حركة النهضة في الذكرى الثلاثين

حركة النهضة في الذكرى الثلاثين



توطئة: من كان يخطر بباله أن يحصل ما حصل في 14 يناير/ كانون الثاني، والأسابيع التي مهدت له والتحولات التي جرت وتجري؟ أن يقود احتراق البوعزيزي رحمه الله إلى لهيب ثوري يجتاح البلاد التونسية من أقصاها إلى أقصاها حتى يستقر الحريق في العاصمة فيقوض ملك الطاغية وعصابة المافيا الملتفة حوله وجهازه القمعي وأداته الحزبية فلا يجدون سبيلا غير الهروب الذليل، بما فتح أبواب السجون ومعابر الحدود أمام عودة أشد معارضيه إلى الساحة تهتف باسمهم عشرات ومئات الآلاف وترتفع رايات أحزابهم، بينما توصد أوكار حزبه المتعفن ويلاحق رموزه بجرائم النهب والقتل، ويمتد اللهب المقدس ثورة عربية وإنسانية؟

إنه لمن دواعي الثناء على الله عز وجل بما هو له أهل من الحمد والشكر أن يأتي على أبناء حركة الاتجاه الإسلامي سلف النهضة، حين من الدهر بعد ثورة يناير المباركة وليس من بين قيادييها وأعضائها سجين ولا مشرد، وتكون هذه أول ذكرى نحتفي فيها علنا ومجتمعين وذلك بعد ثلاثين سنة من تأسيسها في 6/6/1981، استقبلت خلالها المعتقلات ما لا يقل عن ثلاثين ألفا، وزّعت عليهم المحاكم الظالمة آلاف الأعوام من الأحكام بالسجن، هي ضروب من الموت البطيء، آتت أكلها في الإجهاز على ما لا يقل عن مائة وخمسين منهم، فارضة القهر والتنكيل والمحاصرة والطرد من الشغل على مئات الآلاف من عوائلهم وأصدقائهم، وعلى عدة آلاف التشرد في أكثر من خمسين دولة في العالم في أوسع هجرة وأشرس هجمة على حركة عرفها تاريخ البلاد.

"
هاهي الحركة النهضة مثل طائر الفينيق تنتفض من تحت الرماد تملأ الساحات وتستقبلها الجماهير بفيض عارم من الحب والولاء آلافا مؤلفة، حيثما حلت في أرجاء البلاد
"

وهاهي الحركة النهضة مثل طائر الفينيق تنتفض من تحت الرماد تملأ الساحات وتستقبلها الجماهير بفيض عارم من الحب والولاء آلافا مؤلفة، حيثما حلت في أرجاء البلاد، فارضة نفسها معطى أساسيا في تاريخ تونس الحديثة وحاضرها، رفضا لسياسات تهميش الإسلام والعروبة المعتمدة من دولة الاستقلال وتأكيدا لهما في أي مشروع تنموي مستقبلي جاد للبلاد، وذلك ضمن تعددية سياسية لا تبدو المسافة فيها بين الحركة الإسلامية وبين أقرب الأحزاب إليها قابلة لأن تعبر.

فعلى قدر البذل يأتي العطاء وزيادة تليق بالكريم، {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}. فما العبرة والرسائل؟

1- أصالة العقائد وما ارتبط بها من مشاريع مجتمعية وعبث الطغيان:

لقد استنفد الرئيسان المخلوعان كل الإمكانات القمعية للدولة الحديثة مستعينين بأوسع قطاعات "الحداثة" من أجل سلخ البلاد من هويتها الإسلامية العربية وربطها بما وراء البحار، متدرعين بواجهة براقة زائفة من الحداثة لتسويغ سياسات الاستبداد والفساد، فكانت الهجمة الأولى صبيحة الاستقلال على الإسلام والعروبة عقائد وشعائر وقيما ومؤسسات ورموزا، فما مضى غير عقد ونصف عقد على انطلاق الهجمة حتى تنبه المجتمع للخطر الماحق الذي يهدد كيانه، فكان ميلاد الحركة الإسلامية في بداية السبعينيات استجابة لطلب شعبي عميق وواسع على الهوية المهددة وعلى الكرامة والعدل المستباحين.

ورغم سلسلة المواجهات المتلاحقة ضد التيار الإسلامي فقد استمر صعوده وتغلغله في أعماق المجتمع عبر الآلام المبرحة التي سلطت على أتباعه وأقاربهم منذ سنة 1981 (500 سجين بينهم القيادة التاريخية) وبلغ القمع مستوى أعلى سنة 1987 حيث أنضجت الحركة التغيير خلال مسيرات استمرت طيلة ثمانية أشهر كانت من إرهاصات ثورة 14 يناير، اضطرت إلى الكمون في انتظار تآكل الصف المعادي، حتى كانت الثورة المباركة التي أزاحت السد من طريق التيار الإسلامي الذي أوقفه بالقوة المتوحشة إثر انتخابات 1989 التي حسمت نتائجها القوة الغاشمة حرمانا للإسلاميين من فوزهم المحقق، فانطلق التيار متدفقا، بما له دلالة واضحة على أن العقائد والأفكار وما يرتبط بها من مشاريع مجتمعية تنافح على العدل والحرية هي أصلب من هراوات الطغاة ومخابراتهم وجملة مكايداتهم مهما تلقت من دعم خارجي.

فقد عجزت بعد أزيد من نصف قرن من كيد الدولة الحديثة الدؤوب عن اقتلاع تونس من تربتها الطبيعية العربية الإسلامية لمصلحة استبدالها بتربة غريبة عنها, وأثبت شعب تونس تمسكه المطلق بهويته وتأبِّيه عن محاولات السلخ والتفكيك والتدمير.

ومشهد المساجد المزدحمة حتى درجة الفيضان في الشوارع والساحات وتزايد الإقبال على البرامج الدينية والأزياء الإسلامية.. والتضخم الكبير للقاءات التي تعقدها النهضة على امتداد البلاد.. شواهد على شدة ارتباط المجتمع التونسي بهويته وما ارتبط بها من مشروع مجتمعي تحرري، فماذا جنت الحملات المتلاحقة على الحركة، غير الخيبة وسوء السمعة بل والدمار الشامل؟ فهل يعي ورثتهم هذه الحقائق، ويكفون عن عقلية الوصاية والقمع والتسلط ووسوسة الانقلاب على إرادة الشعب بدل الاحتكام إليها والقبول بتونس للجميع على حد سواء؟

2- دعوة إلى الالتزام بنهج الوفاق:

"
على مشارف انتخابات المجلس التأسيسي اندفعت قوى سياسية وأيديولوجية منافسة للنهضة إلى انتهاج سبيل الكيد للمنافسين والسعي إلى تهميشهم ولو بالتنكر عن نهج الوفاق
"

على مشارف انتخابات المجلس التأسيسي اندفعت قوى سياسية وأيديولوجية منافسة للنهضة إلى انتهاج سبيل الكيد للمنافسين والسعي إلى تهميشهم ولو بالتنكر عن نهج الوفاق المصدر الأساسي للشرعية في هذه المرحلة, ومن ذلك تعمّد إغراق الهيئة الوطنية لحماية الثورة بكتلة ضخمة من الأعضاء تحت مسمَى "شخصيات وطنية" بما يشبه عملية إنزال عسكري انقلابي على الثورة, بما قاد إلى اختلال التوازن داخل الهيئة, وما أفرزته من لجنة عليا للانتخابات ذات لون أيديولوجي واحد كاسح، فلم تتردد في النكوص -بشكل مفاجئ ودون تشاور مع مصدر شرعية اللجنة ولا مع الحكومة- على الوعد بإجراء الانتخابات في الأجل الذي حدد بوفاق، وهو ما فجر قنبلة زلزلت التوازنات السياسية والأمنية الهشة بما لم يبق أمام عدة قوى سياسية وشخصيات غير التعبير عن غضبها ورفضها لهذا النهج المتعالي من الهيئة واللجنة الذي انتهجته في تنكب سافر عن نهج الوفاق الأساس الوحيد للشرعية وللقرار في غياب الشرعية الانتخابية.

ورغم القرار المنفرد بتأخير الانتخابات مع ما يفتحه ذلك من احتمالات الانخرام، ورغم التذرع بالصعوبات الفنية لتسويغ التأخير فالأمل المتبقي ألا يقع النكوص مرة أخرى على الموعد الجديد لانتخاب مجلس تأسيسي ظل الشعب يوالي التضحيات منذ ثلاثة أرباع قرن من أجل إرسائه.

3- رهان دائم على الائتلاف:
إن النهضة لا يحملها وزنها الشعبي المعتبر ولا ما يمارسه البعض من تنكب عن نهج الوفاق والزج بالبلاد في المجهول.. عما التزمت به من نهج الوفاق والتعويل على منوال ائتلافي إن في مستوى الانتخابات أو في مستوى الحكم البديل باعتباره النهج الأقوم لمواجهة التحديات التي تعترض تونس الثورة, والتي يعسر معها على أي طرف –مهما بلغت قوته الشعبية- أن يواجه تلك التحديات منفردا.

إن ما كانت قد أقدمت عليه النهضة من تعليق مؤقت لعضويتها في الهيئة الوطنية رسالة احتجاج على إرادة التحكم والحياد عن نهج الوفاق، ودعوة إلى الالتزام به أساسا لكل شرعية في المرحلة الانتقالية، وتحميل للحائدين مسؤولية حالة الارتباك النفسي والاجتماعي والأمني التي أشاعها التأجيل، وذلك في أوضاع هشة.

4- استمرار الفزاعة الإسلامية بعد رحيل المخلوع:
من المفارقات أن ترث بعض الأطراف السياسية والإعلامية، الصناعة التي أدمن عليها المخلوع أعني الاستخدام المكثف والدؤوب للفزاعة الإسلامية مستخدمين سلاح التخويف والتهويل والتلويح ليل نهار بهذه الفزاعة.

لماذا يستمرون في الحملات الإعلامية ربطا للإسلام حينا وللنهضة غالبا بالخطر على الحرية وحقوق الإنسان وعلى الفنون وعلى الاقتصاد ولا سيما على المرأة؟ هل قدر النخبة السياسية التونسية أن تجعل رزقها محاولات متكررة يائسة لإغراق الشعب في ما يشبه أجواء الحرب الباردة؟

لقد أكدت النهضة وتؤكد مجددا فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها غير ما تستمده من قبول شعبي تفصح عنه صناديق الاقتراع عبر انتخابات تعددية نزيهة.

"
أكدت النهضة وتؤكد مجددا فيما يتعلق بعلاقة الدولة بالدين التزامها بمقومات الدولة المدنية الديمقراطية التي لا سند لشرعيتها غير ما تستمده من قبول شعبي عبر انتخابات تعددية نزيهة
"

كما أكدت قاعدة المواطنة والمساواة بين الجنسين أساسا لتوزيع الحقوق والواجبات كتأكيدها لمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. أكدت النهضة ذلك منذ سنة 1988 في الميثاق الوطني وتوسعت في تأكيده في الوثائق التي توصلت اليها مع شركائها في حركة 18 أكتوبر/ تشرين الأول، وأكدته في ما لا يكاد يحصى من تصريحات. ولم تعترض بل وافقت على قاعدة المناصفة في المجلس التأسيسي.

إن مما يبعث على التفاؤل بمستقبل تونس وجود أرضية واسعة وصلبة مشتركة بين أوسع التكوينات السياسية التونسية إقرارا بالهوية العربية الإسلامية وبمقومات النظام الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، بما يوفر حظوظا كبيرة للنجاح وللمشاركة في صناعة المستقبل.

5- غير راضية عن بطء الحكومة:
سواء أتعلق الأمر بمعالجة تدهور الأوضاع الأمنية، التي لا شك في علاقتها بالحزب المنحل لإرباك الأوضاع، أم تعلق بتدهور الخدمات العامة وتفشي البطالة؟ أم تعلق بملاحقة رموز الفساد والقمع؟ فلا الأموال المنهوبة استردت ولا رموز الفساد والاستبداد حوكمت, ولا مؤسسة القضاء تطهرت. لماذا النيابة العمومية تبدو نائمة هذه المرة؟

6- راية تونس تهدي الحائرين وتهز عروش الظالمين ولكن:
إن ثورة 14 ينايرالمباركة رفعت راية تونس خفاقة في كل شارع يلهج بالحرية ملهمة للشعوب المقهورة وصفة الشفاء من داء الدكتاتورية العضال، بما مثل أعظم أحداث عصرنا، إذ أدخلت الثورة شعبنا إلى التاريخ وحتى للجغرافيا، وهي بصدد فعل ذلك في أكثر من شعب عربي والبقية تتحفز للانتفاض على طغاتها.

ومع هذه المكانة العليا التي اكتسبتها تونس فشلت الحكومات المتوالية في توظيف هذا الرأسمال الرمزي العظيم، لم تبد الحكومة المؤقتة أي تفاعل مع هذه الثورات التي ألهمتها ثورتنا ولا ادخرت عندها رصيدا للمستقبل.

7- رقيّ شعبي في التعامل مع الشقيقة ليبيا:
حوالي ربع مليون ليبي وفدوا إلى بلدهم تونس فأحلهم شعب تونس وخصوصا في الجنوب في قلوبهم، وشاركوهم مساكنهم محققين وصف القرآن في الصالحين {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}.

8-غير مرتاحين للتلويح بمسارات جديدة:
أخذت الآونة الأخيرة أصوات ترتفع في مجال الإعلام والسياسة تلوح بمسارات أخرى غير الاتجاه إلى انتخاب مجلس تأسيسي من مثل المضيّ قدما إلى تعديلات دستورية ودعوة الشعب للاستفتاء عليها ثم انتخاب رئيس جمهورية بما قد يعنيه ذلك من تحويل هيئة حماية الثورة برلمانا بديلا!!

نحن نحذر من كل محاولات الالتفاف على الثورة. ولكننا واثقون في عبقرية شعبنا وفي وعي وقدرات شبابنا حراس الثورة، واثقون بأنه سيضع حدا لتلاعب النخب في يوم غير بعيد إذا هي أمعنت السير على نهج التلاعب.

9- النهضة مشروع اجتماعي اقتصادي:

"
النهضة مشروع اجتماعي اقتصادي, يطلق طاقات الإبداع ويحفظ روابط الأخوة الوطنية ويصون البيئة واستقلال البلاد ويوفر الضرورات الحيوية لكل مواطن
"

(سنعلن عنه قريبا إن شاء الله)، مشروع يطلق طاقات الإبداع ويحفظ روابط الأخوة الوطنية ويصون البيئة واستقلال البلاد ويوفر الضرورات الحيوية لكل مواطن وحقوقه وحرياته الأساسية، على اعتبار أن المشكل الاقتصادي الاجتماعي ولا سيما مشكل البطالة وتدهور الخدمات العامة في مقدمة التحديات التي تواجه الثورة، بما يكون معه الواجب الديني والوطني وبالخصوص في هذه المرحلة الانتقالية تجنّد الجميع من أجل تنشيط آلة الإنتاج ومنع اقتصادنا من أن ينهار مما لا يحقق غير أهداف أعداء الثورة.

صحيح أن القوة الشرائية لعامة المواطنين ضعيفة والأجور زهيدة، ولكن الأولوية في هذه المرحلة لتشغيل العاطلين وليس للزيادات.

في الأخير إذ نحيّي شهداء ثورتنا المباركة وأجيال الشهداء الذين عبدوا الطريق أمامها من كل الاتجاهات وبالخصوص شهداء الحركة الإسلامية وعوائلهم القلاع الصامدة، نحيي حراس الثورة المباركة بكل اتجاهاتهم، ونحن واثقون من أن الله سبحانه الذي حفظ بلادنا وحركتنا مما كاد الكائدون.. فكانت هذه الثورة المباركة.. وأشرقت الشمس, سيحفظ بفضله ثم بجهد عباده الصالحين دماء شهدائها حتى تهتز أرض الخضراء عدلا وكرامة وحرية ونماء {والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون}.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.