لا تجهضوا الثورة المصرية

لا تجهضوا الثورة المصرية - الكاتب: خليل العناني



ما يجري في مصر الآن يتجاوز مجرد صراع بين مبارك ومعارضيه، فهو صراع بين الماضي والمستقبل، بين الظلم والعدل، وبين الطغيان والحرية. وهو نضال لا يختلف كثيراً عن نضال الفرنسيين من أجل نيل حريتهم وكرامتهم خلال القرن الثامن عشر أو نضال الأميركيين من أجل تحرير أراضيهم من الأوروبيين خلال القرن التاسع عشر.

لذا كان من الطبيعي أن تواجه الثورة المصرية، ولا تزال، مخاضاً صعباً ومريراً مع نظام عنيد لا يعبأ إلا بالبقاء في الحكم حتى ولو على جثث الأبرياء، ولو أُحرقت البلد بأكملها.

إحدى مساوئ الأنظمة الدكتاتورية قدرتها الفائقة على إفساد النخبة والمجتمع. ويشهد التاريخ حالات عديدة نجح فيها السلطويون في إدامة حكمهم إما من خلال التلاعب بالمعارضين وفق سياسة "العصا والجزرة"، أو من خلال ترهيب العوام ووضعهم بين شقي رحى "الاستبداد أو الفوضى".

"
ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 نقطة فاصلة في إعادة تعريف السياسة في مصر، وتدشين لمرحلة جديدة من العلاقة بين الدولة والمجتمع ترجح فيها كفة هذا الأخير
"

وقد نجح النظام المصري في استخدام كلا الأمرين مع المصريين طيلة العقود الثلاثة الماضية. بيد أن ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 كانت نقطة فاصلة في إعادة تعريف السياسة في مصر، وتدشينا لمرحلة جديدة من العلاقة بين الدولة والمجتمع ترجح فيها كفة هذا الأخير. وهي ثورة تصحيح لأوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية فاسدة تراكمت خلال فترة حكم الرئيس مبارك.

ظنّ مبارك بعد ثلاثين عاماً قضاها في حكم مصر -وهي أطول فترة يحكم فيها شخص البلاد منذ عهد الفراعنة- أن الشعب قد نسي كلمة الحرية، وذبلت فيه معاني الكرامة. ولكن بدون مقدمات، وهذا هو سمت الثورات، انطلقت شرارة التغيير، وانتعشت ذاكرة الانتصارات الشعبية، وأثبت ملايين المصريين أنهم شعبٌ لم تمت فيه العزة ولم تُسحق كرامته، فكانت ثورتهم المجيدة. واندفع شباب ورجال ونساء وأطفال ينتزعون حريتهم بدمائهم في معركة استعادة الحرية والكرامة.

كانت الثورة المصرية بمثابة تشييع لجثمان القوى والأحزاب السياسية التقليدية التي انكشفت أوزانها وأحجامها على حقيقتها. ولا يعد الجسد الأساسي للثورة نتاجاً للكيانات الحزبية الرسمية، وإنما وُلد وتشكّل في رحم القوى المجتمعية الحية التي ظلت تعمل على مدار السنوات العشر الماضية بعيدا عن مراكز السياسة المباشرة، وفضلّت التحرك في أحشاء المجتمع المصري، لذا فقد جاءت تحمل جينات مصرية أصيلة لم تلوّثها صراعات السياسة بمفهوما الضيق، في حين وحدّتها الرغبة في التغيير وإحياء ما وأدته البنية السلطوية لنظام الحكم.

شهد يوم 25 يناير/كانون الثاني 2011 ولادة طفل مصري مكتمل النمو اسمه "الحرية"، وكان منطقياً أن تبدأ محاربة هذا المولود الجديد بأبشع الوسائل وأقلّها آدمية. فانطلقت مليشيات الحكم تقتل كل من ساهم في احتضان هذا المولود الجديد، فسُفكت دماء زكية واُختطفت أرواح بريئة، وأبي الطفل أن يموت. وكان يوم 28 يناير/كانون الثاني 2011 بمثابة صفحة جديدة من صفحات النضال المصري من أجل حماية مكتسبات 25 يناير والذود عن حرية مولوده الذي أجبر الجميع على احترامه داخلياً وخارجياً.

كان منطقياً في ظل عدم وجود "رأس" أو قيادة للثورة أن يتنازع "قميصها" كل القوى السياسية والشخصيات العامة وفق منطق نفعي وانتهازي فجّ، وبدا الأمر كما لو أنه صراع على طفل يتيم مختلفٌ على نسبه. ونسي هؤلاء أن هذا المولود الجديد قد تشكّل في رحم الأمة المصرية، واحتضنه المجتمع بمختلف طبقاته لأكثر من عشر سنوات. فبدأنا نسمع عن لجان للحكمة ومدّعيها، بعضهم ارتبط، ولا يزال، بالنظام، والبعض الأخر يعشق الظهور والركوب على أكتاف الآخرين، في حين يرتبط البعض الثالث بعلاقات وثيقة مع الأميركيين.

"لا تثق بدكتاتور، ولا تصدّق جنرالاً" تلك حكمة التاريخ. ولكن يبدو أن القوى السياسية التي قبلت التفاوض مع نائب الرئيس لا تقرأ التاريخ ولا تعي دروسه. وهو يعاملها الآن مثلما يعامل الثعلب "الخرفان" حين يصطادها الواحدة تلو الأخرى. وقد غاب عن هؤلاء جميعاً أن نائب الرئيس رجل مخضرم وظيفته التفاوض، كما أنه لا يملك إلا إعطاء الوعود بسبب انعدام صلاحياته. فنائب الرئيس، حسب الدستور المصري، ليس له أي دور ما دام الرئيس لا يزال موجوداَ ولم يفوّضه صلاحياته. لذا فنحن بإزاء موقف ينطبق عليه القول الشهير "يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق".

"
إذا كانت إحدى مكاسب الثورة المصرية أنها أعادت الجماعة إلى بؤرة الحدث السياسي محلياً ودولياً، وأعطتها شرعية واقعية، فإنها سرعان ما قد تزول بمجرد أن تُستدرج الجماعة للعبة النظام
"

سوف ترتكب جماعة الإخوان المسلمين خطأ جسيماً إذا ابتلعت "طُعم" التفاوض مع نظام يبحث عن طوق نجاة. وإذا كانت إحدى مكاسب الثورة المصرية أنها أعادت الجماعة إلى بؤرة الحدث السياسي محلياً ودولياً، وأعطتها شرعية واقعية، فإنها سرعان ما قد تزول بمجرد أن تُستدرج الجماعة للعبة النظام.

ويبدو أن الجماعة لم تتعلم من أخطائها التاريخية، فقد دخلت في حوار مع الرئيس جمال عبد الناصر أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ولكنها لم تجن إلا التنكيل والتعذيب في سجونه. ثم عادت وتحاورت مع السادات، ولكنه في النهاية لفظها وسجن قياداتها أواخر عهده. ثم دخلت في صفقة مع نظام مبارك عام 2005، ولكنه ما لبث أن نقضها وبدأ في مطاردة الجماعة وضربها تنظيمياً وسياسياً واجتماعياً إلى أن تم إقصاؤها كلياً في انتخابات 2010.

الخطر على الثورة المصرية الآن لا يأتي من الرئيس ونائبه، وإنما من الأحزاب والقوى السياسية والشخصيات العامة بمختلف أطيافها الثقافية والأدبية والبحثية التي تحاول "ركوب" الثورة والاستثمار في مكتسباتها دون تفويض. ومن المنطقي أن ترضى هذه الأطراف بما يقدمه لها النظام الذي يبحث الآن عمن يدفع له بقوارب النجاة. وقد ظن هؤلاء أن من حملوا الثورة على أكتافهم وأرواحهم ليسوا بأكفاء ولا يوجد بينهم من بإمكانه مفاوضة النظام والجلوس معه إلى طاولة واحدة، وهم قطعاً مخطئون.

الساسة الحقيقيون هم من يولدون من رحم الأزمات، هكذا علّمنا التاريخ. فلم يكن شارل ديغول زعيماً عظيماً لولا نجاحه في إعادة تأسيس الجمهورية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يظهر جمال عبد الناصر إلا بعد انقلاب يوليو 1952، في حين كان محاضر محمد بمثابة باعث النهضة في ماليزيا بعدما أوشكت على الانهيار.

وقد كانت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بمثابة شجرة تطرح كل يوم قيادات وزعامات شابة لم يعرفها أحد من قبل وينتظرها مستقبل واعد. الآن لدينا نوّارة نجم ومصطفي النجار وأحمد ماهر وشريف منصور وإسراء عبد الفتاح وأسماء محفوظ ومحمد عادل وعشرات آخرون يضيق بذكرهم المقام.

"
قبل أسبوعين لم يدر بخلد أحد أن تنتقل مصر من حال "الموت السريري" سياسياً إلى بلد يعّج بالحيوية والدينامية ويتصدر وكالات الأنباء بأخبار متلاحقة وأوضاع متغيرة على مدار الساعة
"

قبل أسبوعين لم يدر بخلد أحد أن تنتقل مصر من حال "الموت السريري" سياسياً إلى بلد يعّج بالحيوية والدينامية ويتصدر وكالات الأنباء بأخبار متلاحقة وأوضاع متغيرة على مدار الساعة. وإذا كان من فضل لأحدٍ في ذلك فهو قطعاً لهؤلاء الشباب المناضل من أجل حريته، والمدافع عن كرامته. وكانت شاشات الجزيرة بمثابة "الحبل السُريّ" الذي يمد هؤلاء المتظاهرين بالأمل ويعضّد ترابطهم في ظل استخفاف الآخرين بنضالهم.

الفارق الأساسي بين "قيادات" الثورة المصرية وقيادات القوى والأحزاب السياسية وأبطال الفضائيات، أنهم يتجاوزون المصالح الضيقة، ويتحدثون نيابة عن الأمة المصرية التي دفعت ثمناً غالياً لسياسات نظام مبارك، لذا فهم الأجدر بإدارة أي عملية تفاوض تجري مع نائب الرئيس، وهم الأحق من أية قوة أخرى بتحديد شروط التفاوض وأجندته. ولا يجب أن تنسى القوى السياسية أن من منحهم حق الجلوس وأعطاهم قوة التفاوض مع السلطة هم أبناء الثورة وشهداؤها.

المطلوب من الجميع الآن أن يخلّوا بين قيادات الثورة المصرية والنظام. اتركوا هؤلاء الشباب يكملوا ما بدؤوه، ويحصدوا ثمار ثورتهم المجيدة. اتركوهم فهم من نسل المجتمع الذي احتضنهم عندما تخلت عنهم الدولة واستخفت بهم القوى السياسية.

اتركوهم يرسموا مستقبلهم بأيديهم فأنتم الماضي وهم المستقبل. دعوهم كي يحرّروا مصر من بقايا الاستبداد والظلم والفساد. رجاء لا تجهضوا الثورة المصرية، فدماء الشهداء لم تجف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.