فتنة القيم في المغرب

فتنة القيم في المغرب . الكاتب: يحيى اليحياوي

undefined

صرح رئيس تحرير جريدة "الأحداث" المغربية في يوليو/تموز الماضي في لقاء له مع فضائية "الميادين" حول الحرية الجنسية في المغرب, بما مفاده أنه لا مانع لديه ولا تحفظ من لدنه يذكر, من أن تتمتع أمه وزوجته وأخته بأجسادهن, وأن لا وصاية لكائن ما كان عليهن على الإطلاق ما دام الأمر يدخل في خانة الحريات الفردية التي ضمنها لهن الدستور, واعترفت لهن بها المواثيق الدولية التي وقع عليها المغرب, شأنه في ذلك شأن العديد من دول وحكومات العالم.

يقول المختار لغزيوي في رده على سؤال القناة الفضائية عن إمكانية قبوله بالحرية الجنسية, بأنه يؤيد ممارسة "العلاقات  الجنسية للراشدين خارج إطار مؤسسة الزواج, والتي تتم بتوافق ودون إرغام أو إجبار من قبل أحد طرفي العلاقة".

لغزيوي داعيا للحرية الجنسية: أقبل أن تمارس أختي وأمي وابنتي حريتهن مثلما يبدو لهن ذلك ملائما, ويجب أن نصل إلى هذه الشجاعة.. حريتنا شيء ضروري

ورد المتحدث عندما سئل عن إمكانية قبوله بالحرية الجنسية لأخته أو ابنته أو والدته خارج إطار الزواج، بقوله "أنا أقبل أن تمارس أختي وأمي وابنتي حريتهن مثلما يبدو لهن ذلك ملائما, ويجب أن نصل إلى هذه الشجاعة.. حريتنا شيء ضروري".

وسنده في ذلك هو اعتباره أن المجتمع المغربي والمجتمعات العربية والإسلامية بوجه عام, تعيش "حالة من النفاق الاجتماعي عندما تجرّم العلاقة الجنسية خارج الزواج, باعتبارها موجودة بشكل واسع في كل المجتمعات".

الرجل صرح بذلك علانية في الفضائية المذكورة, لكنه لم يتردد في التأكيد عليه بأكثر من مقال, في ركنه اليومي بالصفحة الأخيرة من الجريدة التي يقوم على رئاسة تحريرها، أي أن الأمر لا يدخل في نظره في باب المزايدة الصرفة والعابرة, بقدر ما هو قناعة قائمة وثابتة لا يبدي إزاءها أي تردد في الجهر بها والتعبير عنها بالكلمة والصوت والصورة.

وصرح به أيضا -عن دراية أو ربما عن عدم اطلاع- في ظل فصل من القانون الجنائي المغربي (الفصل 490) ينص حرفيا على معاقبة كل من أقام علاقة جنسية خارج العلاقة الزوجية. ويعاقَب طرفا جريمة الفساد وفق بنود هذا الفصل، بالحبس من شهر واحد إلى سنة، في حين أن جريمة الخيانة الزوجية يعاقب عليها بالحبس من سنة إلى سنتين. ويعرف القانون ذاته جريمة الفساد بكونها "كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية".

لم يمض وقت طويل على ذلك حتى خرج علينا بعض "الدعاة الجدد" (الشيخ عبد الله النهاري الخطيب المثير للجدل) في خطبة الجمعة الموالية لتاريخ التصريح, بفتوى تصف رئيس التحرير إياه بالديوث, ويطالب من ثمة بواجب إقامة الحد في حقه, دونما ظرف في التخفيف, أو استحضار للسياق الذي قيل فيه الكلام.

يقول الشيخ النهاري إن "الشريعة الإسلامية تصف أمثال لغزيوي بالديوث، أي الذي يرضى بالخبث في أهله، وحكمُ الديوث في الشريعة القتل".

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد, بل تجاوزه بوتيرة متسارعة عندما ركبت ناصيته منظمات حقوقية وأحزاب سياسية, وامتلأت شبكات الإنترنت الاجتماعية عن آخرها بردود فعل مؤيدة أو مناهضة لهذه الجهة أو تلك, أوشكت في حينه أن تبلغ مبلغ الفتنة بين من يتعاطف قلبا وقالبا مع موقف الشيخ النهاري, وبين من يرى في الفتوى إياها تعديا على الحريات الشخصية, وضمنها الحريات الجنسية.

يقول أحمد الريسوني -وهو المعروف ببحوثه عن فقه المقاصد- في تبنٍّ غير مباشر للفتوى, إن "الحريات الفردية عموما, والحرية الجنسية تحديدا, إنما تحيل على الفاحشة, وعلى الانحراف الجنسي, وعلى ممارسة العهارة واللواطية, بفترات الاستراحة في المدارس, كما بالحدائق العمومية, كما بالشارع العام"، وهذا أمر غير مقبول شرعا, ولا يمكن بالتالي السكوت عنه تحت هذا الظرف أو ذاك, يتابع الفقيه.

بالجهة المقابلة, يقول بيان للجمعية المغربية لحقوق الإنسان في دفاعها عن لغزيوي, إن الفتوى الصادرة عن الشيخ النهاري, تمامًا كالقانون المجرّم للعلاقة بين الجنسين, هو "تعرض سافر للحياة الخاصة للأفراد".

وامتدادا لذلك, أعلن تكتل لجمعيات أخرى أن المسألة ليست مرتبطة بالشيخ صاحب الفتوى, بل باستلهام للإسلام "متخلف ولا يجاري العصر", فأعلن التكتل موقفه بأنه "حيثما كانت مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية محترمة, فإننا نجد مجتمعات هادئة, متوازنة, سعيدة, حرة, مرفهة ومتقدمة بكل ميادين العلوم والمعرفة, مجتمعات حيث العلاقات الاجتماعية مقوننة بقيم متجذرة في الاحترام والتحضر والأدب. لكننا لم نر مستويات مرتفعة من الاحتقانات والعدوانية والتحامل على المرأة بالمربع الواحد, كما نرى في المجتمعات حيث يسود الإسلام".

ويضيف تكتل الجمعيات أنه "حيثما ساد الإسلام فلا تجد إلا أمما متخلفة, متدهورة في ثقافتها, مغتصبة في إنسانيتها, معقدة في نفسيتها، مجتمعات حيث جرائم الشرف تعتبر فعلا نبيلا, وحيث الاغتصاب والعنف الذي يطال النساء ممارس باسم الإسلام".

ولما كان كلام الشيخ المفتي قد تم تفسيره -إعلاميا وحقوقيا بالأساس- على أنه دعوة صريحة للقتل والتحريض على العنف, فقد تم الاستماع إليه من لدن النيابة العامة, وتم رفع القضية إلى المحكمة لتستمع للطرفين وتبت بما تراه مطابقا أو منافيا للقانون. ولا تزال أطوار القضية جارية لحد الساعة في ردهات المحاكم, بعدما تم إغلاق الحدود في وجه الشيخ النهاري.

كان كل هذا في شهر شعبان, ومع حلول شهر رمضان طلعت علينا من جديد جمعيات ومنظمات مدنية, ومن بين ظهرانيها شبان وشابات يرفعون شعارات يطالبون فيها بحقهم في الإفطار العلني برمضان, وينددون بالفصل 222 من القانون الجنائي الذي يجرم ذلك, لا بل ويطالبون الدولة بإلغاء الفصل إياه جملة وتفصيلا.

بعد حادثة الحرية الجنسية ظهر شباب وشابات يرفعون شعارات يطالبون فيها بحقهم في الإفطار العلني خلال رمضان, وينددون بالفصل 222 من القانون الجنائي الذي يجرم ذلك

ودفوعاتهم في ذلك إنما القول بأن ممارسة الحرية الفردية يجب أن لا يعيقها عائق, وأن هذه الحرية حق مقدس في دولة علمانية مثل "المغرب", وأن فرض الصيام على كل المغاربة لا يقيم اعتبارا ليس فقط للاختيارات الدينية للأفراد والمجموعات, بل ويصادر الحرية الدينية للأقليات أو للمعتقدات الخاصة, أو للذين لا يحتكمون إلى الدين في طقوسهم وسلوكهم وتصرفاتهم, ولا يعتبرونه مرجعيتهم في الحل والترحال.

والطريف في مطالبة هؤلاء بالإفطار العلني في رمضان هذه السنة, أن الأمر لم يقتصر -كما في السنوات الماضية وبظل الشهر العظيم- على المطالبة بتنظيم وقفات "احتجاجية" أمام المحافظات والأقاليم بالجهات, بل ذهبوا لحد طلب الترخيص لهم بالإفطار الجماعي (بواضحة النهار طبعا) أمام البرلمان, لتبليغ رسالتهم المتمثلة حصرا في إلغاء الفصل 222 من القانون الجنائي.

في مقابل ذلك, طلعت علينا بالجهة الأخرى آراء و"فتاوى" تندد بهذا السلوك وتعتبره أمرا نشازا, وترى فيه استفزازا لشعور ملايين المغاربة الذين يعتبرون شهر رمضان شهرا مقدسا لا يسمح بالتجاوز على قدسيته أيا ما تكن المبررات والاعتبارات. وتعتبر هذه الجهة أن مطالب من هذا القبيل لا علاقة لها مطلقا بمسألة الحرية لا في مضمونها ولا في شكلها, وأن قيمة الحرية يجب أن لا تتجاوز وتذهب إلى حد التطاول على القيم الأخرى, لا سيما القيم التي يعتبرها المجتمع -أفرادا وجماعات- مقدسة.

إننا عمدنا إلى سرد هاتين الحالتين ليس بغرض تبني طرح هذه الجهة أو تلك, أو التجريح في حرية هذا الفرد أو ذاك. إننا سردناهما للتذكير بثلاث مسائل تبدو لنا جوهرية لبلورة عناصر النقاش, ووضع هذه العناصر في السياق العام السليم:

الأولى, أن مجال الحريات الفردية كما الجماعية سواء بسواء, منصوص عليه ومحدد الإطار بالعديد من بنود الدستور والقوانين والتشريعات المتفرعة عنه. ولما كان الأمر كذلك, فإن الحد الأدنى المطلوب إنما هو الالتزام بها ضمانا للعيش المشترك, ودرءا للفتنة التي قد تبدأ, وقد لا يعلم المرء متى وأين ستنتهي. والقصد هنا مرتكز على مسلّمة أنه من الأفضل القبول بقانون ظالم أو غير منصف للكل, إذا كان من شأن ذلك أن يحول دون الفتنة والاقتتال. وأزعم هنا أن الفتنة الناجمة عن الصراع المتمحور حول القيم أشد وأعنف من الفتنة المقتنية لأداتي النار والحديد.

وعليه, فإذا كانت الحرية الجنسية واحترام طقوس رمضان محددة ومؤطرة بنص ومنطوق القانون, فلمَ المزايدة بشأنها إذن, اللهم إلا إذا ارتضى الناس نظاما غير الذي توافقوا عليه نصا وتشريعا, أو كانت نيتهم إشعال أو تأجيج نار الفتنة.

المسألة الثانية: ليس من حق أي شخص -كائنا ما كان- أن يطعن في قيم ومعتقدات وتمثلات الأفراد -فما بالك بالجماعات- تحت أي مسوغ من المسوغات, حتى لو كان مسوغ الحرية ذاته, لأن من شأن ذلك أن يصدم المجتمع, أو يثير نار التصادم والتحارب بين ظهرانيه.

الأمر هنا لا يرتبط بإبداء رأي أو الادعاء بالحق فيه والجرأة في التعبير عنه، إنه مرتبط بمنظومة مجتمعية, المفروض تطويرها بالتدرج, لا الدفع بها على خلفية من استحضار أطروحة "العلاج بالصدمات". القاعدة العامة هنا أنه عندما تصبح الظاهرة عامة ومقبولة ولا تثير النفور من هذه الجهة أو تلك, ولا تزايد على القيم المقدسة للمجتمع, فحينها -وحينها فقط- يمكن إعمالها وتفعيلها دونما خجل أو خشية. أما وأن الأمر غير ذلك في الزمن الحاضر, فإن إثارة قضايا من هذا القبيل فيها من المخاطر أكثر ما فيها من المكاسب والإيجابيات.
ليس من حق أي شخص أن يطعن في قيم ومعتقدات وتمثلات الأفراد -فما بالك بالجماعات- تحت أي مسوغ من المسوغات, حتى لو كان مسوغ الحرية ذاته

أما المسألة الثالثة, فتتعلق بكيفية استنبات أدبيات الحوار والنقاش من بين ظهرانينا, علماء وأهل معرفة وفقه, ثم نخبا وشرائح مجتمع, خاصته وعامته. ويبدو لنا في هذه النقطة أن الإبداء بآراء شاذة, تماما كالمطالبة بإنزال الحد في أصحابها تحت هذا المبرر أو ذاك, كلاهما أمر غير مقبول في شكله كما في الجوهر.

إن الذي صدر عن لغزيوي وعن جمعيات "الإفطار العلني في رمضان", تماما كالفتاوى المناهضة لهم, المعترضة عليهم باسم الدين أو باسم القانون أو باسمهما معا, إنما هي النموذج الصارخ "لثقافة" الفعل ورد الفعل التي تطبع مجتمعاتنا, والتي لا تخضع الأفكار للتجربة ثم للاختبار ومن ثمة للاختمار, بقدر ما تدفع بها في الفضاء العام دفعا, دونما استحضار أو تقدير لما قد يترتب عنها من احتقانات وتشنجات.

ثم هي الأنموذج الصارخ "للحروب الهامشية والصغيرة" التي لا طائل من ورائها, اللهم إلا إذكاء نار العنف والعنف المضاد, والاحتقان والاحتقان المضاد, والتطرف والتطرف المضاد.

إن القضايا التي تهمنا اليوم أكثر من أي وقت مضى (لأنها تستصدر حاضرنا وترهن مستقبلنا), ليست القضايا من قبيل ما تم الحديث فيه.. إنها القضايا التي يجب أن تصب مباشرة في خانة محاربة التخلف والظلم والأمية, وتدفع بنا لأن نكون في مصاف الدول التي لا تزايد على قيمها, ولا تبدي كبير اهتمام لمن لا "وظيفة" له إلا المزايدة على هذه القيم بهذا الشكل أو ذاك, أو على أساس من هذه المرجعية أو تلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.