جنوب السودان.. قصة دولة منقسمة

جنوب السودان.. قصة دولة منقسمة - منى عبد الفتاح



أس الصراع عرقي وسياسي
واقع الحال وحرب الجنرالات

إعادة انتاج الأزمة

يبذل السياسيون الجنوبيون مجهودا خارقا لفك الارتباط بين الصورة الذهنية التي كرسها تاريخ الحرب الطويلة في جنوب السودان، والعنف المتبدي في الصراع العسكري والسياسي لدولة جنوب السودان الوليدة.

وإن كان واضحا أن الحرب بين الشمال والجنوب التي استمرت لنصف قرن من الزمان لها أسبابها المتمثلة في تهميش المواطن الجنوبي وأجندة أخرى فإن الصراعات الداخلية بين الجنوبيين أنفسهم تتشكل بسبب استيقاظ الهويات العرقية والدينية من حين لآخر.

وبذا تواجه دولة الجنوب الوليدة تحدي الاستقرار السياسي والعسكري، في دولة تعاني من الصراعات المترسخة، وهو ما يجعلها في مواجهة أنواع متعددة من العنف النابع من التوترات المحلية في إقليم خبِر الصراعات وخبرته نتيجة لانتشار التسلح وتكاثر فصائله المكونة على أساس إثني.

أس الصراع عرقي وسياسي
إذا كان السودان هو أفريقيا المصغرة بما هو معروف عنه بتنوعه وتعدد قبائله وإثنياته ودياناته، فإن جنوب السودان يحكي مثالا آخر لهذا التنوع .

فقد اعترف السودان الشمالي بتنوعه، ولكن لم يرعه حق رعايته من حيث قبوله بإضفاء الشرعية عليه كحقيقة تمور وسط المجتمع السوداني وتمثل أحد مكوناته الأساسية التي لا تقبل التهميش أو التمييز أو الإقصاء، فكانت النتيجة فتح جبهات عديدة مطالبة بحق تقرير المصير أولها الجنوب.

"
إذا كانت العوامل المتمثلة في الصراع على الموارد لم تظهر إلا في مراحل متأخرة من تكوين الدولة السودانية الخارجة، فإنه قد استبان مؤخرا أيضا نزوع كبير إلى اختلال ميزان التوازن التنموي والاقتصادي والاجتماعي
"

تتعدد الوحدات الثقافية في الجنوب، بينما يختزن الشمال تعدد وحداته في الولاءات القومية الفرعية التي استعصت على الذوبان في قومية السودان ككل.

نجد مثلا قومية البجا في الشرق، ودارفور في الغرب، وجبال النوبة والنيل الأزرق في الجنوب الأوسط، لكن كل هذه القوميات الفرعية رغم اختلافها قد انصهرت تحت شعار الهوية العربية المسلمة مكونة لإقليم الشمال.

وإذا كان ثمة اختلاف بين شمال السودان وجنوبه من حيث درجة التنوع فإن الجنوب بخلوه من ثقافة توحده وتجتمع عليها كل القبائل، يجعل من تعددية التجمعات العرقية الرئيسة في تقسيمها الأنثروبولوجي مثل الدينكا والنوير والشلك والزاندي، تلعب دورا هاما مستقوية ومهيمنة على البقية المكونة من 60 قبيلة تقريبا.

هذه القبائل تعيش في درجة من العزلة، حيث تعتقد كل واحدة من هذه القبائل في دينها الخاص وتتحدث لغتها الخاصة، لذا خرج الجنوبيون لخلق هوية خاصة تمثلت في تكوين نخب متعلمة ومثقفة وقيادات سياسية وعسكرية نافذة.

أس الصراع ساعد على تزكيته تناقضات النخبة الحاكمة بعد استقلال السودان عام 1956م. تلك التناقضات تعد إرثا أصيلا من العهد الاستعماري التقت فيه العوامل المكونة للسياسات الخاطئة تجاه جنوب السودان، والتي ركنت إلى هيمنة التراث الإداري الاستعماري البريطاني، وخلقت فيما خلقت حزمة من التنافر الثقافي والأيديولوجي بين الشمال العربي المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي.

كان غرض الإدارة البريطانية إيقاف مد النفوذ الإسلامي في الجنوب، فنشطت من عمليات التبشير المسيحي واعتمدت اللغة الانجليزية لغة رسمية تمكينا لضم الإقليم إلى دول شرق أفريقيا، وإبعادا له عن دولة الشمال التي تمت أسلمتها وتعريبها بشكل كبير، مما مهد لصراع عرقي وعنصري في دولة ما بعد الاستعمار.

وكواقع معيش أيضا لم يظفر المجتمع الجنوبي بتصنيف طبقي أو منزلة اجتماعية بُنيت على أساس شرف القبيلة كما في الشمال، فكان جل ما صدره له الشمال هو ميراث الاستعباد الذي رفضه من قبل المستعمر البريطاني.

وإن كانت العوامل الأخرى المتمثلة في الصراع على الموارد لم تظهر إلا في مراحل متأخرة من تكوين الدولة السودانية الخارجة من أتون الاستعمار، فإنه قد استبان مؤخرا أيضا نزوع كبير إلى اختلال ميزان التوازن التنموي والاقتصادي والاجتماعي، فظهر الصراع على الموارد الطبيعية: الأرض والماء ثم النفط.

أما اختلال التوازن الاجتماعي الذي أدى لتشوهات اقتصادية واجتماعية فقد تم بسبب ترسيم الحدود الأفريقية من قبل المستعمر دون مراعاة للتركيبة الاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية في تماثلها أو اختلافها، فخلقت الأقاليم المهمشة ومنها جنوب السودان الذي نما على الحرمان من السلطة والمكانة الاجتماعية، بينما تعززت تلك السلطة والمكانة في المركز.

واقع الحال وحرب الجنرالات
بعد مرور شهرين فقط من استفتاء جنوب السودان اتضح أن مستقبل دولتي الشمال والجنوب السوداني لا تحكمهما نتائج الاستفتاء والقبول بها فحسب، بل إن الأمر تحكمه تمنيات العيش في سلام وتعاون مشترك كشروط أساسية لمصلحة الشعبين في الشمال والجنوب.

لم يجف مداد الاستفتاء حتى توالت الاتهامات بين حكومتي الجنوب والشمال نتيجة للمجازر الأخيرة بين الجيش الشعبي لتحرير السودان والمنشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان جورج أتور الضابط السابق في جيشها.

فحكومة الجنوب وعلى لسان باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان ووزير السلام بحكومة الجنوب كشفت عن عدد من الوثائق والمستندات والمراسلات بين المؤتمر الوطني والاستخبارات العسكرية ووزارة الدفاع تشي بتورط المؤتمر الوطني في أنشطة عدائية تستهدف استقرار الجنوب.

واتهمت الحركة الشعبية حكومة الشمال بالتخطيط لإبادة جماعية في الجنوب مثلما حدث في دارفور، في تسارع للأحداث قبل إعلان دولة الجنوب الوليدة في التاسع من يوليو/تموز القادم.

ظهور اللواء المنشق عن الحركة الشعبية جورج أتور في أكثر من مسرح لأحداث العنف أيد ظن الحركة الشعبية بتمتع الجنرال بدعم غير محدود من حكومة الخرطوم وبتحركه وفقا لأوامرها.

فقد شهدت مدينة ملكال سلسلة هجوم نتج عنها عشرات القتلى. وكذلك ولاية جونقلي التي شهدت صراعا عنيفا وخلفت مئات القتلى. وأبيي التي لم يسلم ملفها الساخن قط، فضلا عن اتخاذها وضعية خاصة بانتظار تنفيذ بروتوكول أبيي وتطبيق نتائج تحكيم لاهاي والشروع في ترسيم الحدود.

"
إذا كانت الانشقاقات والانقسامات العسكرية والسياسية هي سمة تاريخية للحركة السياسية الجنوبية، فإن تأثير هذه الانقسامات الآن يبدو أكبر
"

وإن كانت الانشقاقات والانقسامات العسكرية والسياسية هي سمة تاريخية للحركة السياسية الجنوبية، فإن تأثير هذه الانقسامات الآن يبدو أكبر، خاصة أن علاقة الحركة في الجنوب ككل مع حكومة الخرطوم لم يفارقها التوتر والخلافات، فعشرات الفصائل الجنوبية المسلحة تقوم أساسا على المكونات الإثنية وتقدس من مهمة حماية القبيلة والولاء لمعتقداتها.

وهذا العدد الكبير للفصائل يتفوق على عدد الأحزاب السياسية المتميزة بتوجهها الفكري ورؤيتها السياسية والتي رغم تأثيرها فإنها وتبعا للانقسامات العديدة اندثر الكثير منها نتيجة لانسحابها أو انضمامها إلى الحركات المسلحة.

ورغم اختلاف هذه الأحزاب حول بعض المواقف، فمنها من يجاهر بالعداء للعروبة والإسلام نتيجة للمرارات التاريخية التي تدعم من النظرة إلى الشمال العربي المسلم كامتداد للاستعمار الإنجليزي، ومنها من يرفع شعارات الديمقراطية والعلمانية، ومنها من يدعم الوحدة أو يؤيد الانفصال غير أنها اتفقت أخيرا حول حق تقرير المصير الذي ناله جنوب السودان مؤخرا.

إعادة انتاج الأزمة
من هنا تبدو قضايا ما بعد الاستفتاء التي لم يرتب لها البيت الجنوبي في دولته الجديدة كما ينبغي، مسائل شائكة ذات طابع اقتصادي وأمني، مؤهلة للانفجار في أي وقت.

فالتحدي الآن هو كيفية توفير الأمن واستقرار مواطني الجنوب، وواقع الحال أن الحركة الشعبية خرجت من خلافها وحربها مع الشمال بحق تقرير المصير لتواجه قضايا عالقة في الشمال، وهي المواطنة والجنسية الخاصة بأوضاع الجنوبيين في الشمال، وكذلك تقسيم ديون السودان، ثم تواجه انشقاقا داخليا في صفوفها تتهم حكومة الخرطوم بتغذيته وتأجيجه.

أمنيا فإن تداول الأسلحة والفشل في نزعها من الجماعات المتمردة، وانتشار المليشيات المتعددة يمثل خطورة كبيرة على استقرار وأمن الجنوب، وهو ما أثر على عملية التحول الديمقراطي.

فبدلا من أن يحتوي تكوين الدولة الجديدة التناقضات العرقية والصراعات الداخلية لتحقيق الاستقرار، فإن المطالب التي برزت لم تنته بحق تقرير المصير حيث ترى بعض المجموعات المنشقة أنه تم تهميشها في اتفاقية السلام، وأنها تخضع الآن بعد الحصول على استقلال الجنوب إلى هيمنة الحزب الواحد.

ووفقاً لهذا الإحساس لم تتكيف هذه المجموعات عرقيا ولم تستطع تجنب الصراع والغارات على المراعي والعنف القبلي والقتال فيما بينها مما زاد من حدة التنافر بين الحركة والمنشقين عنها.

وأصبحت الحاجة عوضا عن ذلك ليس إلى إشباع الحاجة السياسية فحسب وإنما حاجة أمنية اقتصادية واجتماعية ملحة، ولذلك فإن حق تقرير المصير واستقلال الجنوب لا يقف عند حد الحصول عليه، بل يتعداه إلى الحفاظ عليه بمعالجة أسباب الصراع الأزلية التي تسهم في إعادة إنتاج الأزمة.

فالخروج من مرحلة الحرب والعنف إلى حالة السلم ومن الشمولية إلى الديمقراطية، وتحقيق نوع من الاستقرار بالجنوب رغم أنه أمر مستعصٍ حدوثه في ظل الصراعات القبلية وتجارب الجنوبيين الماضية ومراراتهم السابقة، فهو يتطلب التركيز على أسباب العنف عن طريق الكشف عن وسائل مساهمة المؤسسات الجنوبية والتدخلات الخارجية في خلق الأزمة واستمرار تأجج الصراع.

اقتصاديا قد لا يبدو الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية وحدها التي سوف يحصل عليها الجنوب هي الحل الأمثل، خاصة أن الجنوب في بداية تكوين الدولة وتأسيس بنيتها التحتية يحتاج إلى أكثر من الدعم بالاستفادة من الموارد الطبيعية التي يتمتع بها.

ووفقا لهذا فإنه سوف تكون إحدى القضايا الهامة لدولة الجنوب نضالها القادم في الاستفادة المثلى من إمدادات البترول والطاقة وسوف يتبدى في الأفق رهان أكبر على كيفية الاستفادة من بقية الموارد الطبيعية والأصول المائية.

فبانفصال الجنوب يظهر مدى التزامه وموقفه من اتفاقية مياه النيل 1959م لتصبح دولة الجنوب الدولة الحادية عشرة في حوض النيل وإحدى ثلاث دول مكونة لدول المصب مع مصر وشمال السودان.

هذا الواقع يستلزم من الجنوب اتخاذ مواقف موحدة مع دولتي المصب إن اختارت ذلك ولكنه في نفس الوقت سيمنعها من دخول مشاريع مع دول المنبع أو الانضمام إلى مجموعة دول شرق أفريقيا. أما إذا لعبت دولة الجنوب على عامل الزمن فإنها ستكون مهلة جيدة لتمكين الدولة الجديدة من اختيار الانحياز لأي من دول المنبع أو المصب.

"
الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بين قبائل دولة جنوب السودان التي تعاني من صراعات مزمنة على الموارد يجعل إدارة الدولة تعاني من مواجهات متعددة تتصف بالعنف النابع من هذه الخلفية
"

بالنظر إلى واقع دولة الجنوب الوليدة وإلى كونها تتخذ موقعا إستراتيجيا في القرن الأفريقي، يضع تحديا جديدا أمام منظومة تغير وتبدل الأدوار الإقليمية من حولها.

فقرب دولة الجنوب المعنوي من دول شرق أفريقيا والبعد الجيوسياسي لمكانتها باعتبارها دولة منتجة للنفط وغنية بمواردها الطبيعية تغير من طبيعة المعادلات وتوازنها ابتداء من معادلة توزيع مياه النيل وانتهاء بمد خطوط أنابيب النفط.

وباختلاف وضع دولة الجنوب الحالي عما كانت عليه فإنها تلفت الأنظار إلى وضعها الجديد بدخولها ممثلة في حكومتها مواجهة أخرى على طريقة الانقسام القديم (شمالي-جنوبي) إلى انقسام داخلي (جنوبي-جنوبي).

فبوصول الحركة الشعبية لتحرير السودان إلى رأس الحكم في الجنوب، يعدها المنشقون آلية جديدة لتحسين وضعها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

فالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بين قبائل دولة جنوب السودان التي تعاني من صراعات مزمنة على الموارد يجعل إدارة الدولة تعاني من مواجهات متعددة تتصف بالعنف النابع من هذه الخلفية وما يغذيها من تأزم الوضع السياسي وانتشار الأسلحة والقبلية وغياب القدرة المؤسسية على توفير الأمن والعجز عن احتواء الصراعات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.