الخليج والدور الياباني الجديد

الخليج والدور الياباني الجديد


 
 
يمكن أن نفترض اليوم أن مسارا جديدا قد بدأ للسياسة اليابانية في الخليج، مسار انتقلت فيه اليابان من موقع البائع والمشتري إلى موقع  الشراكة الاقتصادية، بالمعنى النظامي للمصطلح. وبالتوازي مع هذا المسار، خطت اليابان خطوات أولية على طريق تأكيد حضورها في معادلة الأمن الإقليمي في الخليج؛ وفي هذا تطوّر تاريخي دون ريب.
 
وفيما يشبه الدبلوماسية الشعبية، شهدت المنطقة في الفترة الأخيرة، زيارة الكثير من الوفود اليابانية في مجالات واختصاصات مختلفة، تحركت باتجاه  هدف واحد، هو تعزيز الشراكة على كافة المستويات.
 
وفي المجمل، أصبحت اليابان أحد اللاعبين الأساسيين في الخليج، المؤثرين في تفاعلاته المدنية على وجه الخصوص.

ومنذ سنوات، بدت العلاقات الخليجية اليابانية وقد أخذت حيزا مهما من النقاش السياسي والإستراتيجي في اليابان والمنطقة، على حد سواء. وأضحت هذه العلاقات موضع اهتمام الكثير من الخبراء والباحثين.
  يتمثل المسار الجديد لخيارات اليابان الاقتصادية في المنطقة، في تغليب الطابع الاستثماري، وتأسيس المشاريع المشتركة. وقد تزايد عدد الشركات الهندسية العاملة في الخليج، وبلغ مستويات متقدمة، وتمكنت هذه الشركات من تنفيذ مئات المشاريع في دول المنطقة.
 
وبموازاة ذلك، بدأت اليابان سياسة جديدة مع دول الخليج، تقضي بإنشاء مجمعات تخزين مشتركة للنفط في الجزر اليابانية، يمكن لليابانيين استخدامها في حالات الطوارئ، كما يمكن لدول الخليج الاستفادة منها في تسويق النفط في الدول المجاورة، في شرق وجنوب شرق آسيا.
 
وفي مكان آخر من الخليج العربي، أضحت اليابان أحد أكبر المستثمرين في البنية التحتية للعراق، وأحد أبرز المانحين الماليين له. وفي المجمل، فإن النشاط الاستثماري الياباني غطى تقليديا كافة دول الخليج، بما فيها العراق وإيران.
 
في دول الداخل الخليجي، أي أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أنجزت الشركات اليابانية سلسلة طويلة من المشروعات الكبيرة، شملت صناعة النفط والغاز والبتروكيماويات والألمنيوم والاتصالات والإنشاءات.
 

"
يتمثل المسار الجديد لخيارات اليابان الاقتصادية في الخليج في تغليب الطابع الاستثماري، وتأسيس المشاريع المشتركة, حيث تمكنت من تنفيذ مئات المشاريع في دول المنطقة
"

وقد علمت من أحد الخبراء اليابانيين في البحرين، أن اليابان بصدد التفكير في تأسيس "بيت خبرة" في منطقة الخليج، تنضم إليه مجموعة من الخبراء اليابانيين المتقاعدين، وذلك بهدف تقديم المشورة إلى دول الخليج في المجالات الصناعية والزراعية والعلمية عامة.

 
 كما علمت من هذا الخبير أن بلاده تعتزم، في يوم ما، تشييد مصفاة لتكرير النفط في الخليج، بهدف تكرير الخام الذي تشتريه من دول المنطقة، أو جزء رئيس منه، ونقله مكررا إلى اليابان، حيث ستوفر بذلك خفضا مضاعفا للتكلفة، إذ إن الكلفة التشغيلية للمصفاة في الخليج تقل كثيرا عن كلفتها في اليابان، كما أن تكاليف الشحن ستنخفض بالضرورة في هذه الحالة.
 
على صعيد الاستثمارات والاتفاقات اليابانية الخليجية الجديدة، يتوقع أن يبدأ تجميع سيارات إيسوزو اليابانية في السعودية بحلول العام 2013، فقد وقعت شركة إيسوزو اتفاقية تشييد مصنع خاص لهذا الغرض في المنطقة الشرقية من المملكة، بكلفة تصل إلى حوالي 200 مليون دولار.
 
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2009، فاز ائتلاف مكون من شركة جيه.جي. سي اليابانية، وشركة تكنيمونت الإيطالية بعقد قيمته 4.7 مليارات دولار، لإنجاز مصنع لمعالجة الغاز في أبوظبي، تقرر أن ينجز بحلول الفصل الثالث من العام 2013.

 
وقد دخلت السوق الإماراتية أكثر من 20 شركة يابانية في العام 2010، وهناك نحو 350 شركة يابانية تمارس أعمالها في الإمارات، منها 280 شركة تتركز في دبي.
 
على صعيد آخر، كانت شركة جيه جى سى اليابانية قد أعلنت، في يوليو/تموز 2009، عن فوزها بعقد لتوريد معدات لمعالجة النفط الخام في السعودية، وحصلت هذه الشركة كذلك على عدد من المشروعات الكبيرة الأخرى في المنطقة، منها مشروع في الكويت، لبناء ما اعتبر أكبر مصنع لإنتاج النفط في الشرق الأوسط. 
 
في البحرين، ساهمت الشركات اليابانية في مشاريع صناعية عدة، مثل محطة الحد المستقلة لتوليد الطاقة والمياه، ومحطة تحلية المياه في منطقة رأس أبوجرجور. وفي مجال الأعمال النفطية، ساهمت إحدى الشركات اليابانية في إنشاء مصفاة للنفط منخفضة الكبريت لمصلحة شركة نفط البحرين (بابكو).
 
كذلك، قامت شركة ياماتو كوجيو ببناء شركة "صلب" لتصنيع الفولاذ، كمشروع مشترك مع شركة فولاذ، التي تخطط لبناء مصنع بقدرة تصنيعية تصل إلى 1.5 مليون طن من الصلب سنويا.
وستتولى عملية تشييد المصنع شركة كوبي للصلب (كوبيلكو) اليابانية، التي قامت ببناء مصنع تكوير الحديد الحالي التابع لشركة الخليج للاستثمار الصناعي، والذي ينتج 6 ملايين طن من كريات الحديد سنويا.
ويبلغ عدد الشركات اليابانية العاملة في البحرين 17 شركة، منها 5 شركات تعمل في القطاع المالي، و3 شركات مصنفة كشركات تجارية، و9 شركات مصنفة كشركات صناعية.
 

في الدوحة، وقعت شركة قطر للبترول مع شركة جي إكس نيبون اليابانية، في مايو/أيار الماضي، اتفاقية استكشاف ومشاركة بالإنتاج للمنطقة الاستكشافية (A) (طبقات ما تحت الخف)، حيث ستقوم الشركة بدور المقاول والمشغل. وتبلغ المدة الإجمالية للاتفاقية ثلاثين عاما، تبدأ بفترة خمسة أعوام مخصصة للمرحلة الاستكشافية الأولى.
 
ثانيا: حركة التبادل التجاري
 على صعيد التبادل التجاري، ظلت اليابان محتفظة -في أغلب الفترات- بموقعها كأكبر شريك تجاري لدول الخليج العربي، خاصة أقطار مجلس التعاون الخليجي؛ وهي قد أزاحت أوروبا لسنوات عن هذا الموقع.
وبحسب تقرير أصدرته هذا العام منظمة "أونكتاد" فإن 17% من صادرات دول الخليج تذهب إلى اليابان، أي ما يعادل نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي الخليجي.
 
وتتصدر الإمارات الدول الخليجية من حيث حجم الصادرات إلى اليابان، إذ تمثل 36% من الإجمالي، تليها السعودية بـ30%. لكن اليابان تستحوذ على 40% من الصادرات القطرية، أي 15% من الناتج، مما يجعل قطر الدولة الأكثر ارتباطا بهذه الصادرات بين دول الخليج.
 
وفي أحدث المؤشرات التجارية، ارتفع التبادل التجاري بين اليابان ودولة الإمارات في النصف الأول من العام 2011 بنسبة 23.5%، ليصل إلى 23.74 مليار دولار، مقارنة بـ 18.2 مليار دولار للفترة ذاتها من العام الماضي. وفي العام2010، ارتفعت المبادلات التجارية بين الإمارات واليابان لتصل إلى 36.62 مليار دولار، مقابل 29.21 مليار دولار في العام 2009.
 
من جهة أخرى، بلغ حجم التبادل التجاري بين اليابان والكويت نحو 13.39 مليار دولار عام 2010. وفي العام ذاته، بلغ حجم التبادل التجاري بين اليابان والبحرين مليار دولار.
 

"
تعدّ اليابان ثاني أكبر شريك تجاري للسعودية، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 45.6 مليار دولار، ويبلغ عدد المشاريع المشتركة في المملكة 24 مشروعا
"

وتعدّ اليابان -من جهة أخرى- ثاني أكبر شريك تجاري للسعودية، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 45.6 مليار دولار، ويبلغ عدد المشاريع المشتركة في المملكة 24 مشروعا، يتجاوز تمويلها 11.9 مليار دولار.

 
ومن جهتها، تعتبر قطر أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال إلى اليابان.
 
وكانت قطر قد أضحت، في ديسمبر/كانون الأول الماضي،  المصدر الأول  للغاز الطبيعي المسال في العالم، مع وصول إنتاجها إلى مستوى 77 مليون طن سنويا.
 
وتحصل العديد من شركات الكهرباء اليابانية على الغاز القطري المسال في 14 ميناء مختلفا. وتعد شركة شوبو للطاقة الكهربائية أكبر زبائن "قطر للغاز" في اليابان.
 
واتفقت "قطر للغاز" مع طوكيو على إمدادها بأكثر من 60 شحنة إضافية من الغاز المسال، لمدة سنة بدأت في أبريل/نيسان الماضي. وترتبط الشركة مع اليابان بعقود طويلة الأجل منذ العام 1992، لتوريد 6 ملايين طن سنويا من الغاز الطبيعي المسال.
 
 واستهلكت اليابان نحو 35% من الغاز الطبيعي المسال في العالم عام 2009، ويتوقع أن يكون الطلب الياباني الإضافي خمسة مليارات متر مكعب في العام الحالي 2011، وأن يظل في السنوات المقبلة أعلى بمقدار ملياري متر مكعب، من مستويات ما قبل مارس/آذار الماضي، البالغة نحو 88 مليارا.
 
ثالثا: اليابان وأمن الخليج
وبموازاة تطوّر حضورها الاقتصادي المثير في المنطقة، دخلت اليابان على خط الأمن في الخليج من ثلاثة مداخل، هي: أولا، إرسال بوارج حربية إلى غرب المحيط الهندي، مع بدء الحرب في أفغانستان. وثانيا، إرسال قوات عسكرية إلى العراق في مهام غير قتالية. وثالثا، إرسال سفن حراسة إلى خليج عدن وبحر العرب لمواجهة القرصنة، وذلك منذ العام 2009.
 
وهناك مدخل رابع، يمكن افتراض تحققه مستقبلا، وهو دخول اليابان إلى سوق الدفاع الخليجي متى أنهى البرلمان الياباني الحظر المفروض على تصدير السلاح للخارج، وحينها قد تستنسخ اليابان تجربتها المدنية في المنطقة، وتدخل في مشاريع تصنيع عسكري مشترك مع دول الخليج.
 
بداية، يمكن أن نشير إلى أن نقاشا وطنيا قد أثير، منذ مطلع الألفية الثالثة، حول إعادة تعريف دور اليابان في الساحة الدولية، وهو ما ترجم في التحليل الأخير بإعادة تعريف للقوة الأمنية اليابانية، حجما ودورا. وتوّج النقاش المديد بتعديلات دستورية أقرت بالمعطى الجديد وشرعته. 
 وقد بدأت المحظورات التي تنص عليها المادة التاسعة من الدستور الياباني في الانهيار التدريجي، وكانت هذه العملية قد بدأت بشكل رمزي في العام 1987، عندما تجاوزت الميزانية اليابانية للدفاع الذاتي، للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، نسبة واحد في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة التي كانت تعتبر الحد غير الرسمي للبلاد بالنسبة للإنفاق العسكري.
 
ومنذ ذلك الحين، سن المجلس التشريعي الياباني عددا من المراسيم المصممة خصيصا لتجاوز معضلة المادة التاسعة. وحرصت الولايات المتحدة من ناحيتها، في السنوات الأخيرة، على توجيه دعوات متكررة لليابان للاضطلاع بأدوار متفاوتة في مهام أمنية، إقليمية ودولية.
 
وفي العام 2001، فوّض تعديل دستوري حرس الدفاع الذاتي إرسال سفن حربية  لمؤازرة الولايات المتحدة في عملياتها في أفغانستان، وتبع ذلك إرسال ثلاث قطع من بوارج الحراسة المدرعة، وقطعتين من سفن الإمداد، إلى المحيط الهندي لتنفيذ عمليات دعم لوجستي للقوات الأميركية.
 
وفي العام 2003، نشرت اليابان حوالي 600 جندي في مهمة غير قتالية في العراق، دامت بضع سنوات، وكانت تلك المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي ترسل فيها اليابان جنودا إلى منطقة لا تزال في حالة حرب.
 
على صعيد ثالث، قررت اليابان، في أبريل/نيسان من العام 2009، المساهمة بطائرات مراقبة في الحملة الدولية ضد القرصنة في خليج عدن وبحر العرب، وأعلن حينها أن طائرتي استطلاع يابانيتين ستمكثان في قاعدة في جيبوتي، إلى جانب 150 من أفراد الطاقم والفرق المعاونة. وتوفر طائرات المراقبة اليابانية المعلومات لمدمرتين يابانيتين، ترافقان السفن التجارية اليابانية في المنطقة.
 

"
أمن الطاقة الياباني يرتبط ارتباطا وثيقا بأمن الخليج، وذلك على مستوى الواردات والممرات الحيوية, حيث تستورد اليابان من الخليج 75% من احتياجاتها النفطية البالغة أربعة ملايين برميل يوميا
"

وفي التأصيل الإستراتيجي للتطورات، يمكن ملاحظة أن أمن الطاقة الياباني يرتبط ارتباطا وثيقا بأمن الخليج، وذلك على مستوى الواردات والممرات الحيوية. وتستورد اليابان من الخليج 75% من احتياجاتها النفطية، البالغة أربعة ملايين برميل يوميا. ويشكل هذا الخام 35% من إجمالي النفط المار عبر مضيق هرمز. وبهذا المعنى، تعدّ اليابان أكثر دول العالم ارتباطا بأمن المضيق، بعد دول الخليج ذاتها.

 
وهناك نحو أربع سفن يابانية عملاقة تعبر المضيق يوميا، متجهة إلى السواحل اليابانية، في خط ملاحي يصل طوله إلى ٧٠٠٠ ميل بحري. وتشكل هذه الناقلات -وفقا لتقدير باحثين يابانيين-  صفا دائما من ٩٠ ناقلة، يبدأ أولها في هرمز، وآخرها في موانئ اليابان. وفي 28 يوليو/تموز من العام 2010، أشارت تقارير إلى أن ناقلة نفط يابانية عملاقة قد تعرضت لهجوم مسلح في بحر عُمان، بالقرب من المضيق.
وعلى الرغم من أن الحادث بدا جسيما ومفاجئا، إلا أن اليابان سارعت للقول إنها لا تدرس اعتماد ممرات ملاحية بديلة عن مضيق هرمز، وذلك بالطبع لعدم واقعية البدائل المتاحة. وقد أطلق باحثون يابانيون دعوات لبلادهم لأن تساهم على نحو مباشر في جهود حفظ الأمن البحري في هرمز والخليج العربي.
 
وما يمكن قوله خلاصة، هو إن الخليج العربي قد بات موضع تركيز ياباني متعدد الأوجه والأبعاد، وغير مسبوق في حجمه ونوعيته. وإن الدور الياباني له اليوم دلالاته البالغة ذات الصلة بمستقبل هذه المنطقة وموقعها في الجيوبوليتيك الدولي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.