أصحاب العمائم الكبرى

أصحاب العمائم الكبرى - الكاتب: أكرم كساب


لا يخفى على أحد الدور الهزيل الذي تمثله المؤسسة الدينية الرسمية، والذي جعلها في واد وأمتها في واد آخر، حيث غفلت هذه المؤسسة الرسمية -ممثلة في الأزهر جامعا وجامعة وفي دار الإفتاء- عن الدور المنوط بها، ورضيت لنفسها أن يعيش أهلها في إطار فتاوى الحيض والنفاس -إلا من رحم ربك- غافلة عن قضايا الأمة الكبرى من حرية وكرامة ومساواة وعدالة اجتماعية مما يضمن للمواطن الكريم حياة كريمة.

 
يا أصحاب العمائم الكبرى ومن لف لفهم!
لقد اشرأبت الأعناق إليكم، ورنت الأبصار لكم، وأنصتت الآذان لكلماتكم علّها تجد عندكم كلمة حق تذكر الباغي ببغيه، والمجرم بإجرامه، وتقول للظالم أنت ظالم، وقف عند حدك فقد جاوز الظلم المدى، وبلغ السيل الزبى، وتحوّل البشر في ظل فسادكم إلى قطيع من الغنم يراد لها أن تساق بالعصي، فتنام حين يراد لها أن تنام وتأكل حين يوضع لها الطعام.
 

"
يا أصحاب العمائم.. لقد رضيتم بالقعود، ولم تقرؤوا سنن الله في كونه، والتي تقضي بأن الظلم لا يبقى، والإجرام لا يدوم، وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة
"

نعم لقد كانت أمنية الأحرار من شباب مصر أن تقفوا بجوارهم لتذكروهم بمشروعية موقفهم وتذكروهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" (رواه أحمد) وتصرخوا فيهم بقوله: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (رواه الحاكم).

 
وكم كان سيسجل لكم التاريخ هذا الموقف بأقلام من نور على صحائف من ذهب، لكنكم وللأسف الشديد رضيتم بالقعود، ولم تقرؤوا سنن الله في كونه، والتي تقضي بأن الظلم لا يبقى، والإجرام لا يدوم، وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأن دوام الحال من المحال، وأن الأيام دول، والله تعالى يقول: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}. ولكن للأسف الشديد خفتم على منصب زائل شاء الله أن يزول من أجلسكم عليه، ولم يكن لكم في التاريخ عبرة.
 
يا أصحاب العمائم الكبرى ومن لف لفهم!
لقد قالوا قديما:
إن الأكابر يحكمون على الورى    وعلى الأكابر يحكم العلماء
ولكنكم أبيتم إلا أن يحكمكم الأكابر من ولاة الأمر الذين لا شرعية لهم.
وقال الله عز وجل: {فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، ولكنكم وللأسف الشديد خفتم شيئا آخر، خفتم صاحب الكرسي الزائف، ولم تخشوا من {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}.
 
لقد كانت آمال الشباب معقودة بأصحاب الفضيلة والسماحة بعد الله تعالى ليأخذوا بأيديهم إلى برّ الأمان، وشاطئ الحرية، وساحة العدالة، ولكنهم خيبوا آمالهم، فمن قائل: من يدعو إلى هذه المظاهرات ليس في قلبه مثقال ذرة من دين.
 
ومن قائل: إن هذه المظاهرات تؤدي إلى شل حركة البلاد، مما يؤدي إلى البطالة. ثم اقترح مشكورا مكانا آخر غير ميدان التحرير ليتم التظاهر فيه.
 
ومن قائل بأن هذا الشباب ما هو إلا مجموعة من البغاة تجب محاربتهم، والحكم فيهم {أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ}.
 
ومن قائل بوجوب السمع والطاعة لولي أمرنا "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك".

"
لقد كانت آمال الشباب معقودة بأصحاب الفضيلة والسماحة بعد الله تعالى ليأخذوا بأيديهم إلى بر الأمان، وشاطئ الحرية، وساحة العدالة، ولكنهم خيبوا آمالهم
"

ولا أدري هل غاب عن هؤلاء جميعا قوله الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ  الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}، وقوله سبحانه: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ}، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتَ أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُودِّع منهم" (رواه أحمد)، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه" (رواه أحمد)، وقوله: "أعجزتم إذ بعثت رجلاً فلم يمض لأمري، أن تجعلوا مكانه من يمضي لأمري" (رواه أبو داود)، وقوله أيضا: "ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" (رواه مسلم). وقوله "سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنّة، ويعملون بالبدعة، ويؤخّرون الصلاة عن مواقيتها، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أمّ عبد ماذا تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله" (رواه أحمد).

 
وإذا كان هذا فيمن أخر الصلاة عن وقتها فكيف بمن حارب الصلاة والمصلين، وأمم المساجد والخطباء، وجفف منابع التدين حتى أصبح الالتزام جريمة يحاسب عليها، إلا ما كان من تدين سلبي يسبح بحمد الطغاة ويثني عليهم؟!
 
يا أصحاب العمائم الكبرى ومن لف لفهم!
لقد سجل العلماء في القديم والحديث دورا بارزا في نصرة الشعوب، فهل غاب عنكم دور الأزهر في كل عصر، والذي كان ملاذا للشعب إذا مسه ظلم حاكم، أو نال منه تسلط ظالم؟ّ
 
أم هل غاب عنكم أن ثورة 1798 ضد الاحتلال الفرنسي إنما قادها علماء الأزهر، وخرج أصحاب العمائم الحقيقية يقولون: من كان موحدا فليأت إلى الجامع الأزهر لأن اليوم هو يوم المغازاة على الكفار، وعلينا أن نزيل العار بأخذ الثأر..
أم أنكم لم تقرؤوا أن الشيخ الشرقاوي شيخ الأزهر خرج ومعه عمر مكرم ومعهم 40 ألفا إلى منزل محمد علي باشا يقولون له: شرع الله بيننا وبين الحاكم الظالم؟!
 
وكأنكم نسيتم قصيدة شوقي الرائعة التي يقول فيها:
قُـم  في  فَمِ الدُنيا وَحَيِّ الأَزهَرا   وَاِنثُر  عَلى  سَمعِ الزَمان الجَوهَرا
وَاِجـعَل مَـكانَ الدُرِّ إِن فَصَّلتَهُ      فـي مَـدحِهِ خَرَزَ السَماءِ النَيِّرا
وَاِخـشَع مَـلِيّاً وَاِقضِ حَقَّ أئِمَّةٍ      طَلَعوا  بِـهِ زُهراً وَماجوا أَبحُرا
كـانوا  أَجَـلَّ مِنَ المُلوكِ جَلالَةً      وَأَعَـزَّ  سُـلطاناً  وَأَفخَمَ مَظهَرا
زَمَـنُ  المَخاوِفِ كانَ فيهِ جَنابُهُم      حَـرَمَ  الأَمانِ وَكانَ ظِلُّهُمُ الذَرا
مِـن  كُلِّ بَحرٍ في الشَريعَةِ زاخِرٍ      وَيُريكَهُ الخُلُقُ العَظيمُ غَضَنفَرا
لقد كان الأولى بكم يا أصحاب العمائم الكبرى أن تقودوا الشباب في ثورتهم، وتؤموهم في صلواتهم، وتوجهوهم إذا أخطؤوا. لقد كان ميدانكم الحقيقي هو ميدان التحرير لا شاشات التلفاز الحكومية التي سقطت في أعين الأحرار من أول يوم للثورة المباركة.
إنني أقولها وبكل صراحة: إن بعض العمائم التي تزين بها ميدان التحرير كانت أشرف وأجل وأرقى من العمائم الكبرى التي مالت إلى الظالم الطاغي، وحاولت مسك الحبل من الوسط فسقطت في نظر الجمهور العريض الذي خدع فيها مدة من الزمن. 
 

"
نقول لأصحاب العمائم الكبرى لقد سقطتم سقطة رهيبة في اختبار الحرية وسط ميدان التحرير، أما أصحاب العمائم الحقيقية الذين وقفوا في الميدان فنقول لهم: شكر الله لكم جهدكم، وبارك الله لكم عملكم
"

إن من تابع الشيخ المعمم الذي سقط أثناء خطبة الجمعة ثم أخذ مكانه شيخ آخر، يدرك أن هذه العمائم -وإن لم يعرف أصحابها ولم تُر على الفضائيات من قبل- يكفيها هذا الموقف، ويكفيها أن الله يعرفها وإن لم يعرفها الناس.

وأخيرا يا أصحاب العمائم الكبرى.. لقد سقطتم سقطة رهيبة في اختبار الحرية وسط ميدان التحرير، وضيعتم فرصة عظيمة لاحت لكم فركلتموها بأقدامكم، ليس زهدا فيها، وإنما أوقعكم فيها سوء تقديركم، وثقتكم اللامحدودة في مبارك ونظامه الفاسد، وحرصا على منصبكم الزائل، وشككم في قدرة هذا الشباب الواعد. لقد بعتم الغالي بالرخيص، والثمين بالتافه، وغفلتم عن سنة الله التي أبت إلا أن يكون "النصر مع الصبر" وأن {مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} وأن {جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.
 
أما أصحاب العمائم الحقيقية الذين وقفوا في الميدان فنقول لهم: شكر الله لكم جهدكم، وبارك الله لكم عملكم، لقد قمتم بالواجب المنوط بكم، ولم تخيبوا ظن أمتكم فيكم، فطابت أقدام مشيتم بها، وعمائم حملتموها، وألسنة هتفت بها، وتقبل منكم {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}، والحمد لله أولا وأخيرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.