في بناء النظم الديمقراطية العربية
تقييد سلطة الحكام العرب
تعزيز فعالية النظام الحزبي العربي
تعزيز سلطة المواطنين
تهتم هذه المقالة بكيفية معالجة النظم السياسية المنشودة لمسألتي الإرث الاستبدادي والحالة الثورية، أي بالآليات والقواعد الدستورية والقانونية والترتيبات المؤسسية التي تضمن تحقيق مطالب الشعوب في شأنهما.
" عملية بناء النظام السياسي الجديد لا بد أن تبدأ من واقع المجتمع ذاته وأوليات المرحلة التاريخية الراهنة، ولا بد أن تمر بتجارب الدول الأخرى للاستفادة وأخذ الدروس والعبر " |
وعملية البناء هذه ليست مجرد عملية نقل من الآخرين أو اختيار نظام من بين أنظمة الحكم المعروفة (الرئاسية، والبرلمانية، وشبه الرئاسية، والتوافقية). لا بد أن تبدأ هذه العملية من واقع المجتمع ذاته وأوليات المرحلة التاريخية الراهنة، ولا بد أن تمر بتجارب الدول الأخرى للاستفادة وأخذ الدروس والعبر، وتنتهي بترجمة أهداف التحركات الشعبية ومطالب الشعب إلى ترتيبات مؤسسية وأطر قانونية ودستورية وسياسية تشكل مجتمعة ملامح النظام السياسي الديمقراطي المنشود.
ولا شك أيضا أن عملية البناء هذه لن تخترق الخصائص المشتركة لنظم الحكم الديمقراطي التي ثبت نجاحها في الغرب وخارج الغرب، وهي: حكم القانون ومساواة الكل أمامه، الشعب مصدر السلطة فهو الذي يختار حكامه ويحاسبهم ويقيلهم عند الضرورة، المواطنة والمساواة في التمتع بالحقوق والالتزام بالواجبات، وتمكين الشعب من المشاركة في العمل العام عبر الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني وخلافه. أما ما عدا هذا الجوهر فإن تفاصيل كل نظام سياسي ديمقراطي تختلف من دولة إلى أخرى باختلاف المرجعيات والأولويات والأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
يمكن أن تنطلق جهود معالجة الإرث الاستبدادي من تعريف الديمقراطية من حيث هي ترتيبات مؤسسية وآليات لضمان الحكم الصالح عن طريق تقييد سلطة الحكام وتعزيز مشاركة الجماهير في الشأن العام.
ويأتي على رأس هذه الآليات والترتيبات استقلال القضاء عن السلطتين التنفيذية والتشريعية استقلالا تاما، وقيامه بدور الرقابة القضائية في تقييد سلطة الحكام من خلال دور مجلس الدولة والقضاء الإداري في الرقابة على مشروعية أعمال السلطة التنفيذية ومنع تعسف الإدارة في تنفيذ القوانين، ودور المحكمة الدستورية العليا في الرقابة على دستورية القوانين للحيلولة دون مخالفة البرلمان نصوص الدستور، مع إعطاء الرئيس والحكومة وثلث أعضاء البرلمان والأفراد الحق في الذهاب إلى المحكمة الدستورية.
أما ثاني هذه الترتيبات فهو تجنب النظم الرئاسية على النمط الأميركي، فهي لا تصلح للدول العربية نظرا للإرث الفردي والخوف من تشكيل مراكز نفوذ جديدة حول الرئيس الجديد. ولهذا فقد يكون تبني النظام شبه الرئاسي هو الأنسب نظرا لحاجة هذه الدول إلى انتقال سلمي واضح للسلطة لرئيس منتخب، وحاجتها، في ذات الوقت، إلى تقسيم السلطة التنفيذية بين الرئيس المنتخب والوزارة التي يجب أن يشكلها حزب (أو أحزاب) الأغلبية في البرلمان الذي يقوم بدوره بمراقبة أعمال الوزارة، ومع تحديد واضح لصلاحيات كل من الرئيس والوزارة.
" قد يكون من الأهمية لبعض الدول أن تتطور لاحقا إلى النظام البرلماني الذي تبنته معظم الدول التي مرت بحالات انتقال ديمقراطي ناجحة في العقود الأربعة الماضية، فهو الأفضل في تطوير حياة ديمقراطية حقيقية " |
ويمكن الاستفادة من النظام في جنوب أفريقيا الذي ينتخب فيه البرلمان رئيسا للدولة من بين أعضائه (بدلا من انتخابه مباشرة من الشعب)، ويقوم الرئيس بمهام الرئيس ومهام رئيس الوزراء فهو الذي يشكل الحكومة ويكون هو ووزراؤه مسؤولين أمام البرلمان، ويجوز سحب الثقة منهم.
وقد يساعد تبني نظام الغرفتين في البرلمان على الحد من شطط المجلس الواحد واندفاعه، كما في الولايات المتحدة وألمانيا وسويسرا وغيرها. على أن تكون للغرفة الثانية صلاحيات قوية وطريقة مختلفة لانتخاب أعضائها.
تعزيز فعالية النظام الحزبي العربي
ومن جهة أخرى، يمكن تعزيز دور الشباب والمواطنين في الحياة السياسية من خلال تبني أمرين: إقامة نظام انتخابي فعال ونظام حزبي فعال. فبعد سنوات من هيمنة الأحزاب الواحدة، فإن النظام الانتخابي المناسب لضمان أكبر قدر من تمثيل كافة فئات المجتمع هو نظام القائمة النسبية المغلقة، الذي يعطي كل قائمة حزبية عددا من المقاعد يتناسب مع نسبة الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات.
ويحد هذا النظام من سطوة المال السياسي والعصبيات العائلية والقبلية إذ لا يختار الناخبون شخصيات محددة كما في نظام الأغلبية وإنما يختارون قوائم حزبية تعبر عن برامج سياسية حزبية أو ائتلافية. وفي هذا تقوية للأحزاب الوليدة وتعزيز لوعي المواطنين ومشاركتهم في مناقشة البرامج السياسية.
" النظام الانتخابي المناسب لضمان أكبر قدر من تمثيل كافة فئات المجتمع هو نظام القائمة النسبية المغلقة، الذي يعطي كل قائمة حزبية عددا من المقاعد يتناسب مع نسبة الأصوات التي حصلت عليها في الانتخابات " |
ولا شك أن الطابع الاندماجي للأحزاب والبعد عن الإقصاء والطائفية والمذهبية أو الجهوية أمر مهم للغاية في مجتمعاتنا، فالأحزاب منظمات سياسية في المقام الأول، وتوفر الديمقراطية منظمات أخرى لخدمة المطالب الخيرية أو الفئوية أو الطائفية كجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني والأهلي وغيرها.
وهناك ترتيبات مؤسسية لمواجهة احتمال أن يؤدي نظاما القائمة النسبية والتعددية الحزبية إلى تشكيل حكومات ائتلافية ضعيفة (تونس بها أكثر من مائة حزب، ومصر نحو خمسين حزبا)، يمكن القول بداية إنه ليس شرطا أن يؤدي نظام القائمة النسبية إلى حكومات ائتلافية والمثال الأبرز هنا هو جنوب أفريقيا إذ حصل حزب المؤتمر الأفريقي على 264 مقعدا من المقاعد الـ400 للجمعية الوطنية، وعلى 62 من مقاعد المجلس القومي للمقاطعات البالغ عددها 90 مقعدا.
وبجانب أن الممارسة الديمقراطية ستؤدي إلى عدد أقل من الأحزاب إذ ستختفي أحزاب وتأتلف أحزاب أخرى مع بعضها البعض، فإن هناك ترتيبات مؤسسية ودستورية يمكن من خلالها تشجيع توافق الأحزاب وتقاربها قبل الانتخابات وداخل البرلمانات. فبجانب نظام اللجان السابق الإشارة إليه، هناك نظام القوائم غير المشروطة التي تسمح بتحالف الأحزاب وبدخول مستقلين، ويمكن منح حوافز مالية وإعفاءات ضريبية للائتلافات الحزبية. كما يمكن رفع نسبة الحسم لدخول البرلمان تشجعيا للتحالفات الانتخابية وقت الانتخابات.
ولمعالجة تشكك بعض الشباب في العمل الحزبي، يمكن التفكير في وسائل أخرى لتمكين الشباب، والمواطنين بشكل عام، من ممارسة السلطة، عن طريق تبني النظم الجديدة بعض مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة، والتي هي آلية واحدة من آليات جعل الشعب سلطة رابعة.
" تسهم الديمقراطية شبه المباشرة في إعادة ثقة الناس بالسياسة، وفي تسييس المواطنين ودفعهم إلى الاهتمام بالشأن العام وزرع الأمل فيهم بإمكانية تغيير السياسات والأشخاص " |
يحتاج الأمر تدابير قوية لضمان الجدية ولمنع إساءة الاستخدام، كأن يشترط عدد كبير من التوقيعات، نسبة 10% أو 15% مثلا من إجمالي أصوات آخر انتخابات، وتحديد مدة زمنية محددة لجمع التوقيعات، واشتراط عدم تكرار نفس الموضوع خلال سنة أو سنتين وتوزيع التوقيعات على المحافظات.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.