ويكابدون عناء مسيرتهم المتعثرة مع ثورتهم غير المكتملة، على وقع لحن جنائزي حزين طفق يدوي في مسامعهم عقب إصدار الرئيس مرسي حزمة قرارات بقوة القانون دأبت بعض الدوائر السياسية والإعلامية على اعتبارها إعلانا دستوريا جديدا.

تفسيرات متباينة
مثلما تعددت تسميات المراقبين لقرارات الرئيس الأخيرة، تباينت آراؤهم كذلك حولها، فثمة من رأى فيها موجة ثورية جديدة لا تقل في أهميتها وفعاليتها عن قرارات أغسطس/آب الماضي الخاصة بإنهاء ازدواجية السلطة بين المجلس الأعلى للقوات المسلحة والرئيس المدني المنتخب، مما يجعل من هذه القرارات الجديدة قوة دفع مهمة على طريق استكمال الثورة وتحقيق أهدافها بعد تيبس وجمود داما حولين كاملين.

ثمة من رأى في قرارات مرسي موجة ثورية جديدة لا تقل في أهميتها وفعاليتها عن قرارات أغسطس/آب الماضي, لكن قوى أخرى رأت فيها اعتداء صارخا على الديمقراطية والاستقرار

وفي المقابل، لمست قوى سياسية مدنية مناهضة لجماعة الإخوان والرئيس مرسي في تلك القرارات اعتداء صارخا على الديمقراطية والاستقرار، ليس فقط لاعتقادها بعدم أحقية الرئيس في إصدار أي إعلانات دستورية لكونه لا يمتلك في الأصل سلطة تأسيسية تخوله ذلك، وإنما لأن هذه القوى ترى في مثل هذه القرارات إجهازا واضحا على مبدأ الفصل بين السلطات يمهد بدوره السبيل لصنع فرعون سياسي جديد، مما يؤجج غضبا شعبيا واسعا ينعكس بالسلب على الوضع الاقتصادي للبلاد، وهو ما بدت أصداؤه جلية في هبوط مؤشرات التعامل في البورصة المصرية.

سياسيا، انقسمت إلى شقين حزمة القرارات التي أصدرها الرئيس مرسي: أولهما يأتي تجاوبا مع مطالب قطاع كبير من المصريين، ويتمثل في ما نصت عليه المادة الأولى من إعادة التحقيقات والمحاكمات في جرائم القتل والشروع في قتل وإصابة المتظاهرين والثوار بواسطة كل من تولى منصبا سياسيا أو تنفيذيا في ظل النظام السابق، وذلك وفقا لقانون حماية الثورة وغيره من القوانين، وهو ما يفتح الطريق أمام إعادة محاكمة رموز النظام السابق, بما في ذلك مبارك نفسه الذي يقضي حكما بالسجن المؤبد.

هذا إلى جانب زيادة قيمة وحالات معاشات شهداء ومصابي الثورة، ثم تعيين المستشار طلعت إبراهيم نائبا عاما جديدا وإحالة النائب السابق عبد المجيد محمود إلى التقاعد، الأمر الذي يعتبره مراقبون كثر خطوة مهمة على درب الانتصار للثورة وتطهير القضاء.

أما الشق الثاني، فيعد الأكثر إثارة للجدل والغضب العارم لدى فصائل سياسية مدنية لكونه يتصل بصلاحيات الرئيس وتحصين قراراته خلال المرحلة الانتقالية، حيث نصت المادة الثانية على أن الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية منذ توليه السلطة وحتى نفاذ الدستور الجديد وانتخاب مجلس شعب جديد، نهائية ونافذة وغير قابلة للطعن بأي طريق وأمام أي جهة. كما لا يجوز التعرض لتلك القرارات بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وتنقضي جميع الدعاوى المتعلقة بها والمنظورة أمام أي جهة قضائية.

ونصت المادة الخامسة على أنه لا يجوز لأي جهة قضائية حل مجلس الشورى أو الجمعية التأسيسية لوضع مشروع الدستور, بينما نصت المادة السادسة على أنه لرئيس الجمهورية إذا قام خطر يهدد ثورة 25 يناير أو حياة الأمة أو الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها، أن يتخذ الإجراءات والتدابير الواجبة لمواجهة هذا الخطر على النحو الذي ينظمه القانون.

نظام واهن
يستطيع المتتبع لتطور الأزمة الناجمة عن حزمة القرارات التي اتخذها الرئيس مرسي، أن يلمس -بغير عناء- ضعفا بينا في هيكل وبنية النظام السياسي المصري البازغ، بجناحيه المتمثلين في النخبة الحاكمة وقوى المعارضة.

فمن جهتها، تفتقر النخبة الحاكمة إلى الخبرة السياسية العميقة في تسيير أمور بلد يئن تحت وطأة المرحلة الانتقالية، بكل ما يعتمل فيها من تعقيدات وما يتمخض عنها من تحديات، كما تعوزها الكياسة المطلوبة في إدارة الصراع السياسي مع القوى السياسية المنافسة التي أعياها ما ارتأوه استئثارا من قبل جماعة الإخوان بمفاصل السلطة والحكم عبر "أخونة" مؤسسات الدولة الحيوية، ليجنوا بذلك ثمار ثورة لم يصنعوها وإن دلفوا إلى صفوفها لاحقا.

كما بدا جليا تواضع خبرة النخبة الحاكمة في قضايا شتى لم يحسب الرئيس خلالها حساباته جيدا قبل اتخاذ قرارات بشأنها، وهو ما اضطره للتراجع عن بعض هذه القرارات لاحقا على نحو وضعه في حرج بالغ. وتجلى هذا التواضع أيضا في طريقة اتخاذ الرئيس للقرارات وعدم إشراكه لجيش المستشارين والمساعدين الذي اختاره للعمل معه، واختصاصه لثلة منهم دون سواهم بالتشاور قبل الإقدام على أي خطوة، تاركا غالبيتهم يتلقونها ويفاجأون بها عبر وسائل الإعلام، شأنهم شأن بقية المواطنين، الأمر الذي اضطر العديد منهم لتقديم استقالته احتجاجا على هذا الموقف الذي يخلو من المهنية، كما تعوزه المؤسسية والثقة.

على الجانب الآخر، لم يكن في مقدور الالتئام الآني والاصطفاف الاضطراري لفصائل وأطياف قوى المعارضة المدنية، مواراة مثالبها المكبلة وأسقامها المزمنة كغياب الرؤية الإستراتيجية والجمود الفكري والإفلاس البرامجي، والعوز إلى المشروع المتكامل الذي يصلح لأن يكون بديلا قابلا للتطبيق وقادرا على حلحلة المشكلات والتحديات التي أحاطت بالبلاد، فضلا عن العجز عن التواصل مع الجماهير.

ولم تخجل بعض رموزها التي أبدت تعنتا غير مقبول في التفاوض مع الرئيس إبان الأزمة الراهنة، من الاستقواء بأطراف من خارج المعادلة السياسية، سواء عبر مطالبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإدانة إصدار الرئيس مرسي لحزمة القرارات الأخيرة وممارسة الضغوط عليه لحمله على التراجع عنها، أو عبر مناشدتها القوات المسلحة التدخل والحيلولة دون ما يعتبرونه مساعي إخوانية للهيمنة على الدولة، بل وحتى سماحها للفلول وأنصار الثورة المضادة بالانضواء تحت لوائها للمشاركة في إجهاض المسيرة الثورية والتجربة الديمقراطية عبر إسقاط أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد.

وهي المواقف التي تعكس بجلاء مدى ضعف خبرة تلك القوى بالعلاقات الدولية، فالغرب الذي عبر -على استحياء- عن قلقه من قرارات رئيس منتخب ديمقراطيا ولا يريده أن يتحول إلى دكتاتور، هو أول من دعم ولا يزال يدعم أعتى الدكتاتوريات في المنطقة والعالم.

كذلك، كان من شأن هذه المواقف المخزية أن شوهت المصداقية الثورية لدى ائتلاف المعارضة وكذا مطالبتهم بالديمقراطية، خصوصا أن الثورة لا تقبل بغير استقلالية القرار الوطني، بينما لا تستقيم الديمقراطية من دون الحكم المدني.

لم تكن أزمة النظام السياسي الجديد في مصر ما بعد مبارك لتختزل في نقص خبرة النخبة الحاكمة أو افتقاد المعارضة للحكمة والرؤية البديلة فحسب، وإنما اتسعت لتتجلى في أزمة الثقة المتفاقمة بين الجناحين

ولم تكن أزمة النظام السياسي الجديد في مصر ما بعد مبارك لتختزل في نقص خبرة النخبة الحاكمة أو افتقاد المعارضة للحكمة والرؤية البديلة فحسب، وإنما اتسعت لتتجلى في أزمة الثقة المتفاقمة بين الجناحين وافتقادهما القدرة على التوافق والحوار البناء الذي يمكن أن يقودهما إلى الالتقاء عند نقطة وسط، تتبدد عندها مكامن الخلاف.

فمن خلال الهوة الشاسعة بين الطرفين، باتت الفرصة سانحة أمام عناصر الثورة المضادة للنفاذ إلى قلب الثورة النابض وإصابته في مقتل، حيث هرعت دوائر موالية للنظام السابق ومنبتة الصلة بالثورة تندس وسط حشود المتظاهرين المناهضين لقرارات الرئيس في ميدان التحرير وتكيل انتقاداتها واتهاماتها له ولجماعة الإخوان محاولة إسقاطهما، عبر إشاعة موجات من العنف والفوضى وخلق أجواء مشابهة لتلك التي كانت سائدة قبل تنحي مبارك، على شاكلة إحراق مقرات الإخوان وحزب الحرية والعدالة في بعض المحافظات، علاوة على ترديد شعارات على شاكلة "الشعب يريد إسقاط النظام" و"ارحل ارحل"، وهو المخطط الذي ينذر -إذا ما قدر له الاكتمال- بسرقة الثورة والانقلاب عليها، وليذوق الثوار وبال أمرهم.

ويكاد يشي نهم أطراف الأزمة لحشد المؤيدين والمناصرين لكل منهم في مواجهة الآخر، وكأنهم لم ينتقلوا بعد من أجواء الثورة إلى مرحلة الدولة، ومن الشعارات والهتافات وسط الشوارع والميادين إلى الأجهزة والمؤسسات والبرامج والقوانين التي تكفل تحويل أهداف الثورة ومبادئها إلى سياسات فعلية وواقع عملي، عبر بلورة مشروع رصين أو برنامج متكامل يمكن أن يستميل الشارع ويقدم إجابات وافية للتساؤلات المصيرية التي تجول بخواطر المواطنين والمشكلات المعقدة التي تحاصرهم.

محددات الانفراج
عوّل كثيرون على لقاء الرئيس مرسي بالمجلس الأعلى للقضاء من أجل التباحث بشأن تفسير معنى "تحصين قرارات الرئيس" وإمكانية القبول بتحصين القرارات ذات الصبغة السيادية فقط دون سواها، بما يقلص من فرص تغوّل الرئيس على السلطتين التشريعية والقضائية.

غير أن مثل هذا التعويل يتغافل اعتبارات عديدة مهمة، أبرزها أنه بينما يجوز اعتبار القضاء من الأطياف المكونة لأحد طرفي الأزمة الراهنة، حيث تحتدم الأزمة بين الرئيس وجماعته من جانب، وائتلاف القوى والتيارات المدنية من جانب آخر، بما فيهم بعض مؤسسات وأجهزة ورجالات القضاء من جانب ثان، تبدو جبهة القضاة هي الأضعف من بين جبهات المواجهة مع الرئيس مرسي خلال الأزمة الراهنة جراء تشرذمها.

وفي الوقت الذي يثور فيه الجدل بشأن علاقة رموز قضائية كرئيس نادي القضاة والنائب العام المقال بالنظام السابق ودورهما في التستر على جرائم فساد مالي وسياسي وإداري لقيادات ذلك النظام وأعوانهم، بدأ يعلو في الأفق نجم حركة "قضاة من أجل مصر" التي تدعو إلى استقلال القضاء وتطهيره وتؤيد الرئيس وقراراته الأخيرة.

وبينما يفتقد نادي القضاة أي سلطة حقيقية في مواجهة الرئيس المنتخب، كما لم تلق دعوته القضاة إلى الإضراب صدى واسعا، أظهر المجلس الأعلى للقضاء شيئا من المرونة حينما أبدى استعداده للحوار مع الرئيس والموافقة على تحصين قراراته السيادية، كما ناشد القضاة الانتظام في مباشرة أعمالهم وعدم الاستجابة لدعوة نادي القضاة في جمعيته العمومية الأخيرة من أجل الإضراب.

لابد أن يسمو الجميع فوق الحسابات الفئوية والحزبية ويُعلوا من مصلحة الوطن والثورة فوق أي اعتبار، حتى يتسنى للجميع التفاوض بمرونة تساعد على الوصول إلى نقطة وسط

وبناء عليه، يمكن القول إن توصل الرئيس إلى تفاهم مع المجلس الأعلى للقضاء قد لا يفضي بالضرورة إلى انحسار الأزمة، وإن أسفر عن عزل نادي القضاة والتخفيف من وطأة ضغوطه على الرئيس خلال الأزمة، التي لن تهدأ وتيرتها ما بقي ائتلاف القوى والتيارات المدنية والشعبية المعارضة متمسكا بموقفه الرافض لأي حوار مع الرئيس قبل إلغاء الأخير للقرارات التي أصدرها مؤخرا.

وبذلك يكون الائتلاف قد رفع من سقف شروطه للحوار أو التفاوض مع الرئيس، وذهب في مطالبه إلى أبعد مما ذهب إليه القضاء، إذ لا يبدو أنه متسامح حيال صعود جماعة الإخوان إلى سدة السلطة وفوز مرشحها بالرئاسة وتنصله من وعود سبق أن قطعها على نفسه أمامهم بإشراكهم في اتخاذ القرارات والاستعانة بهم في تسيير الأمور نظير مساعدتهم إياه في انتخابات الإعادة ضد المرشح الرئاسي أحمد شفيق المحسوب على نظام مبارك.

وبناء عليه، لا يبدو في الأفق غير الحوار الوطني الجاد الذي تلتئم في رحابه كافة ألوان الطيف السياسي مع الرئيس سبيلا للخروج من الأزمة الراهنة، على أن يسمو الجميع فوق الحسابات الفئوية والحزبية ويُعلوا من مصلحة الوطن والثورة فوق أي اعتبار، حتى يتسنى لهم التفاوض بمرونة تساعد على الوصول إلى نقطة وسط، بما يوفر للرئيس المنتخب الذي سبق له التراجع عن قرارات أصدرها في مرتين سابقتين، غطاء ملائما للتراجع خطوة إلى الوراء لا تنال من هيبته ومكانته بقدر ما تهيئ الأجواء لخروج آمن ومشرف لكافة الأطراف من أزمة لا يعلم مداها إلا الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.