السودان وثورته الهادئة


undefined
 
يلاحظ الزائر للعاصمة السودانية الخرطوم أنها تعيش حالة من الترقب والانتظار. فقوى المعارضة السياسية تنتظر قدوم الربيع العربي إلى السودان، ربما لينقذها من حالة الوهن الذي تعيشه. وفي نفس الوقت تسود صفوف الحركة الإسلامية السودانية المؤيدة للرئيس البشير حالة من الضيق الكامن، والذي يعبر عن نفسه أحياناً وذلك للمطالبة بخريطة طريق واضحة لإنقاد الدولة السودانية.
 
ولعل الدكتور حسن الترابي -زعيم المؤتمر الشعبي المعارض- يكون هو الأكثر تعبيراً عن حالة الحراك السياسي تلك التي يشهدها السودان منذ نحو عام. فالرجل الذي لا يمل من انتظار العودة إلى السلطة يتمنى حدوث ثورة شعبية سلمية على غرار ثورات الربيع العربي في مصر وتونس وغيرها من البلدان العربية، وذلك من أجل وضع حد لتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية في السودان.
 
لقد أدركت أثناء زيارتي الأخيرة للسودان وحواراتي مع عدد من المثقفين والكتاب وجود حالة من القلق على مستقبل الأمة السودانية بعد انفصال الجنوب. ولعل أبرز التساؤلات المطروحة تتمثل في مدى إمكانية تداعي وانهيار أطراف الدولة في الغرب والشرق والمناطق الحدودية، وما هو العمل الذي يتوجب على الطبقة السياسية الحاكمة القيام به للوصول بالبلاد إلى مخرج آمن يحمي وحدتها الوطنية. وهذا ما نحاول أن نطرحه ونجيب عليه في هذا المقال.
 

"
شهد السودان في عام 2011 خمسة أحداث فارقة كان لها تداعيات خطيرة لا يمكن تجاهلها في مسيرة التطور السياسي والاجتماعي, وجعلت الحالة السياسية تراوح مكانها وباتت حكومة الإنقاذ في حاجة إلى من ينقذها
"

عام من التحولات الفارقة

لقد شهد السودان في عام 2011 خمسة أحداث فارقة كان لها تداعيات خطيرة لا يمكن تجاهلها في مسيرة التطور السياسي والاجتماعي لأهل السودان. تمثل أول هذه الأحداث في تصويت مواطني الجنوب في الاستفتاء على حق تقرير المصير لصالح الانفصال، وهو ما أدى إلى إعلان دولتهم المستقلة بالتبعية في 9 يوليو/تموز2011.
 
أما الحدث الثاني فإنه يرتبط بانفجار الأوضاع في ولاية جنوب كردفان. ففي أعقاب خسارته في انتخابات حاكم الولاية التي أجريت في أبريل/نيسان 2011 أعلن عبد العزيز الحلو تمرده على الحكومة ولجوءه إلى المناطق الحدودية مع دولة جنوب السودان، ولعل خطورة هذا التمرد أنه يعيد إنتاج حالة التمرد المسلح مرة أخرى في السودان بعد انفصال جنوبه.
 
ويبدو أن الحدث الثالث كان في ظاهره الرحمة وباطنه العذاب. ففي 20 يونيو/حزيران 2011 وقعت الحكومة السودانية اتفاقين مع الحركة الشعبية لتحرير السودان، كان أولهما يتعلق بمنطقة أبيي، أما الثاني فيتعلق بقضايا جنوب كردفان، والنيل الأزرق، ووضع الحركة الشعبية في شمال السودان. وعلى الرغم من وساطة رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو مبيكي ودعم الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة لهذين الاتفاقين فإنهما لم يمنعا من انفجار الأوضاع الأمنية والعسكرية في المناطق الحدودية، إذ أنه بعد ذلك بعدة أشهر أعلن مالك عقار والي النيل الأزرق تمرده هو الآخر، ولجأ إلى مدينة الكرمك التي تمكنت القوات الحكومية من استعادتها في أكتوبر/تشرين الأول 2011 عشية عيد الأضحى المبارك. ولا يزال مالك عقار الذي فر إلى جنوب السودان يقود حملات تمرد مسلحة ضد الجيش السوداني حتى اليوم.
 
ويأتي رابع هذه الأحداث متمثلاً في ولادة حكومة السودان الموسعة التي كانت نتاج عملية تفاوض لعدة أشهر مع أحزاب المعارضة. على أن التشكيلة الحكومية كانت مخيبة لآمال وتطلعات السودانيين بشكل عام، فهي لم تضم القوى السياسية الرئيسية باستثناء الحزب الاتحادي الديمقراطي.
 
وعليه فقد راوحت حالة السودان السياسية مكانها وباتت حكومة الإنقاذ في حاجة إلى من ينقذها. وقد جاء خامس الأحداث المهمة غير متوقع في نهاية العام الماضي حيث تم الإعلان عن مقتل زعيم حركة العدل والمساواة الدكتور خليل إبراهيم، وهو ما يفضي إلى تأثيرات واضحة على مستقبل الصراع في دارفور.
 
مقدمات الربيع السوداني
يرى كثير من المراقبين أن السودان بتاريخه الثوري والنضالي يختلف في خبرته بعد الاستقلال عن تجارب دول عربية أخرى مثل مصر وليبيا وتونس. فقد عانى أهل السودان من تغير وتبدل أنظمة الحكم وهيمنة العسكر، ومن صراع الأهواء والرؤى في عالم السياسة.
 
ويذهب هؤلاء إلى القول بأن دخول السودان موجة الربيع العربي في الوقت الراهن يبدو أمراً صعب المنال. وثمة أسباب عديدة تقف وراء هذا التفسير لعل من أبرزها حالة اللامبالاة السياسية بين كثير من المواطنين، وسطوة الذراع القوية لأجهزة الأمن والاستخبارات، وعدم انتشار شبكات التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت، وهو ما يعني افتقاد وجود شريحة كبيرة ومنظمة من الشباب تجيد التعامل مع الإنترنت وتسعى إلى قيادة عملية التغيير السلمي في السودان.
 
ومع ذلك فإن ثمة مجموعة من التحديات الخطيرة التي تفرض ضرورة التغيير وإحداث اختراق حقيقي في المشهد السياسي السوداني الراهن. وأحسب أن جملة هذه التحديات تمثل مقدمات لعملية تغيير ثوري قد تحدث فجأة بلا ناظم أو ضابط لحركتها وقد تقودها الطبقة السياسية الحاكمة حفاظاً على وحدة الأمة وتفادياً لخطر الانقسام والانهيار. ولعل من أبرز تلك التحديات ما يلي:
 

"
أعباء المعيشة لا يكاد يطيقها المواطن السوداني العادي حيث ارتفعت أسعار السلع والوقود والمواد الغذائية, فضلا عن تفشي الفساد ولا سيما في صفوف الكوادر الإدارية والحزبية
"

التحدي الاقتصادي:

حيث فقد السودان معظم عوائده النفطية بعد انفصال الجنوب وهو ما أدى إلى زيادة نسبة التضخم وزيادة نسبة العجز في الموازنة العامة للدولة. ونظراً للحصار الأميركي والغربي الظالم على السودان فإن أعباء المعيشة لا يكاد يطيقها المواطن العادي حيث ارتفعت أسعار السلع والوقود والمواد الغذائية. إضافة إلى ذلك فقد تفشى الفساد ولا سيما في صفوف الكوادر الإدارية والحزبية.

 
التحدي الأمني: وهو ما يتمثل في خطورة الفوضى القادمة من الأطراف. فعملية سلام دارفور التي ترعاها الدوحة لا تزال هشة وتواجه عراقيل كثيرة حيث لا تزال بعض القوى المؤثرة وعلى رأسها حركة العدل والمساواة تحمل السلاح وتصر على تغيير النظام في الخرطوم.
 
أما في المناطق الحدودية الجنوبية ولا سيما جنوب كردفان وجبال النوبة والنيل الأزرق فقد تم إعادة إنتاج حركات التمرد المسلحة مرة أخرى. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن قبائل البجا ومناطق شرق السودان تعيش حالة من الصراع الكامن لتبين لنا أن ثورة أبناء النوبة في شمال السودان والتي حملت في أحد تجلياتها بعدا تاريخيا برفعها راية "جبهة تحرير كوش" تدفع باتجاه تداعي وانهيار أطراف الدولة السودانية.
 
التحدي السياسي: فالنخبة السياسية لا تزال منقسمة على نفسها وتفتقد الرؤية الموحدة التي تحدد مستقبل الدولة السودانية بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية. فثمة إدراك عام بأن حكومة الرئيس البشير تحاول الاستئثار بالسلطة على حساب المصلحة الوطنية العامة، فالقوى السياسية الرئيسية مثل حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي وكذلك حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي، والأهم من ذلك قوى التمرد القديم والجديد في دارفور والمناطق الحدودية لا تزال خارج معادلة السلطة وهو ما يعني أن صياغة دستور توافقي جديد للسودان عملية محفوفة بالمخاطر.
 
التحدي الدولي والإقليمي: فثمة إعادة صياغة جيوإستراتيجية جديدة لمناطق الجوار الجغرافي المتاخمة للسودان في شرق أفريقيا وشمالها, وهذه التغيرات تمثل في معظمها خصماً إستراتيجياً من مكانة السودان، بل وفي بعض الأحيان تهديدا لأمنه القومي بشكل مباشر، كما أن الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لا تزال تخشى من القناعات الفكرية والتوجهات الإسلامية لنظام البشير فتمارس عليه أقسى أنواع الضغط، ليس أقلها سيف المحكمة الجنائية الدولية المسلط دوما على رقبة الرئيس البشير.
 
البشير والخروج الآمن للسودان
ربما يكون من المسكوت عنه في السودان، والذي قد تجاهر به أحياناً قوى المعارضة السياسية أن الرئيس البشير هو جزء من مشكلات السودان المعقدة.
 
فالبعض يرى أنه يلوذ بالسلطة حماية له من الجنائية الدولية، وهذا الأمر يمثل في جوهره تضحية بمصالح الأمة وتعريضها لخطر الانهيار والتجزئة. إن السودان بحاجة إلى نوع من التفكير الجديد خارج إطار تجاذبات النخب التقليدية المنتظرة بفارغ الصبر العودة لدفء السلطة وبريقها.
 
ولا شك أن بديل الفوضى القادمة من أطراف الدولة السودانية هو تبني أحد الحلول الثورية التي تطرح خروجاً آمناً للرئيس البشير وخروجاً آمناً بالدولة السودانية لبر السلام.
 
إنه بإمكان الرئيس البشير أن يكون جزءاً من الحل عوضاً عن أن يكون جزءاً من المشكلة. في هذه الحالة يمكن للرئيس بعيداً عن جناح الصقور في حزب المؤتمر الوطني الحاكم أن يقود بنفسه عملية توافقية لبناء نظام ديمقراطي حقيقي في السودان على أساس التعددية والمواطنة المتساوية والعدالة في التوزيع.
 
وأحسب أن هذه العملية التفاوضية لن تقل في أهميتها عن اتفاق السلام الشامل الذي أنجزه الرئيس البشير مع الجنوب بقيادة الراحل جون قرنق. ويتطلب ذلك استيعاب كافة القوى السياسية الفاعلة في السودان بما في ذلك تلك التي تحمل السلاح في مواجهة حكومة الخرطوم.
 
وفي هذه المرحلة يتم الاتفاق على حكومة إنقاذ وطني حقيقية تمثل كافة القوى الرئيسية والمناطق المهمشة تقليدياً في السودان، على أن تتولى هذه الحكومة إدارة حوار مجتمعي حول خارطة طريق المرحلة الانتقالية ووضع دستور جديد للسودان.
 

"
لحل المعضلة يمكن ربط الخروج الآمن للرئيس البشير من السلطة وضمان عدم ملاحقته قضائيا في الداخل أو الخارج بمدى تحقيق تقدم ملموس على صعيد نقل السلطة لحكومة مدنية منتخبة في السودان
"

صحيح أن ثمة قضايا بالغة التعقيد ينبغي التفاوض عليها في الدستور الجديد مثل قضايا الهوية والدين والمواطنة والنظام الانتخابي وشكل نظام الحكم وانتخاب رئيس الجمهورية وطبيعة النظام الفدرالي وهلم جراً. وتلك هي القضايا الجديرة بالنقاش والحوار وليس الحديث عن مستقبل الرئيس البشير، أو من الذي يقود السودان في المرحلة القادمة.

 
ويمكن للرئيس البشير أن يقود عملية تفاوضية أخرى مع الولايات المتحدة والدول الغربية وبمساعدة من الجامعة العربية والاتحاد الأفريقي وذلك من أجل تجميد قرار إحالته للمحكمة الجنائية الدولية ورفع العقوبات المفروضة على السودان.
 
وفي هذه الحالة يمكن ربط الخروج الآمن للرئيس البشير من السلطة وضمان عدم ملاحقته قضائيا داخل السودان أو خارجه -في حالة أشبه بالمبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية- بمدى تحقيق تقدم ملموس على صعيد نقل السلطة لحكومة مدنية منتخبة في السودان. 
 
إن عملية الإصلاح من الداخل -والتي يقودها الرئيس البشير بنفسه- تجعل من السودان نموذجاً مختلفاً للربيع العربي. ولكن ذلك بحاجة إلى دعم ومساندة خارجية للتوصل إلى تسوية سلمية لكافة النزاعات المسلحة في السودان. وهذا شرط لازم لتحقيق الإصلاح والتحول الديمقراطي اعتماداً على متغيرات وعوامل نابعة من الداخل السوداني نفسه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.