سمعة الجهاز

سمعة الجهاز



قفَّ شَعر الرأي العام قروناً قرونا، وأبدت المجالس والمنتديات والصَّحافة الورقيَّة والأسافيريَّة أقصى اهتمامها بحكاية صفيَّة إسحق، وتصدَّى بالتعليق عليها كتاب مرموقون كثر، كالأستاذين فيصل محمد صالح وعمر القرَّاي، فما كل يوم تعلن فتاة، في بيئة تسودها الذهنيَّة الرعويَّة، أنها اغتصبت! لكن هذه التشكيليَّة السُّودانيَّة اتهمت ثلاثة منسوبين لجهاز الأمن الوطني باعتقالها بتاريخ 13/2/2011م، واقتيادها إلى أحد مباني الجِّهاز، حيث تناوبوا الاعتداء عليها!

طالب فيصل، في عموده اليومي بـ(الأخبار)، بإجراء تحقيق قضائي شفاف "وإلا لن يكون المرء، بعد الآن، آمنا على نفسه، أو أسرته، أو أصدقائه"! واستغرب القرَّاي، في مقاله الرَّاتب بـ(أجراس الحرِّيَّة)، صمت الجِّهاز عن نفي الواقعة، أو تأكيدها، أو الإعلان، على الأقل، عن إجراء تحقيق حولها! لكن الجهاز، بدلاً من الاستجابة لهذه المطالب البسيطة العادلة، حرَّك الإجراءات الجَّنائيّة ضدّ الكاتبين بتهمة "إشانة سمعته"!

(1)

هكذا خاطر الجِّهاز بوضع "سمعته" ذاتها محلِّ البحث (Res Gestae) بالمصطلح القانوني، إذ القاعدة الذهبيَّة هي أن "من يطرق باب العدالة ينبغي أن يفعل بأيادٍ بيضاء (He, who comes to justice, should come with clean hands)، فمن أين للجِّهاز أن يزعم لنفسه "سمعة حسنة" وهو الذي ما زال:

"
ما زال جهاز الأمن الوطني يتصدَّر أسباب اتهام النظام بانتهاك حقوق الإنسان، وخرق نصوص حمايتها، في الصُّكوك الدولية وفي وثيقة الحقوق الدستورية
"

1- يعمل بذات شروطه السَّابقة، مع أن مشروعيَّة تلك الشروط قد نسفها، تماما، نصُّ المادة 151 من الدُّستور الانتقالي لسنة 2005م، المستمدِّ من اتفاقية السلام الشامل، فتبدَّلت مهمة الجهاز، رغم المغالطات، إلى "جمع المعلومات، وتحليلها، وتقديم المشورة بشأنها لأجهزة الدَّولة المختلفة"؟!

2- ويتصدَّر أسباب اتهام النظام بانتهاك حقوق الإنسان، وخرق نصوص حمايتها، في الصُّكوك الدوليَّة وفي (وثيقة الحقوق) الدُّستورية، فأضحى الناس يعرفوننا، حتى في بلاد تركب الأفيال، بحرائق أبيي وكادوقلي، ومآسي كلمة وأبو شوك، وظلامات كجبار والمناصير والحامداب ومروي، بعد إذ أتى علينا حين من الدَّهر كانوا يعرفوننا فيه بـ"خارتوم باي نايت"، والقطن الطويل التيلة، ومشروع الجزيرة، والسكة الحديد، والصمغ العربي، والخطوط البحريَّة، والطيِّب صالح، وعطبرة، والمقرن، وسودانير!

3- ويتحمَّل وزر النقد الدَّولي للنظام، وأبرزه ما يتصل بمنهج إدارة أزمته مع المحكمة الجنائيّة الدولية، وكان وزير العدل الأسبق محمد علي المرضي قد اختزله بأنه "ثابت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"!

(2)

تمتع الجِّهاز، قبل وبعد 2005م، بسلطات وحصانات من شأنها أن تطلق أيَّ يدٍ في الخلق بلا حسيب، ليس في قانونه، فقط، وإنما في غيره أيضاً، بل وأصاب القوَّات النظاميَّة الأخرى من هذا "الطيِّب!" نصيب، كالآتي:

1- كان قانون الأمن لسنة 1999م يتضمَّن مثل هذه النصوص التي تمنح السُّلطات، وتحصِّن من التبعات. لاحظت ذلك، بوجه مخصوص، لجنة أنطونيو كاسيسي الدوليَّة للتحقيق في أحداث دارفور (راجع كتابنا: الحقيقة في دارفور، عرض وتقديم لتقرير (لجنة التحقيق الدَّوليَّة)، ط 1، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان 2006م، سلسلة قضايا حركيَّة"- 22، ص: 184-186).

فالمادَّة 31 منه كانت تسمح لعضو الجهاز بالقبض، والتفتيش، والاحتجاز، والتحقيق، كما تخوِّله المادَّة 9 احتجاز الممتلكات؛ وتمهله المادَّة 31 ثلاثة أيام لإخطار المحتجز بأسباب الاحتجاز، كما تخوِّل مدير الجِّهاز تمديد المدَّة لثلاثة أشهر، وتجديدها، بموافقة النائب العام، لثلاثة أشهر أخرى، وطلب تجديدها من مجلس الأمن الوطني لثلاثة أشهر إضافيَّة.

ورغم أنه يحقُّ للمحتجز، نظريّا، استئناف هذا القرار أمام القضاء، فإنه ليست هنالك ضمانات لاستعانته بمحام، علاوة على أن حقه في الاتصال بأسرته، بموجب المادة 32/2، مهدر، عمليَّا، بالعبارة التي تفرغ هذا الحقَّ من محتواه، إذ تشترط للتمتع به "ألا يخلُّ ذلك بسير الاستجواب"! ومعلوم أن "ذلك يخلُّ بذلك"، دائماً، في شرعة الأمن!

2- وفضلاً عن قانون الإجراءات الجَّنائية لسنة 1991م، كان قانون 1999م، أيضاً، يعيق مقاضاة الأشخاص ذوى السُّلطة. فالمادَّة 33 كانت تقضى بأنه "لا يجوز اتخاذ أيِّ إجراءات مدنيَّة أو جنائيَّة ضدَّ العضو أو المتعاون في أيِّ فعل متصل بعمل العضو الرَّسمي إلا بموافقة المدير".

فإذا أخذنا في الاعتبار أن موافقة المدير مشروطة بكون الإجراء "غير متصل" بالعمل "الرَّسمي"، فإن النص يمنح الأعضاء والمتعاونين، في الحقيقة، حصانة قويَّة (immunity) ضدَّ إلزامهم، مثلاً، بإعطاء أيِّ معلومات عن أيِّ "تعذيب" مدعى به. وعبارة "تتصل بالعمل الرَّسمي" نفسها مطاطة، فتتيح تكييفها حسب الحاجة! وحتى إذا وافق المدير، فإن العضو يقدَّم إلى محكمة سرِّيَّة "داخل" الجِّهاز، بالمخالفة لنصِّ المادَّة 41/1 من العهد الدَّولي للحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة التي تعتبر "العلنيَّة" معياراً دَّوليَّا لـ"عدالة" المحاكمة.

"
إذا كان الجّهاز تباهى في حالات نادرة بمحاكمة بعض منسوبيه، فإن ذلك بلا قيمة حقيقيَّة وسط موج متلاطم من الظلامات
"

3- هذه المادَّة تمكن، في الواقع، من الإفلات من العقاب (impunity)، إذ من غير المتوقع أن يستخدم المدير سلطته التقديريَّة في مواجهة مرؤوسيه، أو في مواجهته هو شخصيًا أو كبار معاونيه! ولئن تباهى الجِّهاز، في حالات نادرة، بمحاكمة بعض منسوبيه، فإن ذلك بلا قيمة حقيقيَّة وسط موج متلاطم من الظلامات، دَعْ السؤال عن "عدالة" وضع هذه السُّلطة، ابتداءً، في يد شخص واحد.. "فيك الخصام، وأنت الخصم والحكم"؟!

4- زاد طين هذا المنحى بلة صدور أمرين جمهوريين مؤقتين من رئيس الجُّمهوريَّة، في 4/10/2005م، بتعديلين جوهريين: أوَّلهما على قانون الإجراءات الجَّنائية لسنة1991م، وثانيهما على قانون قوَّات الشَّعب المسلحة لسنة 1986م، حيث انصبَّ كلاهما على تحصين عضو الشُّرطة والقوَّات المسلحة من المسؤوليَّة الجَّنائية جراء "التعذيب ضد المدنيين العُزَّل"، أو حتى "القتل العمد"، وتمكينه، بالتالي، من الإفلات من العقاب، بحيث لا يقتضى الأمر سوى "الدِّيَّة"! وحتى هذه تتكفل بها الدَّولة حسب المادَّة 733 في التعديل الأوَّل، والمادَّة 79/أ/3 في التعديل الثاني.

ولاحظنا، حينها، أن سقوط التعديلين في المجلس الوطني لن يعوِّض عمَّا يوفرانه، فعليَّاً، من "حصانة" وفرص "إفلات من العقاب" خلال مدة سريانهما، فضلا عن أنه لا يوجد، بالنظر لاتجاههما العام، ما يضمن عدم صدور أيِّ تشريع مشابه مستقبلاً.

5- ومن أهم معيقات العدالة "التقادم" المسقط للدَّعوى الجَّنائية. فرغم أن القانون الجَّنائي الدَّولي لا يعترف به في قضايا حقوق الإنسان، كما وأنه لم يكن معمولاً به في السُّودان، قبل1991م، إلا أن المادَّة 1/38 من قانون الإجراءات الجَّنائية لسنة 1991م نصَّت، لأوَّل مرة، على سقوط الدَّعوى الجَّنائية ذات العقوبات التعزيريَّة إذا انقضت مدَّة التقادم، وهي عشر سنوات بدءاً من تاريخ وقوع أية جريمة معاقب على ارتكابها بالإعدام أو السجن عشر سنوات فأكثر.

وتسري أحكام المادَّة 38 بأثر رجعي، استنادا إلى قاعدة القانون الأصلح للمتهم! هذا النصُّ ينطبق على قانون1999م، رغم خلوه من أحكام "التقادم"، كون المادة 3 من قانون الإجراءات الجَّنائية لسنة1991م لا تقصر تطبيق أحكامه على الجرائم المشمولة بالقانون الجَّنائي لسنة1991م، وإنما تشمل أيَّ جرائم في أيِّ قانون آخر، مِمَّا يعنى أن انقضاء عشر سنوات على أفعال "التعذيب"، مثلاً، يُسقط، تلقائيًا، أيَّ دعوى جنائيَّة محتملة بشأنها.

أضف إلى ذلك التقادم المسقط لدعاوى التعويض المدنيَّة، حيث تقضى المادَّة 159 من قانون المعاملات المدنيَّة لسنة 1984م بعدم سماعها بعد انقضاء خمس سنوات من علم المضرور، وخمس عشرة سنة من وقوع الفعل الضار.

(3)

مثلما في عهد ما قبل الاتفاقيَّة والدُّستور الانتقالي، واصل الجِّهاز، بعد صدورهما أيضاً، خوض "معركته" ضدَّ الحرِّيَّات والحقوق، متمتعاً بالسُّلطات والحصانات المطلقة! ولعلَّ هذا هو ما حدا بلويز آربور، المفوَّضة السَّامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، لأن تعبِّر، في ختام زيارة إلى السُّودان أواسط 2006م، عن بالغ قلقها "إزاء قوَّات الأمن التي تقوم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الاعتقالات التعسُّفيَّة والتعذيب في أماكن تابعة لجهاز الأمن"، ومطالبتها، من ثمَّ، "بإعادة ترتيب الجِّهاز وإصلاحه بصورة عاجلة، لأنه لا يتفق مع المعايير الدَّوليَّة لحقوق الإنسان في عدم محاكمة المسؤولين، وفي الحصانات الواسعة الممنوحة لهم"، وأن "ثمَّة حاجة إلى تغيير كامل لنظام الأمن الوطني في البلاد" (وكالات، 5-6/5/2006م).

ومن عجب أن المجلس الوطني الذي أنيط به إصدار قوانين "التحوُّل الديمقراطي"، خلال الفترة الانتقاليَّة (2005م-2011م)، أجاز قانون الأمن الوطني الجديد لسنة 2010م، الذي يكرِّس أوضاع "الشُّموليَّة"، تماماً كما هو حال قانون 1999م، حيث التفَّ القانون الجديد على شرط المادَّة 151 من دستور 2005م الانتقالي، والذي يقيِّد عمل الجِّهاز بـ"جمع المعلومات وتحليلها ونصح أجهزة الدَّولة بشأنها"، فأغرقه في لجج لغويَّة يبدو ظاهرها خاضعاً لهذا القيد، بينما تنطوي على كلِّ دلالات الانفلات من أسره إلى طلاقة النشاط القمعي المباشر، والمدجَّج بسُّلطات وحصانات غير محدودة، فمثلاً:

"
حقوق المعتقل في معرفة أسباب اعتقاله، وزيارة أسرته ومحاميه ستبقى محض كلام مرسل على الورق, طالما هي مشروطة بـ"إذا لم يضرُّ ذلك بسير التحرِّي"!
"

1- المادَّة 4/1 تجعل مهمَّة الجِّهاز "تنبيه أجهزة الدَّولة المختصَّة بقدوم خطر داخلي أو خارجي". لكنها، بعد تعدادِ صنوف هذا الخطر، بما فيها "تهديد السَّلامة الاقتصاديَّة، والنظام (الدِّيمقراطي!)، والنسيج الاجتماعي"، تعود لتضيف إلى هذه المهمَّة "بث الطمأنينة وسط المواطنين"! هكذا يعبِّر النصُّ، بالمخالفة للدُّستور، عن وظيفتين للجِّهاز، "استشاريَّة" و"تنفيذيَّة" في آن!

2- أوضح من كلِّ ذلك "اختصاصات وسلطات الجهاز" كما تحدِّدها المادَّة 24، حيث لا تكتفي بأن يباشر الجِّهاز وظيفته "الاستشاريَّة" الفنيَّة في جمع المعلومات، وتحليلها، والتوصية بشأنها، وإنما تطمر هذه المهمَّة الدُّستورية في محيط هادر من الوظائف "التنفيذيَّة"، من شاكلة "حفظ" الأمن، و"تأمين" المدن، و"حماية" الدُّستور والنسيج الاجتماعي وسلامة المواطنين، و"مكافحة" النشاط "الهدَّام!"؛ ولعلَّ طبيعة "قيام" الجِّهاز بهذه الوظائف لا تحتاج إلى فانوس ديوجينس لإضاءتها!

3- كذلك فإن المادَّة 25 من الوضوح بما لا يخلف أدنى لبس، إذ تنصُّ على قائمة من "سلطات الجِّهاز" من شأنها "مصادمة الحقوق" مباشرة، ومع ذلك جاءت هذه القائمة تالية لعبارة "بعد الاطلاع على (وثيقة الحقوق) الواردة في الدُّستور"، بينما كان الأجدر أن تقرأ "على الرَّغم من (وثيقة الحقوق) الواردة في الدُّستور"! إن حال هذا النصِّ كحال سائق السَّيارة الذي يؤشر شمالاً وينعطف يميناً!

4- أمَّا المادَّة 50، بعنوان "سلطات الأعضاء والمدير والمجلس"، فتكاد تكون، من حيث التفتيش، والقبض، والحجز، منقولة بحذافيرها من قانون 1999م، لولا بعض الفروق، خصوصاً في ما يتصل بمدَّة الثلاثين يوماً المقرَّرة لأيِّ عضو بالجِّهاز للحجز والقبض، بدلاً من الأيَّام الثلاثة في قانون 1999م، وكذا مدَّة الخمسة عشر يوماً المقرَّرة للمدير، بدلاً من الثلاثة أشهر في القانون القديم، وتمديدها لثلاثة أشهر بأمر مجلس الأمن الوطني بدلاً من أمر المدير بموافقة النائب العام.

ويجدر هنا لفت الانتباه إلى أن الفريق محمد عطا، مدير الجِّهاز، عندما وجد أن مشروع القانون الجَّديد الذي أجازه مجلس الوزراء حدَّد فترة الاعتقال بشهر واحد، قال إنها قصيرة، وطالب البرلمان بزيادتها إلى 45 يوماً، كما في بريطانيا، "فالبلاد مواجهة بجرائم.. تتطلب مدة أطول في الاعتقال" (الشرق الأوسط، 19/10/09).

5- وأمَّا المادَّة 52، بفقراتها السِّت، فتسيِّج عمل الأعضاء والمتعاونين بقدر هائل من الامتيازات والحصانات، حتى لا تكون ثغرة ينفذ منها سبيل لأخذ أيٍّ منهم بأيَّة جريمة، وحتى عندما يمكن تعريضه للمساءلة، فإن ذلك لا يتمُّ إلا بموافقة المدير، وبموجب محاكمة داخليَّة سرِّيَّة، تماماً كما هو حاصل في قانون 1999م.

6- وأمَّا المادَّة 51، عن "حقوق المعتقل"، فغير منظور، في ضوء الخبرة السَّابقة، تطبيق أيٍّ من فقراتها العشر، وفي مقدِّمتها إبلاغه فوراً بأسباب اعتقاله، وزيارة أسرته ومحاميه "إذا لم يضرُّ ذلك بسير التحرِّي!"، وأن يتظلم للمحكمة، وتحفظ كرامته؛ لذا ستبقى هذه "الحقوق" محض كلام مرسل على الورق!

(4)

حكمة لورد أكتون (1884م–1902م) بأن "السُّلطة مفسدة، والسُّلطة المطلقة مفسدة مطلقة" تفرض على أهل الجِّهاز أن يدركوا ما يعلمه العامَّة عن جهازهم، وهو أنه رتع في "نعيم!" هذه "السُّلطة المطلقة!"، وتبحبح في أكناف مقاصدها، حتى نسبت إليه الذهنيَّة الشَّعبيَّة كلُّ "مفسدة مطلقة"، ولا لوم إلا عليه، ولن يقف الأمر عند "صفيَّة"، بل سيتعدَّاه إلى "صَّفيَّات" و"أصفياء" أخريات وآخرين ستعلق دماؤهم ودماؤهنَّ بـ"سمعة الجِّهاز" ما لم يجهد نفسه في تطهيرها، بدلاً من الانشغال بالمقاضاة الجَّنائيَّة.

"
جهاز الأمن رتع في نعيم السُّلطة المطلقة، وتبحبح في أكناف مقاصدها، حتى نسبت إليه الذهنيَّة الشَّعبيَّة كلُّ مفسدة مطلقة؛ ولن يقف الأمر عند "صفيَّة"، بل سيتعدَّاه إلى صَّفيَّات وأصفياء
"

وهَبْ أنهم "يتقوَّلون" عليه، أفيجيئون شيئاً إدَّاً، أم يتصرَّفون وفق سير الأمور في الحياة العاديَّة؟! إن أحداً لن يصدِّق "براءة" الجِّهاز حتى يسلك مسلك "الأبرياء". وها دوننا، مثلاً، أحدث المعطيات: حكاية الطالب حسين إبراهيم انقابو، من أبناء كاس بجنوب دارفور، بالمستوى الرابع بكليَّة التربية بجامعة الدَّلنج؛ فبعد مشاركته، في الخميس 16/6/2011م، في مخاطبة بجامعة الخرطوم حول الوضع في دارفور، جرى اختطافه، صباح الجُّمعة 17/6/2011م، من الشَّارع العام، بالقرب من مسكنه بحي مايو، ثمَّ قتل، وقذفت جثته في العراء صباح السَّبت 18/6/2011م. أفلو اتجَّهت أنظار الناس إلى الجِّهاز يكونون قد كفروا؟! أم إذا طالبوه بالتحقيق في الواقعة، ولو من باب تبرئة ذمَّته، أوقفهم في أقفاص الاتهام الجَّنائي؟!

(5)

المشكلة أن الجِّهاز نفسه، لكثرة "سلطاته" و"حصاناته"، يكاد لا يصدِّق "براءته"! فالأستاذان فيصل والقرَّاي استشعرا مسؤوليَّتهما للمطالبة بالتحقيق في واقعة صفيَّة. لكن فعلهما كان، في ما يبدو، "طاقيَّة" وجدها الجِّهاز على "مقاسه"، فالتقطها، وأحكم وضعها على رأسه، معتبراً أنهما يقدحان في "سمعته"! وبشأن هذه المفارقة روى عبد الوهاب الأفندي طرفة تداولتها مصر، أيَّام عبد الناصر، بأن الشُّرطة ضبطت رجلاً يدعو في قارعة الطريق: "اللهم عليك بهذا الحاكم الظالم"! فأحالته إلى المحكمة التي حكمت عليه بالسجن ستة أشهر لإساءته لرئيس الجمهوريَّة! ولمَّا دفع الرجل بأنه لم يذكر الرئيس، وإنما كان يدعو على الحاكم الظالم، ردَّ القاضي: "وهل هناك ظالم غيره؟!" (سودانايل، 20/6/2011م).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.