متى تتوب النخب من خذلان الشعوب؟

متى تتوب النخب من خذلان الشعوب؟



جرت العادة أن يكون للنخب دور محوري في صناعة الثورة وإحداث التغيير وقيادة الشعوب. ولكن الثورات العربية لم تكن تقليدية في شيء. فقد كانت عفوية وشعبية ومفاجأة، وأحدثت تغييرا سريعا، قبل أن تفرز قيادات تنهض بمرحلة ما بعد الثورة، وقبل أن تتهيأ النخب السياسية القديمة التي لا يبعث سجلها وأداؤها على التفاؤل.

نجم عن ذلك وضع غريب يمسك به العديد من الأطراف ومفتوح على احتمالات عديدة، خاصة وأن التركة ثقيلة والأطراف التي تسعى لإفشال الثورة أو تعطيلها أو الانحراف بها عن مسارها كثيرة ونافذة ومنظمة وأثبتت نجاعتها خاصة بعد أن استفاقت من الصدمة، على عكس الأطراف التي تسعى لإنجاح الثورة والتي تخدرت بنشوة الانتصار، وغرق الكثير منها في القضايا النظرية والإجرائية والمعارك الجانبية.

"
أخطر ما في الوضع أن بعض أسرار انتصار الثورة وعلى رأسها العفوية وغياب القيادة هي نفسها أكبر المخاطر التي تهددها
 "

وأخطر ما في هذا الوضع أن بعض أسرار انتصار الثورة وعلى رأسها العفوية وغياب القيادة هي نفسها أكبر المخاطر التي تهددها. وفي المقابل لم تبرز ولا توجد مؤشرات على بروز قيادة وطنية في مشروعها وخطابها قادرة على الالتحام بالشعب وقيادة المرحلة الانتقالية وتحقيق أهداف الثورة.

يقول أنشتاين "لا يمكننا حل مشاكلنا بنفس التفكير الذي اعتمدناه عندما خلقنا تلك المشاكل". ينطبق هذا القول بدقة على الثورات التي تكتسح العالم العربي.

فهي لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا بنفس الروح والعوامل التي انتصرت بها (وإن بوسائل مختلفة)، وليس بنفس العقليات والسلوكيات والمقاربات التي كانت وراء الجمود الذي خيم على العالم العربي والمأزق الذي استحكم قبل الثورة. ولكن العكس هو الذي يحدث كلما انتصرت ثورة أو أوشكت على الانتصار.

فروح التوافق والتجرد والوحدة الوطنية التي كانت وراء انتصار الثورة سرعان ما تضعف لتترك مكانها للفرقة والمناظرات الأيديولوجية والمناكفات والمزايدات الحزبية التي لا تمت بصلة للمشهد الرائع الذي سطره شباب الثورة بالتوحد على شعارات وطنية ومطالب شعبية.

والنخب التي طالما خذلت شعبها –لغياب الكفاءة أو النزاهة أو الاثنين معا- وفشلت على مدى عقود في إحداث التغيير، بل وساهمت في تجمد الأوضاع، وأصبحت جزءا من الواقع المطلوب تغييره بل باتت عقبة في طريق التغيير، تعود لتتصدر المشهد وبنفس العقليات والسلوكيات والمقاربات الفاشلة، بعد أن اضطر الشباب والشعب لتجاوزها لإحداث التغيير المنشود.

وبعد أن كان شباب الثورة لاعبا محوريا يجد نفسه لاعبا احتياطيا أو مشاهدا لمقابلة بين نخب متصارعة لا ينوبه منها إلا المجاملات، وهي مقابلة لا تختلف كثيرا عن تلك التي كان يشاهدها قبل الثورة.

خذلان النخب والقيادات المتكرر لشعوبها، جملة يمكن أن تختزل التاريخ العربي الحديث، وتفسر الإخفاق المتكرر. ولا يشفع لتلك القيادات أن الخذلان كان جله غير متعمد، وأن النوايا كانت في الغالب حسنة والتضحيات كانت جسيمة.

صحيح أن النخب العربية الحاكمة والمعارضة لم تخل من الانتهازية والعمالة، ولكن الخذلان المتكرر كان في الأعم الأغلب نتيجة افتقار النخب للوطنية والتجرد أو للرؤية والكفاءة أو للاثنين معا. والمقصود بالوطنية والتجرد هنا الإخلاص للشعب والوطن والقضية، ووضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار شخصي أو حزبي أو فئوي.

إن القاسم المشترك بين الأمم والجماعات التي نهضت على اختلاف ظروفها ومسارات نهوضها كان دوما وجود نخب وقيادات ملتحمة بشعبها تجمع بين الوطنية والتجرد والكفاءة والحكمة: نخب وقيادات تمتلك قراءة دقيقة وموضوعية للتاريخ وللواقع وللظروف الإقليمية والدولية، وتمتلك رؤيا ومشروع وإستراتيجية للنهوض والتفاعل مع الواقع.

ويتوقف النجاح على قدرة هذه القيادة على تعبئة الجماهير بصورة مستديمة خلف مشروع وطني وليس خلف شعارات أو أفراد أو أحزاب. ولأن هذا النموذج القيادي لم يكد يوجد في التاريخ الحديث للعرب والمسلمين فإن محاولات التغيير والنهوض المتكررة فشلت أو أجهضت ولم تؤت ثمارها برغم إخلاص القائمين عليها وتضحياتهم الجسام.

ومع ذلك لم يشذ العرب والمسلمون عن تلك القاعدة، حيث كان وراء نجاحاتهم القليلة خلال القرن الماضي نخبة أو قيادة حكيمة، أخلصت لشعبها ووطنها وقضيتها، وبلورت مشروعا وطنيا نفذته بمنهجية ودرجة عالية من الحكمة والانضباط، واضعة مصلحة الوطن فوق كل اعتبار وغير متعذرة لا بقوة الخصوم ولا بصعوبة الظروف ولا بقلة الإمكانات.

وكان آخر هؤلاء أردوغان وحزبه اللذان نجحا في ظروف شديدة التعقيد، وشقا طريقهما وسط عقبات جسام وخصوم متنفذين وشرسين ومتربصين.

صحيح أن الشعوب العربية والإسلامية أفرزت العديد من الكفاءات والقيادات المتميزة، ولكن كان مصير أكثرهم التهميش والإقصاء من دائرة القرار والتأثير، وذلك من قبل السلطة أو من قبل المتنفذين في الهيئات والمؤسسات والأحزاب، ولك أن تقول من قبل الدكاتورية الخشنة أو الدكتاتورية الناعمة.

فمنذ أن فرض معاوية ابنه يزيد خليفة للمسلمين، وسلم الناس بإمارة المتغلب، لم يعد تولي القيادة يتم باختيار المعنيين، ولم يعد التجرد أو الكفاءة من شروطها، حيث حل محلها الوراثة والقوة والولاء والتملق للمتنفذين والمكر والتآمر وسائر الأساليب غير القويمة وسائل لتولي القيادة أو التمسك بها من دون محاسبة أو مساءلة وبصرف النظر عن الأداء والنتائج.

"
نجحت الشعوب نجاحا باهرا في إجلاء المحتل وسلمت أمرها لنخب فشلت فشلا ذريعا في بناء دولة المواطنة وبناء اقتصاد وطني متين وتحقيق العدالة والتنمية
"

بداية الخذلان في العصر الحديث كانت بعد الاستقلال، حيث نجحت الشعوب نجاحا باهرا في إجلاء المحتل وسلمت أمرها لنخب فشلت فشلا ذريعا في بناء دولة المواطنة وبناء اقتصاد وطني متين وتحقيق العدالة والتنمية.

وبعد أن خذلته النخبة الحاكمة علق الشعب آماله على النخب المعارضة فلم يكن أوفر حظا، حيث لم تكن هذه الأخيرة أكثر كفاءة، وفشلت في استجماع ومراكمة شروط التغيير والنهوض، وأقحمت الشعب –دون تفويض أو تخطيط– في صدامات غامضة وغير متكافئة وفي توقيت غير مناسب، مدفوعة بأوهام وقرارات ارتجالية، ودفعت الشعوب الثمن باهظا، ونفرت من الشأن العام الذي ظل ساحة للصراع على السلطة بين النخب بعيدا على هموم الشعب وتطلعاته.

وجل من حكم من النخب أفسدته السلطة أو كان أداؤه مخيبا. ونادرا ما أفلحت النخب الحاكمة أو المعارضة منذ الاستقلال في تعظيم المكاسب أو مراكمتها أو حسن توظيفها أو حتى تثبيتها، سواء كان المكسب من صنع الشعب أو من صنع النخبة. وغاب الاتساق والتزامن بين تحركات النخب والشعوب.

فكثيرا ما فاجأت الجماهير النخب وسبقتها، وكثيرا ما أساءت النخب تقدير التوقيت فتحركت دون تعبئة الشعب، أو فشلت في استثمار هبات شعوبها. وكثيرا ما انتكست البلاد العربية والإسلامية خلال الانتقال من مرحلة إلى أخرى بسبب الاسترخاء المبكر للشعوب وافتقارها لطول النفس، وبسبب تخبط القيادات، وإخفاقها في تقدير الموقف واستشراف المستقبل والتفاعل مع الواقع والحفاظ على التعبئة ومواكبة التطور، ولوقوعها في الغرور (والاستبداد وربما الفساد إن هي حكمت) وفي الارتجال وردود الأفعال بدل التخطيط المبني على المعطيات والإمكانات.

ثم أخذ شباب الثورة مصيره بيده، وتجاوز النخب الحاكمة والمعارضة التي عجزت عن استيعابه واستقطابه، ووجد حلا لمعضلة الفراغ القيادي، وشق طريقه وسط المأزق والجمود اللذين هيمنا على البلاد نتيجة الاشتباك المزمن وحالة الكر والفر بين النخب، واستطاع أن يخترق هذا الجدار ويحدث التغيير، بعد أن طور لقاحا فعالا ضد منظومة الاستبداد والفساد، واكتشف وصفة جديدة للتغيير تتميز ببساطتها ونجاعتها قوامها كسر حاجز الخوف وتوظيف وسائل العصر لاختراق القبضة الأمنية والتعتيم الإعلامي وتجريد النظام من وسائل التحكم والبطش والتشويه.

فكان أن حقق هذا الجيل في أسابيع ما عجزت عنه النخب خلال عقود، وأعادت الثورة الحياة للنخب ودفعت بهم إلى الواجهة ووضعتهم على المحك.

فهل ستكون النخب هذه المرة في مستوى التطلعات وفي مستوى هذا الحدث الجلل الذي لم تشهد له البلاد العربية مثيلا منذ الاستقلال، أم إن خذلان النخب والقيادات والأحزاب العربية لشعوبها سيستمر؟ هل يعود العرب إلى ساحة الفعل أم يصدق عليهم الزعم بأنهم لا يتركون فرصة تمر دون أن يضيعوها. التفاؤل مطلوب وجائز ولكن سجل النخب العربية وأداءها لا يطمئن، وفيما يلي بعض أسباب وملامح إخفاقاتها المتكررة:

1- هي نخب يغلب عليها النرجسية والأنانية والاستعلاء على الناس والانفصال عنهم، فالدوافع والطموحات التي تحركها ومعايير التقييم التي تعتمدها نادرا ما كانت وطنية. فهي إما شخصية أو في أحسن الأحوال فئوية أو حزبية أو طائفية، وكثيرا ما تقتصر على المادة والمجد والسلطة، ونادرا ما كانت واقعية ومستفزة، فهي إما حالمة أو محدودة، ونادرا ما كانت متسقة مع تطلعات الشعب وهمومه.

"
قليلة هي النخب التي تقدم في خطابها وبرامجها وتقييمها المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة فئوية كانت أم شخصية
"

فما دام الفرد مكين في مجاله أو فئته، وما دامت تلك الفئة بخير فالبلاد بخير. فقليلة هي النخب التي تقدم في خطابها وبرامجها وتقييمها المصلحة الوطنية على المصالح الضيقة فئوية كانت أم شخصية.

أما الشعب فهو جمهور وجسر للعبور إلى المجد، وهمومه وتطلعاته عبارات رنانة تزين الخطب والتصريحات والبيانات والحوارات التي ينصب تركيز النخب فيها على ذاتها وعلى الحكم، أو بتعبير الأستاذ فهمي هويدي "الجماعة أو الحزب هو الغاية بينما الوطن مجرد وسيلة تستخدم لتقوية الغاية".

تقوقع النخبة وانفصامها عن الشعب والغموض الذي ميز أطروحاتها وبرامجها جعل الشعب لا يرى في عملها سوى صراع على السلطة لا ناقة له فيه ولا جمل، ولا يثق في الكثير من النخب، ولا يكاد يفرق بين النخبة الحاكمة والكثير من النخب المعارضة التي لم يبد له أنها تناضل أو تضحي من أجله، ولذلك كثيرا ما قابل المجتمع تجاهل النخب بالمثل فكان سلبيا وحياديا إزاء صراعاتها.

2- افتقار النخب في تشخيصها للواقع وحكمها على الأشياء والأشخاص للموضوعية والواقعية والاعتدال، وعدم اعتمادها على الوقائع والأرقام، بل يغلب عليها الإنكار والمكابرة والشخصنة والغلو والإسقاط أي رؤية الأمر كما تشتهي وليس كما هو.

فالحقائق المرة تنكر وتغطى، ومن يصدع بها يستبعد، والأشخاص يرفعون أو يخفضون والأعمال تفخم أو تهون بحسب الهوى وبجرة قلم، ولا يرى من الكأس إلا نصفه الفارغ أو نصفه الملآن.

3- ضبابية الرؤيا وغياب التخطيط، وطغيان الارتجال وردود الأفعال والترقيع والتكيف مع الواقع. نتج عن ذلك غموض وتذبذب وعدم اتساق في الأهداف والأفكار والمواقف والخطط والخطاب، وتضارب بين الأقوال والأفعال.

4- القدرة الفائقة على تبرير الفشل والتنصل من المسؤولية عن النتائج، فالأهداف غير محددة ومعايير التقييم غير موضوعية، والأعذار والشماعات جاهزة مسبقا، ولا محاسبة ولا مساءلة عن الأداء.

فلم تتعود النخب خاصة السياسية منها على الشفافية والمساءلة وطرح برامج وحلول وتحمل المسؤولية عن النتائج. فالممارسة السياسية يطغى عليها النبرة الأيديولوجية والروح الحزبية والطابع النخبوي والخطابة والتنظير والشخصنة والتشنج والاحتجاج.

ونادرا ما عرف العالم العربي عملا سياسيا وطنيا براغماتيا راقيا وبناء يجمع القائمون عليه بين النزاهة والكفاءة، وأحزابا وطنية مشغولة بالوطن والشعب وليس بتعزيز مواقعها، وذلك بالضبط ما تحتاجه البلاد العربية لتنتصر فيها الثورة ولتنجح بعد انتصارها، وتلك قطعا نقلة ضخمة.

5) عجز صاخب يتجلى في كثرة المناشط والخطب والبيانات والشعارات والاجتماعات والمحاضر التي عادة ما يكون مردودها على أوضاع البلاد والعباد محدودا (تسمع لهم جعجعة ولا يرى لهم طحن) وكثيرا ما تتحول إلى غاية في حد ذاتها وتعد إنجازات، وربما يكون ذلك لتغطية الضعف الفكري والإستراتيجي وقلة الإنجازات الفعلية التي كثيرا ما يستعاض عنها بالتنظير والبلاغة وتقعيد الكلام حتى أن النخب تكاد تكون ظاهرة صوتية وخطابية، يطغى عليها توصيف الواقع ولعنه أو تبريره على حساب التشخيص والعلاج والحلول العملية.

6- رغم أن الإسلام يحث على الإحسان في كل شيء، نادرا ما يصادفك من النخب (خاصة من المشتغلين بالشأن العام) من هو متقن لعمله ومتمكن في مجاله أو من يتطور باستمرار. فلا تقدير للتخصص ولا حرص على توسيع المدارك واكتساب المهارات.

على العكس من ذلك، كل يظن أنه يفهم في كل مجال ويتجرأ على الإفتاء في كل مسألة، ويرشح نفسه لكل منصب ويتمسك به حتى وإن كان غير مؤهل له أو غير قادر على النهوض بأعبائه، خاصة إذا نجح في مجال أو مهمة ما.

وبدل التخصص والتمكن والإتقان لا تجد لدى العديد من النخب والقادة سوى معلومات عامة وسطحية وقدرات متوسطة وعادية. فلا عمق فكريا ولا حنكة قيادية ولا حصافة سياسية ولا نجاعة إدارية ولا تفكير أو تخطيط إستراتيجيا محكما.

"
في الوقت الذي أصبحت فيه القيادة والسياسة والتخطيط والإدارة فنونا وعلوما, لا تزال الأحزاب والجماعات يقوم عليها نشطاء لم يكتسبوا الخبرات المطلوبة
"

وفي الوقت الذي أصبحت فيه القيادة والسياسة والتخطيط والإدارة فنونا وعلوما وتخصصات تدرس لا تزال الأحزاب والجماعات في البلاد العربية يقوم عليها نشطاء أو خطباء لم يكتسبوا الخبرات المطلوبة لا بالدراسة ولا بالتدريب ولا حتى بالممارسة.

7- غياب النجاعة في العمل الجماعي بسبب قصور البناء التنظيمي وبسبب غموض وتداخل الصلوحيات والمسؤوليات. فهي نخبة مفككة ومشتتة تفتقد إلى الحد الأدنى من الثقة والتوافق فيما بينها، ولديها أزمات قد تتفاوت في حدتها وأسبابها ولكن نتيجتها واحدة: تثاقل الحركة وقلة المبادرة وبطء القرارات وغموضها وضعف العمل المشترك، وبالتالي العجز عن قيادة الجماهير والتفاعل مع الأحداث المتسارعة، وهو بالضبط ما نجح فيه شباب الثورة المتحرر من القيود التنظيمية والتعصب الحزبي والمطامع الشخصية.

ولأن الدكتاتورية داء معد عشش وانتشر في المجتمعات العربية على مدى عقود أو قرون، وأصاب أجزاء مختلفة من جسم المجتمع، فإن النخب لم تسلم من الدكتاتورية والإقصاء في إدارتها لشؤونها وتعاملها مع المخالف حتى داخل صفوفها. ولقد بدأت بعض أمراض السلطة تدب إلى النخب حتى قبل أن تحكم.

هذا التحليل الذي قد يجده البعض قاسيا لا ينكر وجود قامات عالية ومبدعين في كل المجالات وعلى مر العصور (وجلهم مستقلون)، ولا يقلل من إسهامات أولئك العظماء الذين أبرزت الفضائيات الكثير منهم، ولكن قلة عددهم خلال العقود الماضية والكبت السائد حد من تأثيرهم.

لقد آن للنخب أن تراجع نفسها ومسيرتها وتعتذر من شعوبها، وتحدث ثورة في تفكيرها ومقارباتها وأدائها وخطابها، حتى تكون في مستوى الآمال والتطلعات وفي مستوى هذه اللحظة التاريخية الفارقة.

وفي المقابل مطلوب من شباب الثورة أن يفرز نخبا وقيادات جديدة وقيادات وطنية كفؤة تكمل مسيرة الثورة بنفس الروح التي بدأتها.

فالشعب لم يقم بثورة ويقدم كل التضحيات ليستبدل الاستبداد بشلل وعجز وتناحر حزبي، أو ليستبدل نخبا فاسدة بنخب فاشلة. والثورة مهددة ليس فقط من أعدائها ولكن أيضا من عجز النخب والأحزاب السياسية ما لم يجبرها الشعب وشباب الثورة على أن تصبح وطنية تتعاون على النهوض بالوطن وتتنافس في خدمة الشعب، وتقيس نجاحها ليس بمكاسبها الحزبية أو بأعدادها أو مناشطها ولا شعبيتها ولكن بإسهامها في النهوض بالوطن وأمنه وازدهاره.

إن التغيير المطلوب لا ينبغي أن يختزل في أحزاب ودستور وصحف ومقرات ومهرجانات خطابية، ولا يتحقق بمجرد تغيير القوانين والسياسات وآليات الحكم وأجهزته، ولكن يقتضى إعادة صياغة العقول والنفوس والسلوكيات وتخليصها من رواسب قرون من الاستبداد وعقود من الاستعمار، وبالتالي فهو يحتاج إلى شراكة فعالة واتساق بين النخب القديمة والنخب الشابة وبينهما وبين الشعب.

"
مطلوب من الشعب وشباب الثورة أن يشكلوا جهاز المناعة للحياة السياسية حتى يبقوها خالية إلا من الوطنيين المخلصين الأكفاء، وسليمة من التعصب
"

مطلوب من الشعب وشباب الثورة أن يشكلوا جهاز المناعة للحياة السياسية حتى يبقوها خالية إلا من الوطنيين المخلصين الأكفاء، وسليمة من التعصب فضلا عن الانتهازية والوصولية والنفاق والتملق والتربح، فالسياسة مغرية والسلطة مفسدة والنخب المقبلة على السياسة والمرشحة لقيادة البلاد يعوز الكثير منها الكفاءة والتجرد والبعد الوطني للعمل السياسي ومفهوم الخدمة العامة، بل تعودوا على إدارة تنظيمات والسعي للتمكين لأحزابهم وخدمة أعضائهم وأنصارهم. وشتان بين ذلك وبين إدارة الدولة والنهوض بالوطن وخدمة الشعب.

وأكبر خطر يتهدد الثورات هو أن تكرر الشعوب الخطأ الذي ارتكبته إبان الاستقلال، فتترك الشأن العام للنخب، وتكتفي بالمتابعة السلبية للأحداث أو لأخبار النخب وانتظار الحلول السحرية منها ومن الدستور والانتخابات.

مطلوب أن ينخرط الشعب بكثافة في الشأن العام، وأن يكون حازما جدا مع النخب القديمة والجديدة يدعمها بسخاء إن أحسنت ويسألها ويقومها بصرامة إن أساءت.

ولا ينبغي أن يسمح للنخب والأحزاب أن تستهين به أو أن تتخذه سلما ومطية أو أن تحصر دوره في التصفيق والتصويت والهتاف. بل لا بد أن يوطن نفسه على أنه هو صاحب الشأن وأن النخب والأحزاب في خدمته ومسؤولون أمامه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.