قراءة ميدانية للمناورات الإسرائيلية

قراءة ميدانية للمناورات الإسرائيلية - الكاتب: عدنان أبو عامر



جدوى المناورات
أوجه الخلل
الحرب القادمة

اختتمت إسرائيل قبل أيام أكبر مناورات تجريها الجبهة الداخلية لفحص مدى جاهزيتها للحرب المتوقعة، انطلاقًا من فرضية مفادها أن ميدان المواجهة العسكرية القادمة سيكون هذه الجبهة، ممثلة بمساحة فلسطين التاريخية، في كسر سافر لأبرز قواعد العقيدة القتالية الإسرائيلية القائلة بـ"خوض الحرب في أرض العدو"!

وتأتي هذه المناورات التي أطلق عليها "نقطة تحول 5″، في إطار الدفاع عن الجبهة الداخلية التي تشكل أحد أهم أسس النظرية الأمنية الإسرائيلية، خاصة بعد أن أصبحت مستهدفة في الحروب الأخيرة، وثبت أنها جزء لا يتجزأ من الجبهة العسكرية، وأن بإمكان الخصم ضربها بسهولة مقارنة بالماضي، لذلك وجب إجراء تغيير في التقديرات الإسرائيلية، لتأخذ بعين الاعتبار أن الاستعدادات للمعركة يجب أن تشملها.

جدوى المناورات

"
تكتسب المناورات أهميتها ومسوغها انطلاقًا من أن الحرب القادمة ستستغرق أيامًا طويلة والإصابات المتوقعة في الجبهة الداخلية ستكون كبيرة
"

بعد مرور ما يقرب من خمس سنوات على انتهاء حرب لبنان الثانية، وأكثر من عامين ونصف على اندلاع حرب الرصاص المسكوب ضد قطاع غزة، تشير الوقائع إلى تراجع مستوى وحجم الحصانة التي تمتعت بها الجبهة الداخلية خلالهما، خاصة أن "الأعداء" المحيطين بإسرائيل، يواصلون التسلح والاستعداد ليوم المواجهة القادمة، وما يعنيه ذلك من تأثير مباشر على حالة المناعة التي يجب أن تحظى بها الجبهة الداخلية التي ستشكل هدفًا مفضلاً لهم إذا ما اندلعت الرصاصة الأولى.

وقد رسمت المناورات الأخيرة "سيناريوهات سوداوية" لطبيعة وحجم وساحة المواجهة القادمة، لاسيما استهدافها المباشر للجبهة الداخلية، وتحول الإسرائيليين إلى "أهداف" متاحة للأسلحة التي ستستخدم ضدهم في قادم الأيام، بعد أن باتت إسرائيل مسكونة خلال السنوات الأخيرة بتحصين الجبهة الداخلية، وخصصت فرقًا عديدة من الخبراء لدراسة ما يتعلق بها, خاصة فرضية "حرب الصواريخ" التي فرضت نوعًا جديدًا من التفكير العسكري الإسرائيلي.

ولعل ما تم التصريح به من نداءات وتحليلات على وقع هذه المناورات يؤكد الاقتناعات الآخذة في التزايد في المحافل الأمنية والعسكرية من حتمية انتقال ساحة الحرب القادمة إلى الجبهة الداخلية، وما يشكله هذا الاستهداف من حرب استنزاف مؤذية لإسرائيل على كل الأصعدة، في ضوء نجاح القوى المعادية لها في تطبيق المفهوم القتالي القائم على فرضية أن هذه الجبهة هي "الحلقة المكشوفة والأضعف" في إسرائيل، ومن هنا فإن زعزعتها، أو كسرها من شأنه أن يرجّح كفتها، بالرغم من تفوق تل أبيب عسكريًّا.

بل إن الجنرال احتياط "مائير ألران" أحد أقطاب المدافعين عن الجبهة الداخلية، كان الأكثر تحذيرًا مما وصفه "كابوس" المواجهة القادمة، حين عقد مقارنة ميدانية بينت الاختلاف الكبير الذي طرأ على تهديد الجبهة الداخلية خلال العقود الماضية، مما يؤكد فرضية انكشافها، فقد شهدت الأعوام بين 1967-2009 إطلاق ما يزيد عن 12 ألف قذيفة صاروخية عليها, 1000 منها أطلقها فلسطينيون من الحدود الأردنية خلال حقبتي الستينيات والسبعينيات، و6 آلاف أطلقت من لبنان بين الأعوام 1996-2006، و5 آلاف أطلقت من المنظمات الفلسطينية في غزة بين عامي 2000-2009، و40 صاروخًا أطلقت من العراق عام 1991.

كما نقل الخبير العسكري "يوآف ليمور" عن ضباط كبار مشرفين على المناورات أن فكرتها تتلخص في "فحص المدنيين والمنظومات"، مفترضًا أنه في حالة اندلاع حرب بعد يوم أو يومين، فإن التقدير يذهب باتجاه أن الوضع في الدولة سيكون "مضطربًا"، لاسيما إن شهدت هذه الحرب سيناريوهًا كارثيًّا يتمثل بإطلاق آلاف الصواريخ موجهة تقريبًا إلى كل نقطة في إسرائيل، وتستهدف على وجه الخصوص تل أبيب وبئر السبع وأسدود من الجنوب، وحيفا وكريات شمونا من الشمال.

كما تكتسب هذه المناورات أهميتها ومسوغها انطلاقًا من أن الحرب القادمة ستستغرق "أيامًا طويلة"، والهدف الإسرائيلي يكمن في "تقصير مدة الحرب"، بسبب كميات المصابين والإصابات الكبيرة المتوقعة في الجبهة الداخلية، ولذلك واضح أنه يجب القيام بـ"حرب قصيرة"، وينقل ضباط كبار في هيئة الأركان أن منطقة الشرق الأوسط "حبلى" بكثير من التطورات، مما يعني أنه إذا اندلعت حرب غدًا، فإن قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية ليست محصنة بما فيه الكفاية، وليست مستعدة بما فيه الكفاية، وفي النهاية فإن الفجوة الأساسية ليست في التحصين، بل في الاستعداد والقيادة، وبهذه الحكومة ورئيسها، آملاً أن تتعلم الحكومة كيف تواجه الحرب القادمة.

أوجه الخلل
منذ "انكشاف" الجبهة الداخلية خلال حربي لبنان وغزة، لم يبق أي تجمع سكاني في إسرائيل إلا أجرى مناورات واستعدادات لمثل تلك الحالات الحرجة، بإشراف نائب وزير الدفاع الذي بات يطلق عليه وزير حماية الجبهة الداخلية "متان فيلنائي".

وفي محاولة لإجراء تقييم مبدئي وأولي لهذه المناورات التي استمرت على مدى أيام متواصلة، فقد طرحت الجهات المعنية سلسلة من التساؤلات، ووضعت جملة من الإجراءات الميدانية والخطوات العملياتية، لما قالت إنه "محاكاة" للتهديدات المختلفة، واختبار عدد من الاستعدادات المطلوبة، ومنها:

1- معرفة حجم التأهب الجماهيري.

2- تقييم حالة التنسيق بين المستويات ذات الاختصاص.

3- اختبار مدى نجاعة وسيلة "الإنذار المبكر".

4- فحص جاهزية الملاجئ ومستوى تحصينها.

وقد تبين للجبهة الداخلية، وقيادة الجيش الإسرائيلي، والشرطة والدفاع المدني وغيرها، أن نسبة الاستجابة الإسرائيلية في المجالات الأربعة السابقة لم تكن كما ينبغي، أو كما هو متوقع، بحيث أعلنت قيادة الجبهة أنها بصدد استخلاص الدروس والعبر للمناورات الأخيرة، من خلال:

أ‌- نشر الأجهزة الخاصة بترقب ورصد القذائف الصاروخية التي ستسقط على مختلف المناطق.

ب‌- تعميم التواصل شبه اللحظي مع المجالس البلدية عبر وسائل الاتصال الحديثة.

ت‌- التنسيق المشترك مع الوزارات الحكومية والمؤسسات الرسمية.

ث‌- توفير الحد الأقصى من التعرف على القذائف الصاروخية والوقاية منها.

"
كشفت المناورات الإسرائيلية ارتفاع "وتيرة الخوف" من فرضية عدم وصول الأجهزة المعنية بالجبهة الداخلية إلى حالة من التوافق على طبيعة التصرف إزاء وقوع استهداف معاد
"

وفي ظل حالة القصور التي اعترت الكثير من الاختبارات المرافقة للمناورات الأخيرة، فقد طرحت جهات الاختصاص في إسرائيل قضية مثيرة فعلاً للجدل تتعلق بتراجع النفقات الحكومية على توفير المزيد من التحصينات للأهداف المدنية المرشحة للاستهداف، كالمدارس والمستشفيات والتجمعات التجارية الكبرى، في حين تمتلك التحصينات العسكرية ومرافق البنى التحتية شيكًا مفتوحًا، كقواعد الجيش الإسرائيلي ومفاعل ديمونا ومحطات الكهرباء والمياه، إلى جانب الـ205 ملايين دولار التي قدمتها واشنطن مؤخرًا إلى تل أبيب لهذا الغرض.

وكشفت المناورات الإسرائيلية ارتفاع "وتيرة الخوف" من فرضية عدم وصول الأجهزة المعنية بالجبهة الداخلية في تل أبيب إلى حالة من التوافق على طبيعة التصرف إزاء وقوع استهداف معاد موجه بأسلحة متطورة، لاسيما "وزارات الدفاع، الأمن الداخلي، الصحة، الشرطة، هيئة إطفاء الحرائق، نجمة داود الحمراء، السلطات المحلية والبلديات"، خاصة أنه بعد تنفيذ عدة مناورات ميدانية، لم يطرأ تحسن ملموس على حالة "الفوضى وعدم التنسيق والإرباك" الذي أصابت عمل تلك الجهات.

وهو ما دفع بقيادة الجبهة الداخلية إلى تقديم مشروع قانون يلزم الجهات الرسمية في إسرائيل بالتنازل ضمنًا عن بعض استقلاليتها، لتحقيق القدر المطلوب من التنسيق المشترك والتعاون الميداني، وبما يساعد الدولة في توفير إجابات ميدانية على كل التساؤلات المثارة بين الحين والآخر حول مدى جاهزيتها.

الحرب القادمة
أكدت المناورات الأخيرة بما لا يدع مجالاً للشك أن استهداف الجبهة الداخلية الإسرائيلية سيكون غير مسبوق في حجمه, بحيث ستمطر آلاف الصواريخ من عدة جبهات: شمالية وجنوبية وشرقية، دون أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من وقف إطلاقها.

ولعل ما فاقم صعوبة المناورات أن تلك الصواريخ باتت "السلاح المفضل" اليوم لتهديد الجبهة الداخلية، مما يتطلب التعامل والاستعداد بالشكل الملائم، في ضوء أن نتائج الحروب الأخيرة شجعت أعداء إسرائيل على المضي قدمًا، والاستمرار في التسلح بالصواريخ، بينما لا توجد قرارات واضحة لدى المؤسسة العسكرية لمواجهة هذه الإستراتيجية بإستراتيجية مضادة، وهو ما يفسر لدى الإسرائيليين على أنه تقصير في "الدفاع عن الجبهة الداخلية".

وفي ضوء هذا التخوف المتزايد، أعلنت هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية بالتزامن مع إجراء المناورات الأخيرة وصولها إلى مرحلة من إتمام العمل لعدد من وسائل الحماية اللازمة، ومنها:

1- منظومة "حيتس 2″، المكلفة بالتصدي لصواريخ بعيدة المدى، لاسيما الآتية من إيران وسوريا.

2- منظومة "الصولجان السحري" المناط بها صد الهجمات الصاروخية المتوسطة المدى، ومصدرها لبنان، ومن المقرر أن يتم نشرها فعليًّا عام 2014.

3- منظومة "القبة الحديدية" لمواجهة الصواريخ القصيرة المدى، لاسيما صواريخ القسام التي تطلقها الفصائل الفلسطينية من قطاع غزة.

وترتبط هذه التجهيزات بعبارة بات يكررها العديد من المسؤولين الإسرائيليين، ساسة وعسكرا، وهي أن السيناريو الأكثر توقعًا هو استهداف الجبهة الداخلية بمئات القذائف الصاروخية في آن واحد، فالمقاومة اللبنانية تعرف جيدًا كيف تستهدف بئر السبع في الجنوب، ونظيرتها الفلسطينية لديها القدرة العملياتية على الوصول بصواريخها إلى تل أبيب، والسوريون لديهم إمكانية استهداف معظم الأراضي الإسرائيلية، والإيرانيون يمتلكون صواريخ بعيدة المدى تطال جميع أنحائها، وبالتالي فأي إسرائيلي خائف يريد مغادرة مدينته المستهدفة، سيذهب حتمًا إلى مدينة أخرى في مرمى الصواريخ! ورغم هذا فإن الحرب القادمة ستشهد هجرة بالآلاف للإسرائيليين من مدينة إلى أخرى، بحثًا عن الأمان المفقود.

ورغم أن السنة الأخيرة اعتبرت في نظر جميع المحافل الأمنية والعسكرية الإسرائيلية الأكثر هدوءًا، والأقل توترًا، فإن السيناريوهات الأمنية التي تهدد الجبهة الداخلية ومرافقها العامة لا تزال تتعاظم، لذا واظبت الجهات المختصة على إجراء التدريبات والمناورات الميدانية لمحاكاة هذه التهديدات، بمشاركة من قوات الجيش ووحدات الإطفاء والإنقاذ وأجهزة الأمن.

وفي السياق نفسه أكدت المناورات الأخيرة أن الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى، إلى اتخاذ إجراءات في مواجهة التهديدات المستقبلية على الجبهة الداخلية، من خلال إجراءات عدة أبرزها:

1- تقوية الصورة الردعية لإسرائيل، للحيلولة دون تحقق التهديدات ضدها.

2- إحباط وتدمير القدرات الصاروخية المعادية، من خلال منظومات "حيتس، القبة الحديدية"، وغيرها.

3- تطوير القدرات الوقائية، وتوفير الحد الأقصى للوسائل الدفاعية كصفارات الإنذار وتحصين الملاجئ.

4- منح الجبهة الداخلية القدرة على التكيف مع ظروف التهديدات، بما فيها المؤسسات التعليمية، والعاملون الاجتماعيون، وتوسيع سلطات السلطات المحلية.

"
الصورة المرسومة للجبهة الداخلية الإسرائيلية في ضوء المناورات الأخيرة في غاية التعقيد، بسبب الإصابات الكثيرة المتوقعة في الأنفس والأضرار الاقتصادية الكبيرة
"

أخيرًا.. يمكن القول إن الصورة المرسومة للجبهة الداخلية الإسرائيلية في ضوء المناورات الأخيرة في غاية التعقيد، فإلى جانب الإصابات الكثيرة المتوقعة في الأنفس والممتلكات، هناك الكثير من الأضرار الاقتصادية، وانعكاسها سلبًا على الاقتصاد الإسرائيلي كله، وتراوح عدد الإسرائيليين الذين سيتركون منازلهم بين الثلث والنصف على الأقل، وبين الإخلاء شبه الكامل في جزء من البلدات المستهدفة، وتلك القريبة من خط المواجهة.

هذا إلى جانب شيوع العديد من مظاهر "استنزاف" الجبهة الداخلية في ضوء أن التقديرات العسكرية والاستخبارية المتشائمة في إسرائيل، ترجح أن تقوم إستراتيجية القوى المعادية في المواجهات القادمة على "إدارة ذكية لحرب استنزاف" تعتمد في أساسها على إدارة هجوم متواصل ومكثف على شمال وجنوب ووسط إسرائيل، يهدف للمس بنظام الحياة فيها، بواسطة أسلحة "بث الرعب، وعرقلة نظام الحياة العادي"، وهو ما لا تبدو تل أبيب مستعدة له في المرحلة الحالية على الأقل حتى بعد انتهاء المناورات الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.