تسويق يهودية الدولة.. دوليا

تسويق "يهودية الدولة" دولياً . الكاتب: نادية سعد الدين

undefined 

دولة يهودية وديمقراطية
أداة القوانين العنصرية
"الدولة اليهودية" شرطاً للمفاوضات

غاب الرد العربي الإسلامي عن ما تمكّن الكيان الإسرائيلي من المضي فيه أممياً لتسويق عبارة "الدولة اليهودية"، توطئة لإكسابها شرعية دولية بالاتفاقيات والأعراف الدولية السائدة، وفي القانون الدولي، غداة إدراجها شرطاً لاعتراف فلسطيني من أجل استئناف المفاوضات المجمدة منذ أشهر.

فبعد "شرعنتها" إسرائيلياً بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودي وأغلبيتها اليهودية بالقانون، باتت العبارة منذ العام 2002 مطلباً حاضراً في جلسات التفاوض الفلسطينية الإسرائيلية وفي المؤتمرات، وفي الخطاب الأميركي الرسمي الذي تبناها تودداً للاحتلال وتبديداً لمخاوفه، وصولاً إلى خطابه الأممي، حيث توالى إيرادها في خطابات الرئيس باراك أوباما أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 2009، وصولاً إلى دورتها التي عقدت في سبتمبر/أيلول 2012 حينما خصص فقرة واحدة فقط في خطابه للصراع العربي الإسرائيلي، فتحدث عن "دولة يهودية آمنة ودولة فلسطينية مستقلة ومزدهرة (…) من خلال اتفاق عادل بين الطرفين"، دون أن يعترض أحد على ذلك.

لم تعد سلطات الاحتلال تكتفي بالاعتراف بها كدولة ذات سيادة وكأمر واقع، وإنما كدولة يهودية بما يعطيها ذلك من مشروعية تاريخية ودينية مزعومة. وهي بتلك المطالبة تهدف إلى تنازل الفلسطينيين عن المطالبة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم في الأراضي المحتلة عام 1948، وحرمان فلسطينيي 1948 من حق الإقامة في وطنهم، وشرعنة القوانين العنصرية الإسرائيلية ضدهم، بما يشكل خطراً على القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.

دولة يهودية وديمقراطية
نشأ تناقض حاد عندما تبنت الصهيونية تفسيراً دينياً وأسطورياً للقومية يتناقض مع توجهاتها العلمانية من أجل صوغ "قومية" يهودية، إذ أقيم في "إسرائيل" تجمع استيطاني يختلف نوعاً ما عن التجمعات اليهودية الأخرى في العالم، مما خلق تناقضاً بين مشروع "الأمة اليهودية" ومشروع "الأمة الإسرائيلية" الناشئة، أو بين الهويتين الإسرائيلية واليهودية معاً، وهو ما طرح تساؤلات ظهرت بعد قيام "الدولة" حول مرجعية اليهود ومركزهم، وتعريف اليهودي وعلاقته بالقدوم إلى الكيان الإسرائيلي بقصد الإقامة فيه أو البقاء في المنفى، وتجددت مع تعريف إسرائيل لنفسها على أنها "دولة يهودية" ديمقراطية، بما يحمل من تناقض في ظل وجود أكثر من 20% من العرب مواطني البلاد الأصليين في فلسطين المحتلة عام 1948.

تعود العلاقة المميزة بين الدين والدولة في الكيان الإسرائيلي إلى التطابق الكامل بين الدين والقومية كما عرّفتها الصهيونية ضمن علاقة فريدة، بحيث يتم فيها الانتماء إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين

وتعود العلاقة المميزة بين الدين والدولة في الكيان الإسرائيلي إلى التطابق الكامل بين الدين والقومية كما عرفتها الصهيونية، ضمن علاقة فريدة، بحيث يتم فيها الانتماء إلى القومية ثم المواطنة عبر تغيير الدين، واتباع نهج ديني واستخدام أدوات دينية لفحص الانتماء إليها، بينما لا يجري اختبار تهوّد اليهودي دينياً فحسب لغرض تحصيل المواطنة الإسرائيلية، بل ترفض أيضاً لغرض المواطنة يهودية من غيَّر دينه من اليهودية إلى ديانة أخرى ولا ينطبق عليه "قانون العودة".

كما أن الحجة المستخدمة لتبرير السيادة وحق تقرير المصير دينية تاريخية يزعم بموجبها بوجود حق تاريخي توراتي على الأرض. وبذلك، منح الدين لقومية الصهيونية الأسماء والمفردات واللغة والأرض والتوراة، إضافة إلى البعد القيمي الإيجابي والتداعيات الثقافية والتراثية لها جميعاً، فضلاً عن استخدام تعبيرات "شعب إسرائيل" و"الاختيار الإلهي" و"أرض الميعاد" وفكرة الخلاص والحدود التاريخية، بغرض استخدامها لغرض قومي سياسي.

ورغم أن ذلك شكل سبب رفض الحركات الدينية الأرثوذكسية للصهيونية بسبب علمانيتها وتحوير مفهوم المسيحانية، فإن الموقف تحول فيما بعد إلى مصدر لتعزيز ارتباط الدين والحركات الدينية بالصهيونية، استناداً إلى رابط الخلاص وتماثل الأهداف، أي الاتفاق على هدف الدولة "دولة يهودية" ترمي إلى تجميع واستيطان الهجرات الصهيونية في فلسطين، باعتباره أساس الانسجام الذي يعوّض عن فقدان التاريخ والبنية القومية فيها.

ومع أن سعي القادة الصهاينة لإضفاء الطابع الديني على الدولة بدأ قبل قيامها، فإن تقنين هذا التعريف الذي تحول تدريجياً إلى عبارة تكاد تكون مقدسة في التشريع الإسرائيلي، جاء متأخرا حتى عام 1992 حينما ورد المصطلح المزدوج "دولة يهودية وديمقراطية" كتعريف لدولة إسرائيل في القوانين الأساسية دستورية الطابع، وكشرط لسن أي قانون أساسي في البرلمان الإسرائيلي "الكنيست"، حيث تعتبر القوانين الأساسية التي يسنها الكنيست عند الحاجة لعدم وجود دستور، كأنها فصول منفصلة في الدستور.

ويتناوب المصطلحان "دولة يهودية" و"دولة اليهود" في وثيقة الاستقلال التي لها قيمة معيارية دستورية في بنية الدولة القانونية، رغم التناقض الصارخ بين صهيونية وعنصرية الدولة وبين ديمقراطيتها، وبين اليهودية تعريفاً لماهية الدولة وبين الديمقراطية، وفيما بعد جعل القبول بها شرطاً لخوض الانتخابات البرلمانية، مما أثار ضجة قائمة حتى اليوم من جانب الأحزاب العربية في "الكنيست".

ورغم أن بعض الليبراليين يحاولون استخدام مصطلح دولة الشعب اليهودي كمصطلح مغاير "للدولة اليهودية" باعتبار أن الحديث هنا يخص دولة قومية، وأن دولة الشعب اليهودي هي في الواقع مثل أي دولة تعبر عن حق تقرير المصير والسيادة، فإن المفهوم يحظى في النهاية بإجماع يجد تفسيره عند البعض باعتبار فكرة أن دولة إسرائيل هي دولة اليهود وأنها ديمقراطية، هي أفكار مؤسسة لدولة إسرائيل، وأي تغيير جوهري في إحداها يؤدي إلى تغيير متطرف في ماهية الدولة وجوهرها، وفي نسيج العلاقات بينها وبين مواطنيها، وبينها وبين الشعب اليهودي.

ويدعو مصطلح "الدولة اليهودية" إلى تفسيرات تتعلق بجوهر محدد للدولة -جوهر يهودي- بما يحمل من تفسيرات خطيرة بالنسبة للعلمانيين برفض اعتبار يهودية الدولة جسراً لتفسيرات دينية تحكَّـم الشريعة اليهودية في حياة الناس بشكل أعمق، وفق تعامل الأحزاب الدينية مع مفهوم الدولة اليهودية. ومع ذلك فإن التخوف العلماني يتوقف عند رؤيته في يهودية الدولة لما هو أبعد من أغلبية يهودية، بحيث يشكل مضموناً ليهودية الدولة كامناً في تمكينها من تطوير هوية يهودية علمانية.

وقد شاع في السابق مصطلح دولة اليهود الذي حمل عنوان كتاب هرتزل دون تعريفها، وإنما قصرها على وجود أغلبية يهودية تعتبرها دولتها، حيث أراد دولة تشكل تعبيراً قومياً عن اليهود، فيها أغلبية يهودية وتحول اليهود إلى شعب كباقي الشعوب الأوروبية. ورغم علمانيته، فإنه لم يجد سوى الانتماء الديني مدخلاً وتعريفاً للقومية والانتماء للدولة، مما أثار حفيظة المتدينين الذين يرفضون علمنة الدين اليهودي ويصرون على شعب التوراة، غير أن الأحزاب الدينية باتت تناضل من أجل إعطاء مضمون يهودي ديني للدولة التي كانت ترفض إقامتها على يد العلمانيين.

بن غوريون لا يرى فرقا حقيقيا بين دولة يهودية ودولة اليهود، لأن الصهيونية في أوج علمانيتها لم تنجح إطلاقاً في وضع تعريف علماني لليهودية يختلف عن تعريف الشريعة لهذا الانتماء، أي الدين

كما عرّف جابوتنسكي "الدولة اليهودية" على أنها دولة تقطنها أغلبية يهودية، دون أن يجد تعريفاً أو جوهراً يهودياً للدولة اليهودية، غير أن الهوية اليهودية في نظر بن غوريون هي التي تقيم الدولة وليس العكس، وهي أساس القانون الإسرائيلي وأساس المواطنة وليس العكس، "فحق عودة اليهودي واستيطانه في فلسطين سابق على القانون"، رغم أنه هو الذي أدى إلى تهجير الفلسطينيين، ولذلك اقترح بن غوريون خلال جلسة الكنيست عام 1951 أن "تستغل أول مناسبة لطرد المواطنين العرب لأنهم يريدون رمينا في البحر"، معتبراً أن مصطلح "دولة اليهود" يخص اليهود أينما كانوا، و"ليست دولة الغالبية اليهودية الموجودة فيها بسبب اختلافها عن بقية الدول في عوامل وأهداف إقامتها"، وفق ما ذكره في خطابه في معرض تقديمه لقانون العودة عام 1950.

ويتضح من ذلك أنه حتى عند علماني مثل بن غوريون، لا يوجد فرق حقيقي بين دولة يهودية ودولة اليهود، لأن الصهيونية في أوج علمانيتها لم تنجح إطلاقاً في وضع تعريف علماني لليهودية يختلف عن تعريف الشريعة لهذا الانتماء، أي الدين، فاليهودي قومياً بنظر الصهيونية هو أيضاً اليهودي دينياً وفق تحديد المؤسسة الدينية، فعملية الفصل بين الدين عن الدولة أمر صعب ما دامت اليهودية تعني رموز الدولة ومصدرها التاريخي التراثي، وتقرر المواطنة عبر قانون العودة الذي وضع تعريفاً يتطابق مع تعريف الدين باعتبار أن "اليهودي هو من ولد لأم يهودية أو تهوّد وليس تابعاً لديانة أخرى". ومع قيام إسرائيل تحولت الهوية اليهودية إلى هوية رسمية تحتاج إلى تحديد اليهودي الذي يسري عليه القانون بموجب تحديد الشريعة.

أداة القوانين العنصرية
لقد كانت "يهودية الدولة" الأداة التي جعلت بإمكان الدولة أن تسن القوانين الرامية إلى مصادرة أراضي العرب باعتبار أن الاستيطان اليهودي واستيعاب الهجرة هي قيم أساسية. كما أن "يهودية الدولة" هدفاً وأساساً لقيامها جعلت سلطات الاحتلال ترفض تطبيق حق عودة اللاجئين، كما كانت أساساً لسن قانون الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية العالمية الذي يمنحهما مكانة خاصة، إضافة إلى الصندوق القومي اليهودي "كيرن كييمت" ومنحه مكانة قانونية في مجالات تملك الأرض والاستيطان واستيعاب الهجرة، وهي المهمات التي تعبر عن يهودية الدولة.

وما زال الحفاظ على "يهودية الدولة" يشكل أساساً لجملة من التشريعات العنصرية، ومنها قانون منع لمّ شمل العائلات الصادر عام 2002، خاصة إذا كان أحد الزوجين فلسطينياً أو فلسطينية من الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما يعتبر مرفوضاً إذا كان أحدهما من اللاجئين في الشتات، وذلك بهدف الحفاظ على الأغلبية اليهودية، رغم أن مسوغات القانون التي طرحت أمنية.

كما كانت "يهودية الدولة" وراء المخطط الإسرائيلي المؤرخ زمنياً بعام 2020 وفق المسار المفترض، لتهويد القدس باعتبارها "العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل"، من خلال الاستيطان والطرد وهدم المنازل ومصادرة الأراضي، لإحداث تغيير في حقائق السكان والأرض وتخفيض عدد المواطنين الفلسطينيين العرب إلى 12%، مقابل مليون يهودي في القدس المحتلة بجانبيها الشرقي والغربي، بينما يصل عدد الفلسطينيين اليوم في شطرها الشرقي نحو 300 ألف مقدسي.

"الدولة اليهودية" شرطاً للمفاوضات
تشترط سلطات الاحتلال الاعتراف بإسرائيل "دولة يهودية" أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين وشرطاً لها، وهي مطالبة محمومة تعود تشريعياً إلى عام 2000 بغرض تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودي وأغلبيتها اليهودية بالقانون، مقابل إسقاط حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم التي هُجّروا منها قسراً بفعل العدوان الصهيوني عام 1948، وحرمان المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 من حق الإقامة في وطنهم، وإضفاء الشرعية على القوانين العنصرية الإسرائيلية ضدهم.

وتسعى الدبلوماسية الإسرائيلية إلى تدويل موضوع "يهودية الدولة" من خلال مطلب الاعتراف الفلسطيني بها شرطاً لاستئناف المفاوضات، وإكساب العبارة شرعية دولية بالاتفاقيات والأعراف الدولية السائدة، وفي القانون الدولي.

وقد حضر هذا المطلب أثناء قمة كامب ديفد الثانية عام 2000 تحت رعاية الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وحضور الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك، مما أصابها بالفشل، ليس بسبب الموقف الفلسطيني المتعنت كما تزعم سلطات الاحتلال، وإنما بسبب اللاءات الإسرائيلية بشأن اللاجئين والقدس وإزالة المستوطنات، حيث عرضت إسرائيل "تنازلات" رمزية تختزل قضية حق العودة في إطار "جمع شمل العائلات" ضمن شروطها ومعاييرها، وتوطين اللاجئين في أماكن وجودهم، وإضافة بند إلى الاتفاق يفيد بوضع حد للصراع من شأنه أن يحررها من كل مطلب مستقبلي بشأن تلك القضية، مما يعني دفن أي مسؤولية لها عن اللاجئين.

وقد تواتر ذلك الموقف الإسرائيلي مع خطة خريطة الطريق (2003) بإيراد 14 تحفظاً بشأن رفض حق العودة وتقسيم القدس وإزالة المستوطنات، كما تكرر مع رفض المبادرة العربية للسلام، ووضع شرط الاعتراف "بإسرائيل كدولة يهودية" أمام "المؤتمر الدولي حول السلام في الشرق الأوسط" في أنابوليس تحت الرعاية الأميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2007، مما أفشله.

تشترط سلطات الاحتلال الاعتراف بإسرائيل دولة يهودية أثناء المفاوضات مع الفلسطينيين وشرطاً لها، والهدف تأكيد يهودية الدولة وطابعها اليهودي

وقد تبنت الولايات المتحدة المطلب لتبديد مخاوف الاحتلال، فجاء في كلمة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش "الابن" في مؤتمر العقبة عام 2003 أن "أميركا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية". كما توالت العبارة في خطابات الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فتحدث في دورتها عام 2009 عن "دولة يهودية لإسرائيل مع توفر الأمن الحقيقي للإسرائيليين، ودولة فلسطينية قابلة للحياة ذات حدود متماسكة تنهي الاحتلال الذي بدأ عام 1967″، ولازم في خطابه عام 2010 "الأمن الحقيقي للدولة اليهودية بفلسطين مستقلة"، ودعا في خطابه عام 2011 إلى "الاعتراف بها وإقامة علاقات طبيعية معها"، بينما أجمل في خطابه عام 2012 المصير الواضح "بدولة يهودية آمنة ودولة فلسطينية مستقلة"، وهكذا أصبحت "يهودية إسرائيل" مسألة دولية. 

بيد أن الجانب الفلسطيني العربي يرفض الاعتراف "بالدولة اليهودية" لأنه يرى فيه تخلياً علنياً عن حق العودة حتى قبل المفاوضات، إذ إن مطالبة الكيان الإسرائيلي بالاعتراف به "كدولة يهودية" تتناقض كلياً مع مبدأ حق العودة، مثلما تعني إسقاطاً له ونسفاً لأية مطالبة فلسطينية عربية به.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.