النفط واستقلال كردستان

النفط واستقلال كردستان . الكاتب : خورشيد دلي

undefined

كردستان وإستراتيجية تطوير النفط
غزو الشركات النفطية لكردستان       
تركيا بين مصالحها وتفكك العراق

مع تزايد أهمية دور موارد الطاقة من نفط وغاز في استقلال الدول وحياة الشعوب لا يمكن النظر إلى تفاقم قضية الخلاف النفطي بين بغداد وأربيل على أنه مجرد خلاف طارئ أو حتى من نوع الخلافات المتفاقمة بين رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ورئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني، وإنما يتجاوز ذلك إلى الحسابات والجهود المتعلقة بخيار الاستقلال الكردي وتوفير البنية التحتية لهذا الاستقلال، خاصة إذا حسم مصير كركوك لصالح ضمها إلى إقليم كردستان ونضجت الظروف السياسية المتعلقة بنيل إعلان الدولة الكردية المنشودة الاعتراف الإقليمي والدولي.

وعليه فإن الصراع على النفط بات في جوهر خيارات إقليم كردستان، وهو صراع غير بعيد عن تضارب المصالح الإقليمية والدولية على موارد الطاقة وخطوط إمدادها، والتي منها مجتمعة تتهيأ الظروف المناسبة لقبول فكرة إقامة دولة كردية.  

كردستان وإستراتيجية تطوير النفط
ثمة من يرى أن حكومة نوري المالكي تتحمل الوزر الأكبر إزاء تفاقم الخلاف النفطي مع أربيل بسبب عدم إنجازها قانون النفط على الرغم من مرور سنوات على تقديمه، وهو أمر يثير الكثير من التساؤلات عن سبب التأخير الذي شكل مدخلا  للخلاف وتفاقمه وتداعياته على العراق ككل من جهة، ومن جهة ثانية فتح الباب أمام المسعى الكردي لتعزيز القدرة النفطية لإقليم كردستان وتصديره بشكل منفرد بعد أن تم فتح الباب على مصراعيه أمام شركات النفط العالمية دون موافقة بغداد.

ثمة من يرى أن حكومة نوري المالكي تتحمل الوزر الأكبر إزاء تفاقم الخلاف النفطي مع أربيل بسبب عدم انجازها قانون النفط على رغم من مرور سنوات على تقديمه، وهو أمر يثير الكثير من التساؤلات

وحقيقة فإن جهود الإقليم لتطوير قدراته النفطية باتت تثير الانتباه الشديد، إذ تشير التقارير إلى أن إنتاجه الحالي من النفط بلغ قرابة 400 ألف برميل يوميا على أن يبلغ مليون برميل نهاية العام المقبل ومليوني برميل بعد ذلك بخمس سنوات، وعليه يمكن فهم قرار الإقليم بناء خط أنابيب تصدير مستقل للنفط إلى الخارج عبر ميناء جيهان التركي على أن يكون جاهزا بحلول العام المقبل في خطوة من شأنها منحه حرية التصدير للخارج وربما الاستقلال المالي في ظل الخلافات المالية المتفاقمة مع بغداد حيث تخصص الحكومة العراقية 17% من موازنتها السنوية للإقليم.

على وقع الخلافات النفطية بين بغداد وأربيل والتي تتعلق بصلاحية التعاقد والإدارة النفطية والمجلس الاتحادي النفطي، أعلنت حكومة كردستان في يونيو/حزيران الماضي عن وقف الإنتاج المعد للتصدير إلى حين دفع بغداد المستحقات المالية للإقليم والتي تقدر بمليار ونصف المليار دولار فيما تتهم بغداد الإقليم بتهريب النفط إلى دول الجوار (إيران وتركيا) عبر الشاحنات وتخفيض كمية الإنتاج المتفق عليها من 175 ألف برميل يوميا إلى ما بين من ستين إلى سبعين ألف برميل، إلا أن جوهر الخلاف لا يتعلق بهذه الكمية المعلنة وإنما بمستقبل الإنتاج النفطي واحتياطيه في وقت يعد العراق جائزة مغرية في عالم النفط حيث أصبح ثاني منتج للنفط داخل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) متقدما بذلك على إيران بعد أن ارتفع إنتاجه إلى 3.2 ملايين برميل يوميا، كما أنه يملك قرابة 148 مليار برميل من احتياطي النفط المثبت، وهو ثاني أكبر مخزون تقليدي في العالم، في المقابل تقول حكومة إقليم كردستان إنها تملك 45 مليار برميل على أراضيها.

هذه الأرقام المثبتة والسعي الحثيث إلى تطوير موارد الطاقة وإقامة خطوط تصدير مستقلة، تكشف مجتمعة حقيقة المعركة الدائرة على نفط كردستان وفي قلبها مصير مدينة كركوك الذي تأخر كثيرا، وما المعارك الأخرى، السياسية والإعلامية والأمنية والاقتصادية إلا معارك مكملة لمعركة النفط التي باتت تشكل مفتاح أي مسعى كردي للاستقلال دون إطلاق رصاصة واحدة.

غزو الشركات النفطية لكردستان
على الرغم من قلة الإنتاج النفطي لكردستان مقارنة بالعراق، فإن الشركات النفطية الكبرى بدأت تشد الرحال إلى الإقليم حيث تشعر ببخل بغداد وصعوبة شروطها التعاقدية في مجال الإنتاج مقابل ليبرالية كردية فائقة وميزات هائلة تقدمها حكومة الإقليم ولا سيما لجهة نسبة الأرباح الكبيرة من قيمة الإنتاج (تقدر بين 25% و35% في كردستان بينما في باقي مناطق العراق بين 15% و18%) ومع شد الشركات الرحال إلى كردستان بدأت بغداد تفقد سيطرتها على قطاع النفط وعائداته في كردستان بعد أقل من سنة على رحيل القوات الأميركية عن البلاد.

على مدار السنوات القليلة الماضية وقعت سلطات الإقليم عشرات العقود مع الشركات النفطية، وتقول التقارير إن أكثر من أربعين شركة نفطية تعاقدت مع حكومة الإقليم والبعض منها بات يتحدى بغداد التي ترفض هذه العقود وتقول إنها غير قانونية، ولعل آخر هذه الشركات التي تجاهلت تهديدات بغداد كانت شركة توتال الفرنسية منضمة بذلك إلى الشركتين الأميركيتين إكسون موبيل وشيفرون.

الحكومة العراقية تتعامل مع زحف الشركات النفطية إلى كردستان بتهديدها، سواء بمقاضاتها كون الإقليم يتبع للسيادة العراقية التي تشمل النفط أو بإنهاء عقودها مع الحكومة المركزية إذا ما أقدمت على إبرام صفقات نفطية مع إقليم كردستان دون موافقتها، وهذا ما حصل مع شركات توتال وشيفرون وإكسون موبيل .. حيث ألغت الحكومة العراقية عقود هذه الشركات معها وقررت منعها من عقد أي اتفاقية معها ولاسيما في القطاع الاستخراجي ما لم تتراجع عن العقود التي وقعتها مع حكومة كردستان، وفي مواجهة زحف الشركات إلى كردستان وتحديها لبغداد تتجه الأخيرة إلى تقديم ميزات جديدة للشركات النفطية لترغيبها، منها تحسين شروط التعاقد وزيادة نسبة عائدات الانتاج.  

 

الحكومة العراقية تتعامل مع زحف الشركات النفطية إلى كردستان بتهديدها، سواء بمقاضاتها كون الإقليم يتبع للسيادة العراقية التي تشمل النفط أو بإنهاء عقودها مع الحكومة المركزية

في مقابل أسلوب التهديد والترغيب هذا، تعمل حكومة إقليم كردستان بطريقة هادئة فيها الكثير من الإستراتيجية والاستقلالية معا، وهي تعمل ذلك تتطلع في الوقت ذاته إلى المدى البعيد على اعتبار أن النفط هو المفتاح الاقتصادي للاستقلال الكردي، خاصة إذا ما أصبح الإقليم يصدر النفط والغاز بشكل مستقل عبر تركيا ويحصل على الأموال دون بغداد التي تقول أربيل إنها تتأخر قصدا عن دفع مستحقات الشركات النفطية العاملة في كردستان.

إلا إن ما ينبغي الإشارة إليه هنا، هو الوجه الخفي والخطر لزحف الشركات النفطية إلى كردستان وتحولها إلى ما يشبه طابور خامس، فإذا كانت هذه الشركات تساهم في تعزيز مسيرة استقلال كردستان اقتصاديا وتتحول إلى طرف ينتزع هذا الاستقلال إلا أنه في الوقت نفسه تحقق سيطرتها على كردستان وربما ابتلاع حكومتها كما حصل مع العديد من حكومات دول أميركا الوسطى والجنوبية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

في الواقع، من الواضح أن قضية نفط كردستان باتت تخرج عن كونها قضية عراقية عراقية وتتحول إلى مواجهة بين بغداد والشركات النفطية الزاحفة إلى كردستان والتي تقف وراءها في النهاية حكومات ودول وسياسات وإستراتيجيات، وقد كان لافتا الرد الأميركي على رسالة المالكي للرئيس باراك أوباما بشأن العقد الذي أبرمته شركة إكسون موبيل مع إقليم كردستان وتهديده بحرمان الشركات الأميركية من الاستثمار، إذ جاء رد البيت الأبيض بمثابة صفعة للمالكي عندما أعلن استقلالية الشركات الأميركية وعدم تدخل الحكومة في عملها.   

تركيا بين مصالحها وتفكك العراق
في زحمة معركة نفط كردستان ثمة سؤال جوهري عن موقف تركيا إزاء ما يجري، بوصفها الدولة التي ستشكل أراضيها المعبر الأساسي لتصدير هذا النفط، والسؤال هنا يأخذ طابع الاختيار، على نحو هل ترجح أنقرة مصالحها النفطية والاقتصادية مع إقليم كردستان على استقلال الأخير وتفكك العراق وانعكاسات ذلك على الأمن المستقبلي لتركيا؟ 

لعل ما يشجع تركيا في هذه اللحظة السياسية البالغة التعقيد على تعميق روابطها الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية مع كردستان العراق هو تفاقم الخلاف التركي مع حكومة المالكي التي تنتهج سياسة إقليمية إيرانية في مواجهة الدور التركي الإقليمي، وهذا أمر -وفق الحسابات التركية- تجاوز القضية النفطية إلى الأزمة السورية وتداعياتها على الساحة التركية ومجمل المشهد الإقليمي في المنطقة والعالم.

وفي الأعماق ربما ثمة حنين تركي تاريخي إلى ولاية الموصل التي انتزعت منها عام 1926، واليوم وفي ظل ما يجري في المنطقة من ثورات ومتغيرات واصطفافات تجد تركيا الأردوغانية بأنها قريبة جدا من هذه المناطق سياسيا، وأن دبلوماسيتها واقتصادها وخطواتها ومجمل سياستها كفيلة بتحقيق مصالح إستراتيجية مع إقليم كردستان، سواء على المستوى الاقتصادي أو الإقليمي أو حتى لجهة التطلع إلى دور الإقليم في إيجاد حل سلمي للقضية الكردية في تركيا.

ما يشجع تركيا في هذه اللحظة السياسية على تعميق روابطها الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية مع كردستان العراق هو تفاقم الخلاف التركي مع حكومة المالكي التي تنتهج سياسة إقليمية إيرانية

في المقابل فإن رؤية حكومة إقليم كردستان تتفق مع السياسة التركية في الكثير من هذه النقاط والقضايا، كما تتطابق المصالح الاقتصادية للجانبين على شكل تطلعات مشتركة ومتبادلة سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي، لكن على المدى الإستراتيجي قد لا تكون الأمور هكذا، خاصة وأن الأحلام الكردية في إقامة دولة قومية في باقي مناطق كردستان متقدة، حيث ثمة قناعة لدى الأكراد في العراق وسوريا وإيران وتركيا والذين يشكلون جغرافية واحدة متصلة مع بعضها البعض رغم تقسيمها بين هذه الدول أن ما يجري في المنطقة سيغير من خريطتها الجيوسياسية والاقتصادية في النهاية على شكل إقامة نظام إقليمي جديد وأن الأكراد هم أكبر المستفيدين من هذه المتغيرات على شكل فرصة تاريخية لإقامة دولة مستقلة بهم بعدما حرمتهم الاتفاقيات والمصالح الدولية منها عقب الحرب العالمية الأولى.

وهذه إستراتيجية تنتاقض وإستراتيجية تركيا وتثير لها الكثير من المحن والجدل بشأن الخيارات المستقبلية، خاصة إذا انتقلت بغداد من أسلوب التهديدات والإجراءات إلى التصعيد على الأرض ضد إقليم كردستان على خلفية المعركة النفطية وتفاقم الخلافات بين الجانبين، إذ سبق وأن أعلن المالكي أن صفقات النفط مع كردستان تشكل بادرة خطيرة للغاية قد تؤدي إلى إشعال حروب.   

ومهما يكن، فإنه بين سعي إقليم كردستان لتطوير قدراته النفطية إنتاجا وتصديرا، واندفاع الشركات النفطية إليه، وسياسة التعطيل التي يتبعها المالكي لطالما ليس هناك قانون للنفط في البلاد، وتضارب المصالح الإقليمية، بات النفط موردا وجسرا لاستقلال كردستان العراق. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.