الكنفدرالية.. هي الحل!

كمال الجزولي - العنوان: الكنفدرالية.. هي الحل!

undefined 

يوم الخميس 27 سبتمبر/أيلول المنصرم، ومع نهاية الجولة السابعة لقمة البشير-سلفاكير في العاصمة الإثيوبية، والتي كان مقرراً لها يوماً واحداً، فإذا هي تستغرق أربعة أيام.. تم توقيع اتفاق السودان وجنوب السودان الذي يقضي باستئناف تصدير نفط الجنوب عبر أراضي الشمال، وبإقامة منطقة منزوعة السلاح على الحدود بينهما، وهي أطول حدود بين دولتين في القارة، إذ تبلغ 1800 كلم، بحيث تتراجع القوات عشرة كيلومترات من كل جانب.

بخلاف ذلك لم يشمل الاتفاق سوى بضع قضايا يجمع المراقبون على ثانويتها، إذ هي بكل المقاييس أقل أهمية مما لم يشمل من أمهات القضايا المتنازع عليها، كمنطقة أبيي، وترسيم الحدود، دَعْ عدم تطرق الاتفاق أصلاً لجزء جوهري من قرار مجلس الأمن رقم 2046 المتعلق بمفاوضة الحكومة للحركة الشعبية في الشمال بشأن الأوضاع الإنسانية والسياسية في جنوب كردفان والنيل الأزرق، إذ لم يستطع القرار تجاهل أن 40% من الحدود بين الدولتين -والتي يراد إرساء ترتيبات أمنية لها- واقعة في الوقت الراهن تحت سيطرة هذه الحركة.

(1)

كنا حذرنا في مقالتنا السابقة، من أن أي مشكلة لا يشملها اتفاق الطرفين، سيتدخل مجلس الأمن ليفرض حلها تحت الفصل السابع، بصرف النظر عما إن كان هذا الحل مرضياً للطرفين أم لا، أو إن كان يوفر علاجاً جذرياً للمشكلة أو لا

ورغم ترحيبنا بالاتفاق لكونه خطوة باتجاه تسوية ما، فإنه ليس من غير المتوقع -بالنظر إلى الظروف المحيطة به- ألا يخلف قنابل موقوتة مرشحة للانفجار في أي لحظة، وهو المتَّسِم بهذه التجزيئية المعيبة، والمبرم تحت ضغوط أجنبية معلومة، بموجب قرار مجلس الأمن، وتوصية الاتحاد الأفريقي، وإسناد الجامعة العربية، وبمنأى عن القوى الوطنية والمجتمع المدني!

وإذا كان "الجواب من عنوانه" كما في بعض مجازات مستعربي السودان البلاغية، فثمة شواهد كثيرة تدعم -على أي حال- هذا التخوف، مثلما أن ثمة بدائل كثيرة تنتظر إرادة سياسية كافية في مستوى حكومتي الخرطوم وجوبا.

نماذج هذه القنابل ليست عصية على الرصد، فلئن كان منتظراً من الاتفاق أن يرطب الأكباد ويليِّن المشاعر، فما من مراقب يمكنه -مثلاً- أن يغفل اللهجة غير الودودة التي قطع بها كبير مفاوضي الجنوب باقان آموم في نفس أمسية التوقيع، وحبره لم يجف، ومصابيح قاعة حفله لم تطفأ بعد، الجدل حول مطالبة السودان بمبلغ 1.8 مليار دولار مقابل أصول سودابت، قائلاً بجفاء "لن ندفع هذا المبلغ"! (رويترز، 29/9/2012).

إيراد هذا النموذج لا يعني أن هذه المسألة مشمولة بالاتفاق، وإنما يعني فقط أن ذلك ما سيكون عليه روح التفاوض مستقبلاً حول الأمور الأكثر أهمية!

كذلك، ما من مراقب لا يمكنه أن يلحظ خراقة السلاسة التي سمح الطرفان بأن تنسرب بها قضية أبيي من بين أصابعهما، لتقع سائغة بين طواحين القرارات الدولية.

مع ذلك وصف الدرديري محمد أحمد -وهو أحد أركان الحزب الحاكم- ذلك الأمر بأنه "فأل حسن"! (الصحافة، 8/10/2012).

وكنا حذّرنا في مقالتنا السابقة تحت عنوان "الفورة ألف"، من أن أي مشكلة لا يشملها اتفاق الطرفين، سيتدخل مجلس الأمن ليفرض حلها تحت الفصل السابع، بصرف النظر عما إن كان هذا الحل مرضياً للطرفين أم لا، أو إن كان يوفر علاجاً جذرياً للمشكلة أو لا.

لكن، بدلاً من تقدير أفضلية القرار الوطني في هذه الحالة على القرار الأجنبي، انشغل كلا الطرفان -للأسف- بالبحث عن "وسادة دولية" مريحة!

ما أهمّ الخرطوم هو مناورتها بمقترح تقسيم أبيي الذي تعوِّل على أن يحظى بدعم المجتمع الدولي، والذي تولى كبره المبعوث الروسي ميخائيل مارغيلوف، بينما ما أهمّ جوبا هو اطمئنانها لصدور قرار مجلس الأمن لصالحها، حيث لا سبيل لطرح مقترح التقسيم إلا عبره

فأهم ما أهمَّ الخرطوم هو مناورتها بمقترح تقسيم أبيي الذي تعوِّل على أن يحظى بدعم المجتمع الدولي، والذي تولى كبره المبعوث الروسي ميخائيل مارغيلوف عقب لقائه البشير يوم 28 سبتمبر/أيلول الماضي، بينما أهم ما أهمَّ جوبا هو اطمئنانها لصدور قرار مجلس الأمن لصالحها، حيث لا سبيل لطرح مقترح التقسيم إلا عبر آلية هذا المجلس (المصدر نفسه).

من الشواهد كذلك على أن نظام الخرطوم يفضل ترك الأمور برمتها للقوى الأجنبية على إشراك القوى الوطنية فيها، التحفظ الذي ساقه المجلس الاستشاري للقطاع السياسي بالحزب الحاكم ضد عرض الاتفاقية على الأحزاب، بزعم أنها "ليست اتفاقية حزب وإنما اتفاقية دولة"! (الرأي العام، 30/9/2012).

ومما يزيد طين هذا الإيثار للقوى الخارجية بلة، الارتباك والتناقض في مواقف مؤسسات السلطة نفسها، بما يشي بالصراع حولها أو حول تكتيكاتها على الأقل، وهو ما يعتبر مسرباً آخر للقنابل الموقوتة! 

فمثلاً، ما كاد التصريح المذكور يصدر من مجلس الحزب الحاكم حتى اتخذ البشير موقفاً نقيضاً له بقوله "سألتقي بقادة المعارضة لإطلاعهم على نتائج المفاوضات وتمليكهم وثائقها"، وذلك -على حد تعبيره- "لتحقيق أكبر قدر من الإجماع القومي حولها" (السوداني، 1/10/2012).

لكن البشير نفسه ما لبث أن أردف قائلاً "لا نعرف شيئا اسمه قطاع الشمال، وملتزمون ببحث قضايا.. النيل الأزرق وجنوب كردفان مع ممثلي المنطقتين"، مضيفاً  "لا فيتو على الحلو أو عقار إن كانا نالا تفويضاً بتمثيل منطقتيهما" (المصدر نفسه)، فضلاً عن تصريح نائب رئيس الجمهورية مؤخَّراً حول اضطرار حكومته تحت الضغط الدولي، للتفاوض مع الحركة الشَعبية بالشمال، حيث أشار إلى أن "واقع الحال" جعل هذه الحركة هي الطرف الآخر الذي "لا بد من التفاوض معه" (قناة الخرطوم، 2/9/2012).

واضحٌ رغم تناقض التصريحات أن ياسر عرمان "ثالث الثلاثة" الذي قصد رئيس الجمهورية، دقَّ إسفينا بينه وبين رفيقيه وعزلهما عن "قطاع الشمال" من جهة، وعن تقاربهما المحتمل مع القوى السياسية الوطنية من جهة أخرى، دون أن يعطيهما أكثر من "حبال بلا أبقار" كما في المثل الشعبي، باشتراطه للاعتراف بهما أن يحصلا أولاً على تفويض بتمثيل منطقتيهما!

هكذا يمكن إدراك ما وراء سخاء الرئيس على أحزاب المعارضة "بإطلاعها" على "نتائج المفاوضات"، و"تمليكها وثائقها"، وتأكيده أن ذلك ليس إلا "لتحقيق أكبر قدر من الإجماع القومي حولها"، أو كما قال!

(2)

إذا كنا نغلّب سداد الالتفات إلى بدائل أخرى لواقع الانفصال البائس، وما يستتبع من اتفاقات تنطوي على قنابل موقوتة، بأكثر مما تقدم من حلول للمشاكل بين البلدين، فإننا ما نزال نعوّل على مبادرتنا التي كنا أسميناها آدم، اختصاراً لعبارة اتحاد الدولتين المستقلتين

في الأول من أغسطس/آب الماضي، أي قبل شهرين من اتفاق البشير-سلفاكير، ألقى المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان وجنوب السودان برنستون ليمان محاضرة سياسية كبرى حول العلاقات الأميركية السودانية، شدد فيها على الاتجاه الراهن للإدارة الأميركية نحو إصلاح علاقاتها مع الخرطوم رغم كل الخلافات، كما حدد الخطوات الكفيلة بإنجاز هذا الهدف (موقع واشنطن تايمز الإلكتروني).

لكن تفسير هذه "الإيماءة اللطيفة" كدليل على أي انعطاف أميركي نحو الاهتمام بمصالح السودان، سيكون ضرباً من الغفلة التامة. فلأميركا ألف طريقة وطريقة تخدم بها مصالحها هي، حتى لو بدا في الأمر مراعاة لمصالح الآخرين!

لن يهتم بنا أحد إن لم نهتم نحن بأنفسنا، وسيتعيَّن على أي نظام حكم متصالح مع شعبه -ومن ثم مع نفسه- أن يعي جيداً أن أي قدر من المعرفة بحقائق بلادنا على جانبي الحدود المشتركة، شمالاً وجنوباً، والأكثر شبهاً بشعوبنا، تاريخها وحاضرها ومستقبلها، لا بد أن يصبَّ في إحدى أهم الخلاصات التي تؤكد أصالة العمق "الوحدوي" في علاقاتنا بعضنا ببعض، حتف أنف قشرة الجفّاء المظهرية السميكة، بل ورغم نتيجة استفتاء يناير/كانون الثاني 2011 والتي جاءت لصالح "الانفصال"، نتيجة الدفع العنيف من فيالق "الانفصاليين" والتراخي المقيت من قوى "الوحدويين" على كلا الجانبين! 

مقاربة الإشكالية على هذا النحو كان موضوع مبادرتنا باتجاه معالجة محدَّدة تتجاوز حالة اليأس في ما يتعلق بوضعية ما بعد "الانفصال" بالنسبة للأشواق "الوحدوية" الغالبة في كلا البلدين، والتي سبق أن طرحناها قبل الاستفتاء، بدعم ومعاونة مجموعة من الوطنيين الديمقراطيين، شماليين وجنوبيين، رجالاً ونساءً، في مقدمتهم مفكرون وأدباء وكتاب وفنانون وصحفيون وناشطون وقادة مجتمع مدني.

ولم نكف عن طرحها حتى بعد الاستفتاء، حيث جرى مؤخراً تبنيها من جانب اتحاد الكتاب السودانيين، واعتمادها ضمن برامج الكونسورتيوم الأفريقي لأجل السودان.

وإذا كنا نغلّب سداد الالتفات إلى بدائل أخرى لواقع "الانفصال" البائس، وما يستتبع من "اتفاقات" تنطوي على قنابل موقوتة، بأكثر مما تقدم من حلول للمشاكل بين البلدين، فإننا ما نزال نعول على مبادرتنا التي كنا أسميناها "آدم"، اختصاراً لعبارة "اتحاد الدولتين المستقلتين"، والتي تنتظر لتنفيذها -كما قلنا- توفر قدر مطلوب من الإرادة السياسية لدى الخرطوم وجوبا، خصوصاً أن ثمة ما يشجع على ذلك، مع تواتر لغة متقاربة توزعت تعبيراتها مؤخراً بين بعض التفاهمات والخطابات السياسية، حيث شمل اتفاق أديس أبابا إقرار "الحريات الأربع"، كما شدد رئيس الحركة الشعبية بقطاع الشمال مالك عقار لدى مخاطبته اجتماع مجلسها القيادي في جبال النوبة، على "ضرورة قيام وحدة كنفدرالية بين السودان وجنوب السودان" (البيان، 29/8/2012).

(3)

لا بد من اتفاق الدولتين على اتحاد بينهما، أساسه سوق مشتركة، وعملة موحدة، وجنسية مزدوجة، ولو جزئيا، بحيث تكون للاتحاد أجهزة تخدم قضايا مشتركة يتفق عليها، تشرف عليها مفوضية يتفق على تكوينها، وتكون أبيي منطقة تمازج وعاصمة إدارية للاتحاد

تتطلب المبادرة اتخاذ إجراءات لا بد منها في مستويين:

أولاً- في المستوى الرسمي:
لا بد من اتفاق الدولتين على "اتحاد" بينهما، أساسه سوق مشتركة، وعملة موحدة، وجنسية مزدوجة، ولو جزئيا، بحيث:

– تكون للاتحاد أجهزة تخدم قضايا مشتركة يتفق عليها.
تشرف على عمل هذه الأجهزة مفوضية يتفق على تكوينها.
تكون لهذه المفوضية رئاسة وأمانة عامة تداوليتان يتفق عليهما.
تكون "أبيي" التي ينبغي أن تتمتع -بعد مشورة أهلها- بشكل يتفق عليه من الحكم الذاتي، سواء أتبعت إلى الجنوب أو إلى الشمال، منطقة تمازج وعاصمة إدارية للاتحاد.
يتفق الطرفان على تعميم الحريات الأربع (التنقل، و الإقامة، والعمل، التملك) داخل الاتحاد.
يتفق الطرفان بالنسبة لمن لن تشملهم الجنسية المزدوجة، على أن تمتنع "الدولة السَّلف" (Predecessor State) عن إسقاط جنسيتها عمن اكتسبوها أو استحقوها بالميلاد أو التجنس، قبل حصولهم بالاختيار على جنسية "الدولة الخلف" (Successor State)، تفادياً لخلق أي حالة "بدون" (Statelessness).
يتفق الطرفان بالنسبة لمن ستشملهم الجنسية المزدوجة، على مراعاة أولوية منحها لمجموعتين:
1- الشماليين الذين ارتبطت حياتهم عميقاً بالجنوب، والجنوبيين الذين ارتبطت حياتهم عميقاً بالشمال.
2- القبائل الحدودية من أقصى الغرب إلى أقصى الشرق، فإذا علمنا مثلاً أن قبيلة المسيريَّة الشمالية وحدها والموزعة على تسعة أفرع، ويبلغ عدد أفرادها زهاء 135 ألف شخص يمارسون الرعي بالأساس ويمتلكون عشرة ملايين رأس من الأبقار التي ترتبط حياتها بالتوغل وراء الماء والمرعى في موسم الجفاف، إلى الجنوب من بحر العرب وصولاً إلى بانتيو، لأكثر من ستة أشهر في السنة، وفي مناطق تتبع لقبيلة دينكا نقوك الموزعة على تسعة أفرع أيضاً، والبالغ عدد أفرادها زهاء 75 ألف شخص يمارسون الرعي أيضاً، إلى جانب الزراعة والتجارة في مدينة أبيي بالأساس، لاستطعنا أن ندرك حجم الخطر الذي يمكن أن ينجم غداً عن مجابهة هؤلاء الرعاة لحظر حركتهم هم وقطعانهم!

ثانياً- في المستوى الشعبي:
أن يجري دفع شعبي واسع في دولتي الشمال والجنوب، باتجاه تحجيم "الانفصال" ومحاصرته في مستوى "قمة الهرم الرسمي" فقط، بحيث لا تتأثر به "قاعدته الشعبية" إلا في أدنى الحدود.
أن يتم لأجل هذا، استنهاض حركة واسعة تستوعب النشاط المدني الهادف في  الدَّولتين، إلى توحيد الطموحات الشعبية وتوجيهها نحو غايات واحدة.
أن يجري في هذا الإطار بقدر الإمكان، وبحسب الحال، ولأجل الدعم النفسي باتجاه هذا الهدف، توحيد أو تنسيق جهود الاتحادات الديمقراطية لعمال البلدين ومهنييهما ونسائهما وطلابهما ورياضييهما وما إلى ذلك، وبالأخص ما يتصل من هذه الجهود بالتمثيل الخارجي.. إلخ. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.