قراءة في انتفاضة الغضب العراقي

قراءة في انتفاضة الغضب العراقي - الكاتب: خالد المعيني



طبيعة الانتفاضة ونتائجها المباشرة 
إجهاض الانتفاضة واحتمالات احتوائها

تقاس الانتفاضات الكبرى في تاريخ الشعوب بمدى قدرتها على التأثير في مجرى واتجاه الأحداث اللاحقة وإمكانية التأسيس لمتغيرات جديدة تعيد رسم خريطة موازين القوة في المجتمع.

يحتدم في العراق ومنذ الاحتلال صراع قاس يتخذ في كل مرحلة شكلا وأطرافا جديدة، وهو صراع متعدد المستويات، فتارة يكون محليا وأخرى إقليميا أو دوليا، وأحيانا مزيجا بين كل هذه المستويات. ونشأت جراء هذا الصراع تناقضات حادة وسادت قيم مشوهة واختلطت الأمور على الناس الذين لم يكونوا سوى وقود للحرب وهدف للاستهداف والتأثير.

ومن المتوقع في مثل هذه البيئة الغامضة والضبابية أن نسبة الذين يسبرون أغوار هذه الظلمة قلة من طليعة المجتمع لا يتجاوزون 2-5% من عموم الشعب.

لم تكن هناك أي لغة في المرحلة الأولى من صراع الإرادات يمكن للأطراف الداخلة فيه استخدامها سوى لغة السلاح، وقد أسفرت هذه المرحلة-الجولة التي استمرت بين عامي 2003 و2008 عن انتصار حاسم حققته فصائل المقاومة العراقية المسلحة تتوج بإعلان رسمي تاريخي يوم 27 فبراير/شباط 2009 من قبل إدارة الاحتلال وعلى لسان الرئيس الأميركي يعلن فيه خطة الانسحاب من العراق، أو الهروب منه على وجه الدقة.

قد تكون الولايات المتحدة سحبت وستسحب معظم قواتها القتالية من العراق، ولكن ما لا يقبل الشك أنها تدرك أهمية بقاء العراق ومقدراته تحت هيمنتها من خلال إدارة الصفحة السياسية بالنيابة، وعبر وكلاء محليين ووكلاء إقليميين بما يضمن الحد الأدنى من مصالحها وماء وجهها.

اتخذت المرحلة الثانية التي بدأت منذ عام 2009 غطاء شرعيا وكساء مزيفا من الديمقراطية مدعوما من الولايات المتحدة وبعض الدول الإقليمية، ولكنه معزول تماما من الناحية الشعبية إلا بمدى تأثير المرجعيات الدينية ذات النزعة الطائفية. يتم من خلال هذا النظام الذي يعمل بصفة حارس ووكيل، تمرير كافة أهداف الاحتلال ولكن بوسائل ناعمة قد يشكل الشق العسكري مقارنة بخطورتها الصفحة الأسهل من الصراع.

فالاتفاقية الأمنية واتفاقية الإطار الإستراتيجي تحكّم أميركي في العراق -ولكن عن بعد- قد يمتد لأكثر من نصف قرن كما في اليابان وكوريا الجنوبية. وإن الدستور الدائم النافذ بعد الاحتلال كفيل من خلال فلسفته القائمة على تكريس مبدأ المحاصصة، بإبقاء العراق وشعبه لعقود هزيلا ضعيفا تتصارع فيه الكيانات الطائفية والعنصرية, وغير ذلك من الصفحات السياسية والاقتصادية التي تشكل بمجملها احتلالا ولكن بأشكال أخرى غير عسكرية، احتلالا ومرحلة جديدة من الصراع تتطلب مواجهة من نوع جديد، وتحتاج لرسم متطلبات إستراتيجية جديدة غير مباشرة للمواجهة من أجل تصفية آثار الاحتلال، تنسجم مع طبيعة التهديدات التي تتخذ بعدا نفسيا واجتماعيا وسياسيا وإعلاميا بامتياز.

"
تدرك أميركا أهمية بقاء العراق ومقدراته تحت هيمنتها من خلال إدارة الصفحة السياسية بالنيابة وعبر وكلاء محليين وإقليميين بما يضمن الحد الأدنى من مصالحها
"

طبيعة الانتفاضة ونتائجها المباشرة
أطاحت الانتفاضة يوم 25 فبراير/شباط الماضي مرة واحدة بمنظومة القيم والأفكار القائمة على أساس تقسيم الشعب العراقي إلى طوائف وقوميات، والتي سادت طيلة فترة الاحتلال. وأسفرت هذه المظاهرات من خلال حجمها وشموليتها عن المعدن الأصلي للشعب العراقي والمخزون الغني لذاكرته الوطنية واستعادته لوعيه، فأصبحت طبقة الاحتلال السياسي بعد الانتفاضة عبارة عن أقلية حاكمة معزولة.

لقد أسفرت الانتفاضة من خلال دراسة شعاراتها وخريطة توزيع انطلاقتها عن وعي متقدم لدى الشباب العراقي الذي يشكل العمود الفقري للمستقبل، لذا يمكن تحديد طبيعة وأسباب هذه الانتفاضة ومن يقف وراءها على النحو التالي: جاءت بصورة عفوية ونابعة من عمق معاناة وحرمان الشعب العراقي وردة فعل على تراكم تداعيات الاحتلال السياسية والخدمية والاقتصادية، الأمر الذي زاد تدريجيا من التناقضات وحجم الهوة بين شعارات السلطة بالديمقراطية والازدهار وبين واقع الشعب المأساوي، والتي وصلت حدا لا يمكن السيطرة عليه من قبل مورفين المرجعيات أو ادعاءات سلطة الاحتلال وترويجها لأكاذيب مظلومية هذه الطائفة وتلك القومية.

فقد أدرك العراقيون -وفي مقدمتهم الشباب- حقيقة جوهرية وهي أن الشعب برمته يقاسي من الظلم، فانفجر الشباب ضد الظلم والفساد، وهي الشريحة الأكثر تضررا من استمرار هذه الأوضاع نتيجة البطالة وفقدان الأمل في المستقبل، وربما يفسر هذا شمولية الانتفاضة التي امتدت على مساحة العراق دون استثناء، من أبعد نقطة في شمال العراق إلى البصرة في أقصى الجنوب، ورددت شعارات شبه موحدة تمحورت حول ستة أهداف تقبل القسمة على جميع العراقيين دون استثناء وهي:

1- محاربة الفساد والفاسدين.
2- توفير فرص العمل للشباب.
3- توفير الخدمات.
4- تحسين مفردات البطاقة التموينية.
5- إطلاق سراح المعتقلين.
6- رعاية المتقاعدين والأرامل والأيتام.

لذا فإن هذه الانتفاضة عراقية وطنية مستقلة قادها الشباب العراقي، ولا توجد أي جهة سياسية حزبية أو دينية تقف خلفها.. إنها إنجاز شعبي عراقي بامتياز.

كما تمخضت عدة نتائج مباشرة وأولية لانتفاضة الغضب يمكن حصرها في النقاط التالية:

1- عودة الوعي وقيام الشعب العراقي لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن، بإعلان مطالبه وتحمله لمسؤولياته مباشرة، والانتقال من مظاهرات "القطعان" التي تكرس الطائفية بزعامة رجال دين إلى مظاهرات الجماهير التي اقترنت بالوطنية وبزعامة الشباب المثقف العراقي.

2- باعتبار الشعب مصدر السلطات وهو الأصيل، فإن الوكيل بعدما قال الشعب كلمته قد فقد شرعيته سواء الحكومة أو البرلمان.

3- سقوط ادعاءات التقسيم والمحاصصة الطائفية والعرقية الزائفة وتجلي وحدة الشعب العراقي وهويته الوطنية، لا سيما بعد اندلاع هذه المظاهرات خارج عباءات رجال الدين الطائفية.

4- تأكيد هشاشة وهزال حكومة الاحتلال وضعفها ومدى رعبها من غضبة وحساب الشعب.

5- قوة الإرادة الشعبية وإمكانية المراهنة عليها في إسقاط حكومة الاحتلال.

6- تراجع وانحسار سلطة رجال الدين ونجاح الجماهير من خلال ثقتها بنفسها من فرز وعزل التحالف الرجعي الذي يضم أحزاب سلطة الاحتلال والمرجعيات الطائفية والمذهبية.

"
أسفرت المظاهرات من خلال حجمها وشموليتها عن المعدن الأصلي للشعب العراقي والخزين الغني لذاكرته الوطنية واستعادته لوعيه 
"

إجهاض الانتفاضة واحتمالات احتوائها
المظاهرات الحالية بطبيعتها الوطنية ومستوى كثافتها الشعبية وتنوعها وانتشارها على مدى محافظات العراق وأكثر من ستين مدينة واستمراريتها وإسقاطها مبدأ المحاصصة، تشكل بما لا يقبل الشك بداية النهاية بالنسبة للعملية السياسية وشرعيتها، وعليه فإن أطراف هذه العملية -دون استثناء- لن تدخر جهدا في العمل ضد هذه المظاهرات، وستحول بكافة الوسائل دون وصول هذا الحراك الشعبي إلى أهدافه النهائية وإلى أحد الاحتمالات التالية أو كلاهما لإجهاض انتفاضة الغضب العراقية :

أولا- الإجهاض، من خلال حصر وتحريف مطالب الشعب واختصارها في الدعوات المريبة لإجراء انتخابات مبكرة لمجالس المحافظات والبلديات، أو الاكتفاء بإقالة هذا المحافظ أو ذاك، وإطلاق الوعود الكاذبة بتحسين الخدمات خلال مائة يوم لأغراض المماطلة وكسب الوقت والتسويف، أو توفير درجات محدودة للتعيين لإغراء بعض قادة المظاهرات ومحاولة استدراجهم إلى فخ التفاوض والتسقيط الفردي، وغير ذلك من الإجراءات التخديرية والخبيثة لامتصاص نقمة المتظاهرين.

ثانيا- الاحتواء، إذ تفاجأ الكثير من الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية العراقية بعفوية المظاهرات التي تعرضت عشية اندلاعها إلى محاولات طعنها في الظهر من قبل معظم المراجع الدينية مع استثناءات، فأصدر بعضها فتاوى بتحريم المظاهرات، وأخرى -لطالما ادعت اصطفافها إلى جانب الفقراء- حثت الناس عبر مكبرات الصوت على عدم الاشتراك فيها، وهناك الكثير ممن التزم الصمت بانتظار فشلها.

غير أن نجاح المظاهرات واندفاع الجماهير في أكثر من 15 محافظة بصوت واحد وشعارات واحدة دفع بهذه المراجع بعد انفضاح زيفها وعدم اهتمامها بمعاناة الشعب ومطالبه، إلى محاولة ركوب موجة هذه الانتفاضة والتصريح بعد نجاح المظاهرات بعدالة مطالب الشعب وأحقيتها، لذا من المتوقع أن يزج التحالف المرجعي (أحزاب سلطة الاحتلال والمرجعيات الطائفية والمذهبية) بالخط الثاني من المرجعيات الدينية غير المحترقة علنًا وبعض الأحزاب والشخصيات السياسية الانتهازية بقصد ركوب موجة الانتفاضة ومحاولة قيادتها لعدم تبلور قيادة ميدانية واضحة لها لغاية الآن، ومن ثم تفكيكها على أساس طائفي وإعادة إنتاجها بما ينسجم مع مبدأ المحاصصة وإعادة الأمور إلى المربع الأول.

ثالثا- القمع، إذ حاولت سلطة الاحتلال على لسان رئيس وزرائها توجيه ضربة استباقية للمظاهرات بالتنسيق مع المرجعيات الدينية ومن خلال التشكيك في هوية منظميها والتصريح لأكثر من مرة بوجود معلومات عن عمليات إرهابية تستهدف المتظاهرين وبعدم قدرتها على حمايتهم، وأن جهات خارجية تقف خلفها..

"
شهداء الانتفاضة سيكونون عنوانا للوفاء ووقودا للمطالبة بمزيد من الحقوق, وكلما أزداد القمع والاعتقال كلما أقترب خزان الثورة العراقية من الانفجار
"

بعد كل هذه الحرب النفسية، لجأت في نهاية المطاف إلى التكشير عن أنيابها الحقيقية، فأصدرت أوامرها لمنع التجول وحظر سير المركبات والدراجات النارية والهوائية منذ فجر يوم المظاهرة وإلى إشعار آخر، ومنع الكاميرات وعربات البث المباشر الإعلامية، في محاولة يائسة لتقزيم المظاهرات. كما قطعت الطرق بالحواجز الكونكريتية وأقامت الحواجز الأمنية في مفترقات الطرق قبل مكان المظاهرات للحيلولة دون وصول المتظاهرين واعتقال من يرفض ويصر على الوصول إلى المظاهرة سيرا على الأقدام. ومن المتوقع استمرار هذه الإجراءات للحد من تطور الانتفاضة.

خلال المظاهرات تم استخدام الغازات السامة ورشها بالطائرات التي حلقت بارتفاعات منخفضة جدا فوق المتظاهرين، وكذلك استخدام الهري والرصاص الحي الذي أودى بحياة 22 شهيدا ومئات الجرحى توزعوا على كافة مناطق العراق من السليمانية حتى البصرة.

كما تشير شهادات الشباب والصحفيين الإعلاميين الذين تم اعتقالهم أو اختطافهم وتغييبهم في انتفاضة الغضب أو المظاهرات والاعتصامات التي مهدت لها، إلى حجم انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها حكومة الاحتلال وأجهزتها القمعية، فقد استخدمت وسائل تعذيب يندى لها جبين الإنسانية وتنم عن مستوى أخلاقي يتسم بالانحطاط واللاإنسانية، فتم تكسير أرجل الكثير من قيادات الشباب لمنعهم من التظاهر، وتم صعقهم بالكهرباء وضربهم بالكبلات والهري وتهديدهم بالاغتصاب والقتل، وتلفيق تهم التخطيط للتفجيرات وسرقة البنوك، وإجبارهم على توقيع اعترافات بالانتماء إلى أحزاب وتنظيمات، مما يدل على حجم القمع والتنكيل الذي يتعرض له الشعب العراقي.

إن ارتفاع سقف المظاهرات سيكون أمرا طبيعيا وبمثابة تحصيل حاصل، فشهداء الانتفاضة سيكونون عنوانا للوفاء ووقودا للمطالبة بمزيد من الحقوق، كتقديم الجناة للمحاكمة وإسقاط حكومة المحاصصة. وكلما ازداد القمع والاعتقال وتكميم الأفواه وبالغت سلطة الاحتلال في الضغط على الشعب، اقترب خزان الثورة العراقية من الانفجار، فلكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.