الملف المعقّد في مسار إعادة بناء البيت الفلسطيني


undefined
 
بدأت في العاصمة الأردنية عمان اجتماعات اللجنة الفلسطينية المعنية بإعادة النظر بأوضاع منظمة التحرير الفلسطينية، وفق ما تم التوصل إليه في أعمال المصالحة في القاهرة، حيث يقدر لهذه اللجنة أن تجد أمامها ملفاً شائكاً ومعقّداً، يحتاج لجهود استثنائية من أجل وضع التصورات المطلوبة للسير على طريق إعادة بناء منظمة التحرير ودخول جميع القوى إلى عضويتها وتحديداً حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
 
فملف إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، وتطوير أوضاعها الداخلية، وتوسيع عضويتها، ودب روح الربيع العربي داخل كل مؤسساتها المجمدة والمهمشة، من أعقد الملفات التي تواجه مختلف الأطراف الفلسطينية خلال الفترة القادمة في سياقات تطبيق اتفاق المصالحة الوطنية.
 
فملف منظمة التحرير يعني الكثير، فهو يشكل الحجر السياسي الإستراتيجي في إعادة بناء المعادلة الفلسطينية التي تم إرساؤها عام 1968 بعد تشكيل ائتلاف المنظمة. فهل من أفق لإحداث اختراق حقيقي وجدّي على صعيد تذليل العقبات التي تعترض إعادة النظر في هذا الملف المعقد، أم إن الأمور ستبقى تراوح مكانها لمديات قد تكون بعيدة في ظل ابتعاد ما بات يسمى بـ(الربيع العربي) عن الحالة الفلسطينية عموماً لأسباب قد تكون موضوعية، ولأسباب مغايرة لما هو في الحالة العربية.
 
تتبع المسار
في البداية، لا بد من إعادة التذكير ببعض المعلومات الضرورية، اللازمة لتتبع مسار وأوضاع المنظمة. فقد نشأت منظمة التحرير الفلسطينية في 28 مايو/أيار عام 1964 بقرار عربي صدر عن قمة الإسكندرية بعد مخاض عسير، وبعد أن التقط الرئيس الراحل جمال عبد الناصر التحولات التي كانت تعتمل بين جموع الفلسطينيين في الشتات، وتحديداً في سوريا ولبنان والأردن، وفي الضفة الغربية وقطاع غزة اللتين لم تكونا قد وقعتا تحت الاحتلال.
 
فجاءت خطوة الرئيس جمال عبد الناصر لتستوعب تلك التطورات ولتبني عليها في سياق إعادة بناء الشخصية الوطنية والكيانية التمثيلية للشعب العربي الفلسطيني في إطار ما بات يعرف بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي استطاعت خلال عقد واحد فقط أن تحصد الاعترافات المتتالية العربية والدولية، وأن تدخل الأمم المتحدة باعتبارها الممثل الشرعي والكياني التمثيلي والتعبيري للشعب الفلسطيني، وهو إنجاز ضخم بكل المقاييس.
 

"
تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار عربي في ظل تحولات ومخاض فلسطيني استوجب ولادتها، فلعب الراحل أحمد الشقيري دوره المعروف في إعلان قيامها بتكليف عربي رسمي
"

إذا، لقد تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية بقرار عربي في ظل تحولات ومخاض فلسطيني استوجب ولادتها، فلعب الراحل أحمد الشقيري دوره المعروف في إعلان قيامها بتكليف عربي رسمي بعيداً عن (الهيئة العربية العليا لفلسطين) وهي ما تبقى من إطار مرجعي فلسطيني بعد النكبة، والتي كان يترأسها مفتي فلسطين المرحوم الحاج محمد أمين الحسيني في بيروت، وبحيث لم تكن المنظمة التي أسسها الشقيري لتضم في صفوفها أيًّا من القوى أو المجموعات الفلسطينية الحديثة العهد أو التي كانت تعمل في إطار من السرية أو التي كانت تعمل في إطار الأحزاب القومية العربية كحركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي.

 
وعليه، فقد اعتمد أحمد الشقيري في تشكيله للمنظمة ومؤسساتها -كاللجنة التنفيذية والمجلس الوطني- على الشخصيات الوطنية الفلسطينية المستقلة وعلى الكفاءات في مختلف المواقع الفلسطينية، بعضها من الشخصيات التقليدية ومن الوجوه الاجتماعية التي كانت جزءاً من الحركة الوطنية قبل النكبة.
 
أما التحول الرئيسي الأول في أوضاع منظمة التحرير الفلسطينية وفي عموم هياكلها ومؤسساتها، والذي تمثل في إعادة قولبتها، فقد تم بداية العام 1968 وعلى يد الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي سعى لإدخال فصائل المقاومة التي كانت قد باشرت العمل الفدائي المسلح، وقد لمع دورها وبات تجاهلها أمرا صعبا.
 
وبناء عليه فقد تم عقد لقاء القاهرة المركزي لكل القوى الفلسطينية الصاعدة في حينها في القاهرة في النصف الثاني من فبراير/شباط 1968، وتم بعده بأيام قليلة قيام أحمد الشقيري، القائد المؤسس للمنظمة، بتقديم استقالته وتنحّيه عن قيادة المنظمة وتسليم دفة قيادتها لفصائل العمل الفدائي الفلسطيني.
 
فتم الإعلان بعد ذلك عن قيامة جديدة لمنظمة التحرير في إطار ائتلاف وطني عريض استحوذت حركة فتح على قيادته، وقد ساهم في ذلك الائتلاف عدد من القوى الفلسطينية التي اندثر أكثرها وبقي منها فقط كلٌّ من: (حركة فتح، الجبهة الشعبية، القيادة العامة، منظمة الصاعقة، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني) وهي القوى التي أسست تاريخياً ائتلاف المنظمة، وإن استند في العقدين الأول والثاني من عمر المنظمة على "سيبة" ثلاثية كان قوامها (فتح + الجبهة الشعبية + منظمة الصاعقة) حتى العام 1982 تقريباً، فيما دخلت عضوية المنظمة بعض القوى التي ظهرت بعد فبراير/شباط 1968 كجبهة التحرير العربية، والجبهة الديمقراطية وصولاً إلى الوضع الراهن للمنظمة التي باتت تضم في عضويتها ( 12 فصيلاً وحزباً، هي: فتح، الجبهة الشعبية، القيادة العامة، الصاعقة، جبهة التحرير الفلسطينية، جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، جبهة التحرير العربية، الجبهة العربية الفلسطينية، حزب الشعب الفلسطيني، حزب الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني/فدا، الجبهة الديمقراطية، المبادرة الوطنية).
 
ائتلاف المنظمة
في تلك اللحظة بالذات، والمقصود عام 1968 في اجتماع القاهرة، التقطت حركة فتح اللحظة التاريخية، فأمسكت بزمام المنظمة وعملت على تشكيل ائتلاف بقيادتها بدعم مباشر من الرئيس عبد الناصر الذي فضل ياسر عرفات على جورج حبش، بالرغم من عاطفته المنحازة للدكتور جورج حبش بالمعنى السياسي والوطني والقومي. وجاء تفضيل عبد الناصر لعرفات على جورج حبش انطلاقاً من مرونة عرفات، وإمكانية قبوله بشكل أفضل في مجتمع إسلامي.
 
وعليه، لقد سيطرت حركة فتح منذ تلك اللحظة على ائتلاف منظمة التحرير الفلسطينية، واستثمرت سيطرتها على اللجنة التنفيذية للمنظمة وأبقتها رسمياً وفعلياً في صف رؤيتها وسياستها بالرغم من براقع "الديمقراطية" الشكلية التي لبست المنظمة لبوسها تحت عنوان (ديمقراطية غابة البنادق). وترتب على ذلك صراعات كبيرة وكثيرة استخدمت فيها حركة فتح نفوذها على مختلف الأطراف الفلسطينية، وخصوصاً منها التحكم بمقادير الإمكانيات المالية وغيرها.

 

"
المنطق الذي حكم أوضاع المنظمة واللعبة الداخلية في إطارها، ما زال هو المنطق والنهج ذاته المتمثل بالاستحواذ على القرار من جانب القوة الأساسية القائدة لهذا الائتلاف
"

وبالرغم من كل ذلك، فإن الصراعات الفلسطينية الداخلية وحتى الانقسامات وحتى الاشتباكات والاقتتال الداخلي الذي ميز الساحة الفلسطينية عموماً بعد الخروج من الساحة الأردنية والتموضع فوق الساحة اللبنانية، كان من السهولة بمكان السيطرة عليه، داخل أطر المنظمة التي تعرضت لعمليات محورة سياسية داخلها، لكنها كانت بعيدة عن الانشقاق الفعلي، وقادرة على الحفاظ على الحد الأدنى من التوافق والوفاق السياسي، لأسباب لها علاقة بالوجود العسكري على الأرض لكل القوى، ولها علاقة بطبيعة المرحلة إياها والتي امتدت إلى حين الخروج الفلسطيني الرسمي من لبنان نهاية العام 1982.

 
ولكن، ومن جانب أخر، إن المنطق الذي حكم أوضاع المنظمة منذ ذاك الزمن وحتى الآن، واللعبة الداخلية في إطارها، ما زال هو المنطق والنهج ذاته، المتمثل بالاستحواذ على القرار من جانب القوة الأساسية القائدة لهذا الائتلاف. وقد زاد من هذا النهج أن القوى الفلسطينية ذاتها كانت أسيرة أمراض مزمنة لها علاقة بأوضاعها ولها علاقة بركضها وهرولتها باتجاه القبول بمنطق المحاصصة وتقاسم الكعكة، وهو المنطق الذي أسس حضور بعضها وساعد على عدم إلغائها، باندماجها مع قوى ثانية أو بتفككها كما حصل مع بعض القوى التي نشأت أواخر ستينيات القرن الماضي كالجبهة الثورية لتحرير فلسطين، والهيئة العاملة لتحرير فلسطين، ومنظمة (ج ت ف) بقيادة حسن الصباريني، وكتائب النصر الفدائية بقيادة العقيد طاهر دبلان… إلخ.
 
تعدد القطبية بدلاً من القطب الواحد
وفي الوقت الراهن، إن النقد القاسي، لأوضاع المنظمة، يعبر في تجلياته عن الحرص الأساسي عليها وعلى مكانتها كإنجاز تاريخي، وعلى دورها الكياني التمثيلي والتعبيري لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، فالمنظمة تمثل كل الشعب والسلطة تمثل الشعب الفلسطيني في الضفة والقدس والقطاع.
 
إن معضلات ملف منظمة التحرير وإعادة بنائها، تنبع أولاً من وجود قوة كبرى باتت موازية في ثقلها وحضورها لقوة وحضور حركة فتح في المجتمع الفلسطيني في الداخل والشتات، وتراجع وجود قطبية أحادية لصالح قطبية ثنائية فلسطينية، وهو أمر بات يقتضي معه مغادرة منطق اللعبة القديمة داخل المنظمة، مع إدراكنا لغياب وتراجع دور القطب القومي واليساري الذي لم يستطع أن يكرس حضوره المؤثر في المعادلة الداخلية للمنظمة بالرغم من دور فصائل التيار القومي واليساري في العمل الفدائي والسياسي الفلسطيني خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
 
إن أوضاع مختلف الفصائل وسعيها للحصول على مكتسبات تنظيمية خاصة بها من قبل المنظمة كالمخصصات المالية وغيرها، دفع بعضها وللأسف إلى قبول دور (البصيم) الذي لا حول ولا قوة له سوى القبول بالوضع الراهن، بالرغم من العويل والصراخ السياسي الناقد من قبل معظم تلك الفصائل، وهو عويل وصراخ لا رصيد له على أرض الواقع.
 
إن عقبات هائلة تعترض ملف إعادة بناء وإصلاح المنظمة، وفي طليعتها مسألة إحلال الديمقراطية في بنية المنظمة ذاتها بدلاً من سياسات "الكوتا" والمحاصصة والتعيين، وانتخاب مجلس وطني (برلمان) حقيقي يعبر عن الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، بدلاً من سياسات التعيين الفوقية، التي ليست سوى سياسة فكفكة وتركيب لا علاقة لها بالناس في الشارع الذين أعطوا المنظمة أنهار الدماء والضحايا ومكّنوها من الصعود والارتقاء.
 
لقد آن الأوان لإلغاء مبدأ التعيين وإحلال صندوق الاقتراع في تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير، وهو برلمان الشعب الفلسطيني الموحد في الداخل والشتات، ليصبح أمر إلغاء منطق المحاصصة أمراً تلقائياً، مع فتح الطريق للمشاركة الفعلية للجميع وفقاً لحضوره ووزنه على الأرض في برنامج ائتلافي وطني.
 
مشكلة الفصائل الأربعة
ومن جانب آخر، تبرز الآن على السطح مشكلة إضافية لها علاقة بملف المنظمة، وهي المشكلة الناتجة عن وجود عدة أطراف فلسطينية تحمل الاسم ذاته، وقد نتجت تلك الازدواجية عن انشقاقات في صفوف تلك الفصائل، وقد تكرست هذه الانقسامات مع ظهور اتفاق أوسلو، وأصاب جبهة النضال الشعبي التي برز منها جناحين على الجانبين، جناح بقيادة خالد عبد المجيد وجناح بقيادة أحمد مجدلاني، وكذلك جبهة التحرير الفلسطينية التي باتت بين جناحين:  جناح واصل أبو يوسف وجناح علي إسحق، فيما خط الحزب الشيوعي الثوري طريقاً مختلفاً عن حزب الشعب وميز نفسه باسم جديد. بينما بقيت حركة فتح/الانتفاضة محتفظة باسم حركة فتح دون أن تميز نفسها باسم مغاير.
 

"
تبرز على السطح مشكلة لها علاقة بملف المنظمة، وهي المشكلة الناتجة عن وجود عدة أطراف فلسطينية تحمل الاسم ذاته، وقد نتجت تلك الازدواجية عن انشقاقات في صفوف تلك الفصائل
"
وعليه، فإن حل مشكلة الازدواجية عند تلك الفصائل، وقد حلت بحدود معينة بين طرفي جبهة النضال بحيث يصبح الجناح الأول تحت اسم جبهة النضال الشعبي، والجناح الثاني تحت اسم جبهة النضال الوطني. في الوقت الذي حلت فيه مشكلة الحزب الشيوعي الذي ميز نفسه عن الحزب الأم. فيما بقيت مشكلتا حركة فتح/الانتفاضة بقيادة الكولونيل سعيد موسى (أبو موسى) التي ترفض تغيير اسمها. كذا الحال في جبهة التحرير الفلسطينية حيث يرى جناح علي إسحق أن خياره يكمن في إعادة توحيد الجبهة في جسم واحد.
 
إن حل مشكلة تلك الفصائل سيفتح الطريق أمام إنهاء ازدواجيتها، وترتيب دخول الجديد منها إلى صف منظمة التحرير إضافة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي. ومع ذلك فإن المهمة إياها ليست مهمة سهلة بل مشكلة (عويصة) يحتاج حلها لمواقف وطنية سامية من قبل قيادات تلك الفصائل المنقسمة على ذاتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.