تفاعل الغيب والشهادة في الثورة التونسية

تفاعل الغيب والشهادة في الثورة التونسية



يجمع المتابعون على أن الثورة في تونس كانت حدثا استثنائيا لم يتوقعه أحد ولا انتظره في لحظته وكيفيته، وتثبت المواقف السياسية التي رافقت الثورة في لحظاتها الأخيرة أن لا أحد كان يتصور رحيل الرئيس بن علي بتلك الطريقة، فما الذي حصل بالضبط؟ وكيف يمكن فهم هذه الثورة؟

تعوّد المفكرون والمثقفون في عالمنا العربي خاصة على المسارعة إلى تنزيل مقولات جاهزة -كل على شاكلته ووفقا للمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها- على أحداث واقعية من أجل تفسيرها وتبريرها. غير أنهم في هذه المرة وجدوا أنفسهم عاجزين عن إيجاد آلية تنزيل مناسبة، فانكفأ البعض على محاولة الفهم والدراسة، واكتفى البعض الآخر بالصمت والمتابعة والتأمل، في حين لم يتوان آخرون عن تفسير الثورة بتعسف وصل بهم حدّ التخلي عن موضوعيتهم العلمية من أجل تبرير مواقف سياسية سارعوا إلى تبنيها بعيد الثورة وتبين لهم أنها مناقضة لمطالب الجماهير.

"
في تونس الآن يدور الخلاف حول الثورة بحدّ ذاتها، هل هي ثورة أم حالة ثورية أم أنها انتفاضة أو حركة احتجاجية؟ وهو جدل يبيّن قصر نظر الخائضين فيه وتخلفهم عن مواكبة واقعهم
"

لم يدرك هؤلاء أن الواقع لا تصنعه المفاهيم النظرية المجردة، وقد يسعفهم الواقع بما يمكنهم من تأسيس مقولات نظرية جديدة إن تحلّوا بالروح العلمية المرنة التي ترفض التحصن بالمفاهيم الأيدولوجية الجامدة.

في تونس الآن يدور الخلاف حول الثورة بحدّ ذاتها هل هي ثورة أم حالة ثورية أم أنها انتفاضة أو حركة احتجاجية؟ وهو جدل يبين قصر نظر الخائضين فيه وتخلفهم عن مواكبة واقعهم، بسبب غلبة منهج "سكولاستيكي" يحصر الصراع في المفاهيم بعيدا عن ديناميكية الواقع المعيش.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يحيط بالثورة مكر آخر لا يقل خطورة عن الجدل المذكور آنفا، ويبرز سوء نية البعض ممن قضت الثورة على مواقعهم ومصالحهم، وهو مكر يحاول إغراق المجتمع التونسي في المتاهات الأولى التي تعقب كل عملية تحررية، الأمنية منها والسياسية، خاصة من أجل تيئيس الثائرين وجعلهم يندمون أو يطالبون بعودة الدكتاتورية.

تتقاطع مصالح الفريقين في محاولة للحفاظ على مواقعهم ولكن بمنهج مختلف بينهما، غير أنه يشترك في قصور نظر -حسب رأينا- لحقيقة فهم ما حدث في تونس ومن بعدها مصر، فهناك بُعد غائب في التحليل لم يتجرأ إلى الآن أي من الباحثين أو السياسيين على التعرض له إما عمدا أو جهلا.. هذا البعد هو العامل الغيبي في تحريك الأحداث.

حتما سيكون هناك من يسارع إلى اتهامنا باتهامات التعسف على الواقع والجهل بحقائق التحليل الموضوعي ومحاولة ركوب موجة الثورة وغيرها من الاتهامات التي نتفهمها بما أن أصحابها لا يضعون البعد الغيبي في تفسير التاريخ ضمن آليات تحليلهم، لكننا لا نقبلها كمصادرة على منهج مختلف في البحث والتحليل.

ننطلق في فهمنا لحركة التاريخ عموما من رؤية "تتكلم عن الواقع كما هو، دون تسويغ أو تعديل أو تحوير، ولكنه من خلال حركته على أرض الواقع هذه ينطلق إلى أهدافه ومثله وآفاقه" كما يقول الدكتور عماد الدين خليل.

فالواقع أن الثورة في تونس انطلقت في ظل انفصام قائم بين النخبة السياسية وبين الجماهير، فالشعب يرى في النخبة فريقا من أصحاب المصالح الخاصة الذين قصروا في خدمته طوال فترة الحكم الاستبدادي للنظام البائد، باستثناء قلة تتضافر عدة عوامل أخرى لتجعل الهوة قائمة معها سواء تعلق الأمر بالاختلاف الأيدولوجي أو الانتماء الحزبي. وفي الوقت نفسه لا يرى الشعب في الدولة دولته التي يمكن أن يستجيب لشروط عقد الولاء التي تربطه بها نظرا للتاريخ الطويل من العسف الذي مارسته ضده.

وهي ثورة قام بها شعب أفراده عرفوا بالاستقالة من الشأن العام، بل وبالخوف من الخوض فيه أيضا منذ قيام الدولة الحديثة في تونس.. يدل على ذلك، الأمثلة الشعبية السائدة التي تؤكد جميعا الدعوة إلى عدم الخروج عن الحاكم ومخاصمته. إن مشهدا كهذا جعل أكثر المتفائلين في تونس حتى ممن قضوا أعمارهم في النضال ضد الدكتاتورية، لا يتوقعون تغييرا مثل الذي حصل.

لقد ساد خطاب تيئيسي كبير طيلة عقود من الزمن إزاء الشعب التونسي، حتى اختلطت الرؤية التغييرية لدى النخب السياسية فازداد انفصامها عن الجماهير، لكن "من قال هلك الناس فهو أهلكهم".

"
الثورة التونسية حققت انتقالا من طور النموذج السالب للإنسان العربي إلى طور النموذج القادح للفعل ضد الطغيان واستلاب الإرادة، وجمعت في مشهد -يندر وجوده في المجتمعات العربية- بين مختلف فئات المجتمع
"

لكن الثابت أيضا أن الثورة حققت انتقالا من طور النموذج السالب للإنسان العربي إلى طور النموذج القادح للفعل ضد الطغيان واستلاب الإرادة، وجمعت -في مشهد يندر وجوده في المجتمعات العربية- بين مختلف فئات المجتمع التونسي.. بين الذين قاطعوا الإمام يوم الجمعة حين همّ بالدعاء للرئيس المخلوع والتحقوا بالاعتصام القائم منذ الصباح أمام مقر وزارة الداخلية في يوم الجمعة المبارك، وبين الذين كانوا يمتشقون السجائر ويتحدثون لغة عربية ممزوجة بفرنسية وإنجليزية.. جمعت بين الحجاب وبين اللباس القصير.

كان المشهد رائعا، لكن الأروع منه لم يتحقق بعد، وهو الوصول بالثورة إلى منتهى أهدافها في تحقيق نموذج من التعايش المدني مثل الذي سجله يوم الجمعة المبارك.. إنه التقاء التونسيين جميعا دون إقصاء أو تهميش، لأن هذا الوطن يسع الجميع.

فهل يمكن لآليات الفهم الموضوعي التي يتمسك بها الباحثون أن تفهم هذا الانتقال من حالة الرعب التي فرضتها أعتى دولة بوليسية في المنطقة، إلى مواجهتها والتجرؤ عليها.. ومن حالة تجاذب وتنافر بين مختلف مكونات المجتمع نتيجة هذا التغول للدولة، إلى التقاء طريف وعجيب ولافت كأن لم يكن بينهم لحظة واحدة من التنافر؟

طبعا تستطيع آليات الفهم هذه أن تحدد بعض العناصر المساعدة في فهم الظاهرة كالبعد الطبقي والصراع الاجتماعي والاختلال التنموي والتهميش السياسي، وهي كلها عناصر قائمة، لكنها ليست محددة في فهم الظاهرة، لأنها عناصر توفرت من قبل ولم تنتج ثورة مماثلة.

قد يعترض هؤلاء بأنهم لا يفسرون بالبعد الواحد، وهو اعتراض مقبول نردّ عليه بأن تعدد الأبعاد عندهم لم يتجاوز المعطيات المادية المحسوسة التي أثبتت الثورة الأخيرة قصورها عن فهم ما حدث بالضبط، فالمهمشون اجتماعيا يصارعون الدولة الوطنية منذ قيامها، والمقصون سياسيا لم يدخروا وسيلة من وسائل النضال إلا استعملوها، لكن لم يبلغوا معشار أهدافهم، وفشلت كل المذاهب الفكرية والأيدولوجية في تأطير المجتمع صفا واحدا لثورة مثل التي قامت.

ظاهر الأمر كذلك، لكن رؤيتنا المغايرة لحركة التاريخ تدفعنا إلى القول بأن ذلك الفشل الظاهر لم يكن سوى جزء الجليد الظاهر لأنه ".. وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم"، فما بذله المناضلون على امتداد التاريخ الحديث لتونس كان يحفظ لهم بما أنه لم يحقق الاكتمال المطلوب للانتصار.

فهل يعني هذا أن حركة الشباب والجيل الجديد حققت هذا الاكتمال؟ لا يمكن الجزم بذلك رغم الانتصار، لكننا نميل إلى القول بأن الغيب تدخل في هذه الحركة لنصرتها، لأن المجتمع التونسي استنفد كل السبل المتاحة للجهد البشري وفي الإطار الموضوعي من أجل مقاومة الظلم الذي فرضته الدولة البوليسية، أي أن الثورة لم تكن حركة منفصلة أعدت شروطها الموضوعية للانتصار بمعزل عن التاريخ الطويل للمقاومة المدنية للتونسيين، بل هي حلقة في هذه السلسة المتكاملة لا يمكن أن نسلم بأن عاملا من العوامل الموضوعية المتوافرة في كل حلقات السلسلة المختلفة قد غلب على غيره من العوامل فكان الناظم بينها، بل إن ناظم الغيب هو الناظم الوحيد المقبول منطقيا ووفقا لسيرورة الأحداث.

ذلك أن ما شهدته تونس مثلا من حركة احتجاجية بمناطق الحوض المنجمي عام 2008 كان أكبر بكثير من حركة البوعزيزي التي لم يجل بخاطر صاحبها لحظة واحدة أيُّ معنى من معاني قدح الثورة ضد نظام بن علي، بقدر ما كانت حركة احتجاجية داخل النسق تتعامل مع المؤسسات القائمة وتعبر عن رفضها للانحراف الموجود بها، إلا أن تطورها إلى حركة احتجاجية متصاعدة عمت البلاد وخلعت رأس النظام بطريقة لم يتوقعها أو ينتظرها أحد، هي التي تبرر قولنا بأن عاملا فوق بشري تدخل في صنعها.

مؤشر آخر يحملنا على تبني هذا التحليل، وهو مؤشر أكثر قوة من غيره، ويتعلق بما قامت به الحركة الإسلامية في مواجهة الطاغية، فقد قدمت هذه الحركة -حسب المنظمات الحقوقية المستقلة- ما يقارب الأربعين شهيدا، أي نصف شهداء الثورة الحالية للشعب بأكمله تقريبا، لكنها لم تنتصر رغم أنها كانت تستحضر البعد الغيبي في إعدادها للمواجهة مع بن علي.. طبعا لا يتعلق الأمر بمحاسبة النوايا والصدق هنا، فهذا ما ليس من شأننا وما لسنا مسؤولين عنه، ولكن التفسير الواضح والموضوعي هو أن شروط الانتصار التي تنسجم مع السنن الإلهية في حركة التاريخ لم تكتمل، وأن الحركة الإسلامية قصرت في إدراك ذلك.

"
التأكيد على حضور عالم الغيب في عالم الشهادة في ثورة تونس لا يعني الركون إلى التفسير السحري، فذلك ما يأباه المنطق القرآني الذي يؤكد أن أفعال الإنسان في الحياة ليست ذات بعد واحد لا يتجاوز المدى المحسوس، بل ذات مزيج من الأبعاد الجامعة بين لمادي والروحي
"

إن الناظر إلى مجمل التضحيات التي قدمها الشعب التونسي ونخبه السياسية والمدنية في مواجهة الظلم والاستبداد الذي فرضته دولة الاستقلال بنظاميها البورقيبي والنوفمبري، ليعجب من سهولة نجاح ثورة 14 يناير/كانون الثاني الأخيرة مقارنة بما سجله تاريخ هذا الصراع، وهو عجب تدعمه وقائع الثورة بحد ذاتها، فلم يكن تجمّع ذلك اليوم أمام مبنى وزارة الداخلية -وقد كنا شهودا عليه- بالزخم الذي يمكن أن يوحي بالنتائج الحاصلة، فالثائرون يومها تفرقوا على أمل العودة من الغد للتظاهر مجددا، وقد كان الغد مفتوحا على كل الاحتمالات، لكنّ ارتباك هرم السلطة وتشابك مصالح الطامعين فيها من قوى أجنبية وداخلية عجلت بالنهاية، نهاية تركت الثائرين على فرحتهم مشدوهين للسهولة التي نجحت بها ثورتهم مقارنة بالمعطيات الموضوعية القائمة التي توحي برجحان كفة النظام على حساب المتظاهرين.

لسنا نجد من تفسير لمسار الثورة الأخيرة وصيرورتها إلا الركون إلى ما قلنا إنه تدخل عالم الغيب في حركة تاريخية بذل الفاعلون فيها جهدهم في توفير الأسباب الموضوعية والشروط المطلوبة لتحقيق الانتصار، فلما يئسوا وظنوا أنهم عاجزون عن بلوغ هدفهم، جاءهم المدد الغيبي وتدخل القدر الإلهي حتى لا يكون خلل في نظام الكون أو عبث، لأن الصورة المقابلة تعني أن للظلم اليد العليا والسطوة الكاملة في تسيير النظام الكوني، وهو ما لا تقره العدالة الإلهية.

لا نروم من خلال التأكيد على حضور عالم الغيب في عالم الشهادة الركون إلى التفسير السحري أو العجائبي للأحداث، فذلك ما يأباه علينا المنطق القرآني نفسه الذي استندنا إليه في رؤيتنا هذه، لكن نبغي من خلال هذه المقاربة التأكيد أن أفعال الإنسان في الحياة وحركته في التاريخ ليست ذات بعد واحد لا يتجاوز المدى المحسوس والمادي الذي يركن إليه الإنسان عادة، بل هي ذات مزيج من الأبعاد المتعددة الجامعة بين المادي والروحي، وهو ما أكدته دراسات وبحوث فكرية كثيرة في السنوات الأخيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.