رسالة إلى "ثوار" الميدان

وحيد مفضل - رسالة إلى "ثوار" الميدان



– مشاكل وأخطاء

– سلبيات الاعتصام الدائم
– نصائح للثوار

لا يملك المرء عند تذكر أحداث ثورة 25 يناير المصرية وما استطاعت أن تحققه من نجاحات وإنجازات باهرة، من خلال إتباع طرق سلمية ومبادئ غاية في الرقي والتحضر، بسواعد فتية وفئة نابهة من شباب الأمة وبدماء طاهرة زكية، إلا أن ينحني بكل إجلال لكل مكتسبات هذه الثورة ولكل من شارك فيها أو أيّدها.

وفي هذا لا يملك كاتب هذا المقال إلا أن يذكر بكل فخر واعتزاز مشاركته في مظاهرات هذه الثورة النبيلة الأبية، وعن تأييده لبواكيرها الأولى ومساراتها التالية بدون حدود وبنشوة بالغة ويصعب أن تتكرر.

بيد أن هذا لا يمنع من الاعتراض والحزن على بعض مما يجري حاليا من الإساءة لمسارات الثورة، ومزايدة بعض المتظاهرين والثوار بالميدان على بعض مطالب الثورة وحقوق الشهداء، أو استخدام البعض منهم لشعارات وهتافات شاتمة ومهينة للمجلس العسكري وحكومة رئيس الوزراء عصام شرف وبقية الرموز الوطنية، ومطالب لا يبدو أن لها نهاية أو أن هناك صبرا على تحقيقها أو تفهما لمتطلبات واستحقاقات تنفيذها.

فنحن لم نتخلص من ظلم لنقع فريسة لظلم آخر، ولم نتخلص من دكتاتورية حكم مبارك الأوحد وإقصاء الرأي الآخر طوال 30 سنة وأكثر، لنقع فريسة لتشدد البعض واستئثار فئة من ثوار الميدان وشباب الثورة أو بعض القوى السياسية الأخرى بالرأي وممارسة كثير منهم لسياسة التهميش والإقصاء للغير.

ونحن لم نتخلص من وجوه بقيت مكررة علينا لسنوات طويلة مريرة عبر كل القنوات التلفزيونية وغير التلفزيونية طوال فترة حكم مبارك، لنجد بعدها فئة قليلة من الثوار وشباب الثورة تتسيد المشهد السياسي والإعلامي برمته، وتتسيد أيضا كل آليات التعبير عن الرأي ومشاعر الوطنية والحكم على حاضر ومستقبل المقادير في مصر بهذا الشكل، بحجة أنهم ثوار الميدان، وأنهم أول من قاموا بهذه الثورة!


"
هناك بطء ملحوظ في الإجراءات وإصرار غير مفهوم على بقاء بعض وزراء النظام البائد في الحكم، وهذا مما يستحق بالطبع التوقف عنده ويستحق النقد
"

مشاكل وأخطاء
لا يوجد في هذه الدنيا أسوأ من الغلو في أمر ما أيا كان، ولا يوجد أيسر من الاعتراض الدائم على كل ما يتخذ من قرارات، أو مطالبة الوزراء والمسؤولين الجدد بترك الساحة والاستقالة قبل تقييم الأداء، وللأسف هذا جزء مما يحدث حاليا بميدان التحرير، وهذا ما يبدو أنه مشكلة الثورة المصرية حاليا.

فنحن أصبحنا أمام اعتصام دائم ومعيق للحركة بميدان التحرير، وأمام مظاهر اعتراض على كل شيء، وأمام مطالب لا نهائية من ائتلافات شباب الثورة، وأمام أشكال كثيرة لإقصاء الرأي الآخر، وتطاول على الرموز، وتعطيل لبعض المصالح العامة، بل والتهديد بغلق المجرى الملاحي لقناة السويس، وما إلى ذلك مما لا يتفق مع مبادئ الثورة، ولا يرضي جموع الشعب المصري، الذي هتف للثورة ولمفجريها.

عدم وجود قيادة موحدة للثوار وتعدد ائتلافات الثورة ووصول هذا العدد لأكثر من 130 ائتلافا وتجمعا وطنيا، يمثل مشكلة إضافية كبيرة للثورة والثوار حاليا، إذ إن لكل ائتلاف من هذه الائتلافات مواقفه وتوجهاته الخاصة، وهو ما يصعب معه بالطبع الوصول لاتفاق عام بشأن أولوية القضايا والمطالب المطروحة أو بشأن آليات تنفيذها وتحقيقها، ويصعب معه أيضا إرضاء كل هذه الأطراف أو حتى تحقيق الحد الأدنى من القبول والرضا.

ومن مشاكل الثورة أيضا، ركوب بعض القيادات الحزبية وما يسمى بالنخبة المثقفة وبعض مرشحي الرئاسة في مصر، لموجة الثورة ومزايدتهم على مطالب الثوار، بل وتقمص أدوارهم الثورية أحيانا.

كما أن من مشاكل الثورة، إغراق ثوار الميدان في الظهور الإعلامي والتنقل بين القنوات التلفزيونية المحلية والفضائيات، ولجوء الإعلام المحلي وخاصة القنوات الفضائية الجديدة لنفاق الثورة والثوار، والتسبيح الدائم بحمدها، وهذا كله يؤدي بالطبع إلى تأجيج المشاعر الثورية والمزايدة على مطالب الثورة والثوار.

كذلك فإن من مشاكل الثورة أيضا، أو قل المعتصمين حاليا بميدان التحرير، توزيع وإلقاء تهم التخوين والعمالة والتبعية للفلول على كل ما لا يتفق في الرأي أو التوجه مع ثوار الميدان، ولكل من يدعو لترك التحرير وإعطاء الفرصة للحكومة الحالية للعمل وتحقيق المطالب.

وهذا فضلا عن انقلاب بعض ثوار الميدان بسرعة على الجيش وبعض الرموز المصرية، لا لشيء سوى مخالفتهم أو عدم توافق آرائهم أحيانا مع هوى من في التحرير، وهذا مثلما حدث -على سبيل المثال لا الحصر- مع الدكتور عمرو حمزاوي وصفوت حجازي مؤخرا، رغم دعمهما اللامحدود للثورة ولثوار الميدان.

وليس معنى هذا أن الرضا في المقابل يعم الشعب المصري بأكمله على أداء حكومة شرف والمجلس العسكري، وأنهما بلا خطأ أو خطيئة، بل على العكس، هناك بالطبع مشاكل كثيرة وقصور في الأداء، وعلامات استفهام على بعض القرارات.

وهناك بطء ملحوظ في الإجراءات وإصرار غير مفهوم على بقاء بعض وزراء النظام البائد في الحكم، وهذا مما يستحق بالطبع التوقف عنده ويستحق النقد.

لكن موقف الجيش المصري والمجلس العسكري مع الثورة لا يمكن أن يمحى أو ينسى هكذا في لحظة، كما أن القرارات المتخذة يمكن أن تدخل في دائرة الاجتهاد، وبالتالي لا يصح أن يتحول حق النقد إلى تعد أو مغالطة، كما لا يصح تجييش وتوجيه المظاهرات نحو مقار وزارة الدفاع، بل وخروج هذه المظاهرات عن إطارها السلمي، كما حدث قرب العباسية بالقاهرة وسيدي جابر بالإسكندرية ليلة الاحتفال بثورة 23 يوليو.


"
أخطر النتائج السلبية هي مقاربة رصيد الثوار النفاد، نتيجة انقسام الشارع المصري على ما يصدر من ميدان التحرير، وظهور حالة متنامية من السخط العام إزاء غلو بعض الثوار في بعض المطالب
"

سلبيات الاعتصام الدائم
على أي حال ومهما اختلفت درجة تقييمنا لأداء حكومة شرف أو المجلس العسكري، ففي تقديري يجب أن لا يكون السبيل للاعتراض على هذا، لا سيما في هذا الوقت الراهن، عبر الدعوة للاعتصام الدائم واستخدام الشعارات المسيئة، أو تنظيم المليونيات المحرضة وتعطيل المصالح العامة.

بل يجب أن تكون هناك -خلال هذه المرحلة العصيبة من تاريخ مصر- آلية أخرى أكثر أمنا للضغط ومحاولة تحقيق بقية مطالب وأهداف الثورة المصرية المجيدة.

وفي تقديري يجب أن تكون هذه الآلية حوارية بالدرجة الأولى، بحيث يمكن من خلالها التحاور والتفاهم وليس التصادم مع القوى الحاكمة، كما هو حادث الآن.

ولعل ما يمكن أن نتفق عليه في هذا، أن نمط التظاهر والاعتصام السائد حاليا قد بعد تماما، وتحديدا منذ الثامن من يوليو/تموز الماضي، عن النهج المنشود وعن الصورة المثالية والسلمية التي بدأت بها الثورة المصرية.

ولهذا بالطبع مضار ونتائج سلبية كثيرة، يمكن أن يؤدي بعضها أو جلها بمصر الثورة إلى طرق مظلمة أو خسائر باهظة لن يرضى عنها أحد سوى أعداء الوطن.

ومن هذه النتائج، استمرار زيادة حنق وغضب جموع كثيرة من الشعب المصري على قوات الشرطة، وبالتالي تأخر نزول هذه القوات للشارع المصري، وممارسة أفرادها أدوارهم المنوطة بهم في حفظ الأمن والقبض على الخارجين عن القانون وخلافه، ناهيك عن أن مناخ التظاهر غير السلمي والاعتصام الدائم بكل ميادين مصر، والتشاحن بين أطياف الشعب المصري المختلفة، يهيئ المناخ الأمثل والأكثر ملاءمة لنشاط البلطجية واللصوص ومافيا الأراضي وغيرهم من الانتهازيين ومعدومي الضمير، ممن لا يعبؤون بمستقبل البلاد أو مصالح العباد.

كذلك فإن من النتائج السلبية لاستمرار المناداة بالاعتصامات والمظاهرات الدائمة، استمرار الانشقاقات بين التجمعات والقوى الوطنية، وإشاعة حالة الفرقة والتخوين والاتهامات المتبادلة بالعمالة والتمويل بين الحركات والجماعات الوطنية المختلفة، وهو ما بدا واضحا بالفعل خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة، بسبب ما أشيع عن تلقي عدد من منظمات العمل المدني والحركات الثورية الكائنة بالتحرير عن تمويل خارجي.

ويضاف إلى هذا بالطبع تأثير الاعتصام الدائم وأساليب التعبير المسيئة ومناخ المظاهرات غير السلمية وتكرار المصادمات، على عجلة الإنتاج وزيادة المطالب الفئوية وتأخر عودة الاستثمارات، وما إلى ذلك مما يرتبط بالتنمية الاقتصادية والدخل القومي.

أما أخطر النتائج السلبية المترتبة على هذا فهو مقاربة رصيد الثوار النفاد، نتيجة انقسام الشارع المصري على ما يصدر من ميدان التحرير، وظهور حالة متنامية من السخط العام إزاء غلو بعض الثوار في بعض المطالب، وإزاء تكرار الاعتصامات والمليونيات ومسمياتها المستفزة والمسيئة.

وهذا فضلا عن تضرر وتأذي عدد كبير من العامة والخاصة مما يحدث ومن تعطيل بعض المصالح الحكومية وحركة المرور بالميادين الرئيسية، وما إلى ذلك من أوجه الضرر.


"
أرجو من الثوار والقوى السياسية الأخرى عدم الإسراف في تنظيم المليونيات على الأقل لكي لا تفقد معناها أو تأثيرها، كما أرجو عدم خروج المظاهرات عن إطارها السلمي
"

نصائح للثوار
ثمة أكثر من نصيحة لثوار الميدان وبقية القوى السياسية لإنقاذ الثورة المصرية وإيصال البلاد إلى بر الأمان.

وأولى هذه النصائح تذكر أن ثورة 25 يناير ليست ملكا أو حكرا على كيان ما، وأن هذه الثورة نتاج عمل مشترك، بين فئة نابهة من شباب وثوار الميدان أشعلت وقود الثورة، وشعب أبي التف حولها، وجيش باسل رعاها وحماها.

وبالتالي لا يوجد أبدا أي مبرر للاستئثار بالقرار أو تخوين أحد أو إلقاء تهم التواطؤ على بقية القوى الوطنية، بما فيها حكومة شرف والمجلس العسكري.

أتمنى أيضا على الثوار البحث عن قيادة موحدة وعن رأي موحد يتفق عليه جموع الثائرين من دون تناسل لا نهائي للمطالب والاحتجاجات والاعتراضات من مئات الائتلافات القائمة.

كما أتمنى عليهم وعلى بقية القوى السياسية أيضا تحديد أوليات المطالب القائمة، والإيمان بمتطلبات واستحقاقات كل مرحلة، ومدى مناسبة آليات الضغط المتاحة من تظاهر واعتصام وإضراب وغيره لطبيعة الظرف الراهن.

كذلك أرجو من الثوار والقوى السياسية الأخرى عدم الإسراف في تنظيم المليونيات على الأقل لكي لا تفقد معناها أو تأثيرها، كما أرجو عدم خروج المظاهرات عن إطارها السلمي، أو تسمية أيام الجمع المتتالية بأسماء وشعارات عدائية ولا يوجد لها أي داع مثل "جمعة الكفن" و"جمعة الإنذار الأخير".

ويا ليت أن تكون هناك أيضا خطط لتنظيم جمع بديلة للقضاء على البلطجة أو عودة عجلة الإنتاج أو دعم مهمة الشرطة في العودة للشارع المصري وحفظ الأمن. فمن المهم للغاية "أن ينعكس فعلا نبل المطالب على نبل الوسائل وطرق التعبير عنها"، وهذا كما طالب رئيس الوزراء شرف الثوار بالأمس.

أتمنى أن تكون هذه أوليات الثوار وبقية القوى السياسية، وأتمنى عليهم في هذا أن لا يدعوا الثورة المصرية تأكل أبناءها، كما فعلت من قبل الثورة الفرنسية.

وآمل أن يعيدوا قراءة رسالة الثائر الحق نيلسون مانديلا حينما دعا في خطاب خاص له ثوار مصر وتونس إلى "عدم هدر الوقت في سب وشتم كل من كانت له صلة تعاون مع النظامين البائدين، وفي ممارسة سياسة التشفي والإقصاء، أو تبكيت كل من كانت له صلة قريبة أو بعيدة بالأنظمة السابقة أو كل من كان له رأي مخالف"، مضيفا في هذا "إن النظر إلى المستقبل والتعامل معه بواقعية، أهم بكثير من الوقوف عند تفاصيل الماضي المرير".

وفي نفس هذا السياق، لا أجد أفضل ما أختم به رسالتي هذه سوى تذكير ثوار الميدان وبقية الثائرين بمقولة شيخنا الجليل الشعراوي الشهيرة إن "الثائر الحق هو الذي يثور ليهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد". ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.