رسالة إلى الغرب: لا تعادوا الإسلام فيعاديكم

رسالة إلى الغرب: لا تعادوا الإسلام فيعاديكم - محمود المبارك


قبل أكثر من عقد من الزمان، أخبرني سفير إحدى الدول الخليجية في المملكة المتحدة أنه سأل مسؤولاً كبيراً في وزارة الخارجية البريطانية -في حديث خاص جرى بينهما- فقال له: ما الذي تريدونه منا أكثر من الذي نعطيكم؟!، أموالنا في بنوككم! أولادنا يدرسون في جامعاتكم!، حكوماتنا تحت تصرفكم!، فما الذي تريدون؟!.

ربما كان التساؤل العفوي من المسؤول الخليجي معبراً بما يكفي عن السذاجة السياسية لدى البعض، ولكن الإجابة الأكثر إيلاماً -التي لم يحصل عليها المسؤول الخليجي- هي أن الغرب ذاته لا يدري ما الذي يريده من الأمة العربية والمسلمة!.

ولفهم أعمق، ربما كان السؤال الأجدر طرحه على الغرب، ليس ماذا يريد الغرب من الأمة المسلمة، ولكن ما الذي لا يريده الغرب من الأمة المسلمة!، ذلك أن المتتبع للسياسات الغربية حيال الأمة العربية والمسلمة منذ سقوط الخلافة الإسلامية، يكاد يخلص إلى نتيجة مفادها أن حلم الغرب المرعب هو أن تصحو الأمة المسلمة من سباتها وتعود وحدتها.

"
على الغرب أن يتأهب للتعامل مع "جيل الجزيرة" أو "جيل ويكيليكس"، الذي لم يعد مغيباً كما كان الجيل الذي قبله، والذي يسعى اليوم إلى خلق "عالم عربي جديد" غير مسبوق!
"

ولعل ذلك هو السبب الذي من أجله سعت بريطانيا -وهي أم الدهاء الغربي- إلى قيام جامعة الدول العربية، بعيداً عن أي وحدة إسلامية. ففي 29 مايو/أيار 1941 دعا وزير خارجية بريطانيا إنتوني إيدن الدول العربية التي حصلت على استقلالها إلى تحقيق وحدة عربية عبر جامعة تضم شتاتهم.

ومرة أخرى عبر الوزير المذكور في مجلس العموم البريطاني في 24 فبراير/شباط 1943، بأن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترمي إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية". ولا يخفى أن اهتمام الحكومة البريطانية بهذا الأمر -وهي في خضم الحرب العالمية الثانية- يدل على أن قيام هذه المنظمة من الأهمية بمكان للغرب، بحيث إنها سبقت قيام منظمة الأمم المتحدة. ومنذ متى كانت الأمة العربية تسبق نظيرتها الغربية في قيام المنظمات الدولية؟!.

اليوم، حيث يحبس الغرب أنفاسه جراء ما حدث في تونس ومصر، ويحاول عابثاً تدارك ما يمكن تداركه من أجل تلافي سيناريوهات رعب تشير إلى وصول "الإسلاميين" إلى سدة الحكم، ربما كان على عقلاء الغرب أن يقفوا مع أنفسهم وقفة مراجعة للأحداث القريبة والبعيدة.

فمنذ هروب المخلوع بن علي والسؤال الذي لا يكاد ينفك في الساحة السياسية الغربية هو: ماذا لو وصل "الإسلاميون" إلى الحكم؟. وكأن الإسلام وحش رابض يتربص بالغرب وينتظر لحظة الانقضاض عليه.

والحق أن للغرب منة على "الإسلاميين"، إذا ما تحقق خوف الغرب من وصول من يكرهون إلى سدة الحكم في البلدين العربيين أو غيرهما من البلدان التي قد تتبع. فقد حاولت الشعوب العودة إلى الإسلام عبر صناديق الاقتراع "الديمقراطية"، ولكن رغبات حكوماتهم لم تتقبل نتائجها، حيث لم يعد سراً أن انتخابات الدول العربية التي فاز فيها "الإسلاميون" زورت بخلاف ذلك. كل ذلك كان بعلم من الغرب الذي كان يرى ويسمع. بل إنه حتى في الحالات التي فاز فيها الإسلاميون بالانتخابات "الحرة والنزيهة"، تدخلت اليد الغربية المباشرة لرفض نتائجها، كما حدث في الجزائر عام 1992، وفي فلسطين عام 2006.

ويبدو أن الغرب أسدى هدية ثمينة للإسلاميين -حين قام بإجهاض نتائج الانتخابات الجزائرية، ورفض التعامل مع حكومة حماس المنتخبة شرعياً- من حيث لا يعلم. ففي الحالة الجزائرية، أنقذ الغرب الإسلاميين من تجربة -ربما كانت نتائجها كارثية على العمل السياسي الإسلامي برمته لو تركت لهم الفرصة- لكونها الأولى من نوعها. وأما في الحالة الفلسطينية فقد استدر الغرب عطف الشارع الإسلامي في كل مكان مع الحركة الإسلامية الفلسطينية بمنعه لها من العمل السياسي.

أخطاء الغرب إذن كانت وراء بعض أسباب تفشي شعبية الإسلاميين، بطريق مباشر وبطريق غير مباشر. فسكوت الحكومات الغربية عن قمع الحكومات العربية للحركات الإسلامية، وعدم وقوف الحكومات الغربية مع الشعوب العربية في الحصول على حقوقها عبر الوسائل الديمقراطية المشروعة، كل ذلك أفقد الشارع العربي والمسلم ثقته في الغرب، وسيجعله يتعلق بخيار الإسلاميين في الانتخابات القادمة، لكونه خياراً يغضب الغرب.

ليس ذلك فحسب، بل إن الأمر الذي يجب ألا يخفى على ساسة ودهاقنة العالم الغربي، هو أن نجاح الثورة المصرية على وجه الخصوص، يعني اقتفاء أثر هذه التجربة في أنحاء متفرقة من العالم العربي.

فمصر هي أم العالم العربي، ومنها بدأت الحركات السياسية والانقلابات، وإليها تعود!، ففي مصر بدأت حركة الإخوان المسلمين ومنها انتشرت في بقية جسد العالم العربي، وفي مصر بدأ أول انقلاب عسكري ضد نظام ملكي، ومنها تفشت ظاهرة الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الملكية التي سميت ظلماً وزوراً "ثورات عربية". ومن مصر بدأ التطبيع العربي مع ما كان يعرف بـ"الكيان الصهيوني"، ومن ثم عمت تلك الظاهرة اليوم غالب أرجاء العالم العربي.

"
لقد آن للغرب أن يتعلم من أخطائه وأن يبدأ صفحة جديدة مع الدول المسلمة، تقوم على أساس المصالح المشتركة بين الشعوب الغربية والإسلامية، لا أن يبني سياساته على أساس المصالح الأحادية الجانب
"

ولعله من نافلة القول، إن شباب مصر الذين تواصلوا مع بعضهم بطرق التقنية الحديثة ضد أعتى نظام أمني عرفه التاريخ المعاصر، هم اليوم يتحدثون مع بقية شباب الأمة بالطرق ذاتها. ومن ثم فإن على الغرب أن يتأهب للتعامل مع "جيل الجزيرة" أو "جيل ويكيليكس"، الذي لم يعد مغيباً كما كان الجيل الذي قبله، والذي يسعى اليوم إلى خلق "عالم عربي جديد" غير مسبوق!، "العالم العربي الجديد" القادم إذن، هو نظام العودة إلى الإسلام. فهل "يفهم" الغرب الدرس أم إنه سيظل يكرر أخطاءه؟!.

بعض الغربيين يزعم أن مصالح الأحزاب الإسلامية تتعارض جملة وتفصيلاً مع مصالح الغرب. ومن هذا الباب حاول الغرب مراراً التحذير من أن "الإسلاميين" خطر على الديمقراطية. والحق أن هذا الزعم –الذي لم يعد ينطلي على العقلاء- كذَّبه الواقع العملي. فليس في التاريخ حالة واحدة انقلب فيها الإسلاميون على نتائج انتخابات ديمقراطية، في حين انقلب العلمانيون في تركيا مراراً وفي الجزائر وفي فلسطين على نتائج الديمقراطية الحرة والنزيهة، بمساندة مباشرة وغير مباشرة من الغرب.

بعض الغربيين يخوف من تكرار التجربة الإيرانية، ناسين أو متناسين أمرين هامين: أما الأمر الأول فهو الفرق المذهبي الذي يجب ألا يخفى على رجل الشارع الغربي فضلاً عن المثقفين الغربيين. وأما الأمر الآخر فهو أنه -بغض النظر عن المواقف الكلامية المعارضة في الظاهر- استطاع الغرب أن يتعامل مع الحكومة الإيرانية الثيوقراطية في كل ما يهمه كما يريد.

الأمثلة كثيرة وتعود إلى سنوات الثورة الأولى، حين قبل آية الله التعامل مع الشيطان الأكبر في فضائح ما عرف لاحقاً بـ"إيران غيت"، وكذلك في التآمر مع واشنطن ضد أفغانستان والعراق، وهو ما لم يعد يخفى على أحد.

واقع الأمر أن المستقبل يجب ألا يكون مخيفاً بالنسبة للغرب في حال وصول الإسلاميين إلى الحكم في أي قطر عربي أو إسلامي، ولكن إذا كانت الكراهية هي التي تقود العالم الغربي، فذاك داء لا دواء له!.

بل إنه ليس من المبالغة القول إن "الإسلاميين" أكثر عقلانية من الغربيين في التعامل السياسي الدولي!، فالإسلام السياسي في تركيا حقق للأمة التركية ما لم تحققه عقود من العلمانية الأتاتوركية، دون تفريط في أي من الأسس العلمانية، أو في المصالح السياسية العليا مع الغرب. بل إنه من المثير للسخرية أن يكون حرص تركيا على الانضمام إلى الاتحاد الأوربي أكثر بكثير من حرص دول الاتحاد الأوربي عليه.

في جانب آخر من عقلانية الإسلاميين، كانت حماس أعلنت بعد فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006، أنها لن تعارض الاتفاقية الموقعة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل دون أن تتنازل عن مبادئها المتمثلة في عدم الاعتراف بإسرائيل، من خلال تفويضهم للسلطة الفلسطينية في التعامل مع المعاهدات الدولية، وأحسب أن هذا من العقلانية السياسية بمكان، بحيث لا تجرأ أحزاب أخرى على تقديم هذا التنازل.

الإسلام إذن ليس خطراً على الغرب، والإسلاميون إذا ما وصلوا إلى الحكم فيجب ألا يشكلوا خوفاً على الدول الغربية لأنهم مستعدون للتعايش مع الغرب من أجل تحقيق المصالح المشتركة. كل ما على الغرب هو أن يتعامل مع العالم الإسلامي بنفس العدالة التي يتعامل بها مع نفسه. ولكن السؤال هو: هل الغرب مستعد للتعايش مع الإسلام؟!.

"
في كل مرة تتغير أوضاع العالم يتحفنا الغرب بنصائحه بأن علينا أن نتكيف مع "النظام العالمي الجديد"؟!، وربما جاء الدور على الغرب اليوم ليتكيف هو مع "النظام العربي الجديد"!
"

لقد آن للغرب أن يتعلم من أخطائه وأن يبدأ صفحة جديدة مع الدول المسلمة تقوم على أساس المصالح المشتركة بين الشعوب الغربية والإسلامية، لا أن يبني سياساته على أساس المصالح الأحادية الجانب.

أليس في كل مرة تتغير أوضاع العالم يتحفنا الغرب بنصائحه بأن علينا أن نتكيف مع "النظام العالمي الجديد"؟!، ربما جاء الدور على الغرب اليوم ليتكيف هو مع "النظام العربي الجديد"!.

فإن قبل الغرب بهذا الوضع الجديد فله أن يرى يداً ممدودة من الشعوب قبل الحكومات العربية والمسلمة. أما إذا أصر الغرب على تعامله مع العالم العربي والإسلامي بغطرسته وسياساته المزدوجة فيما له وما عليه، فإنه بذلك يكون سبباً في رسم مستقبل عداء مع العالم العربي الجديد القادم، تماماً كما كان سبباً في صنع هذه الثورات، ولكن هذا العداء لن يكون سلمياً بحال.

ربما آن للغرب أن يعلم أنه بإمكانه أن يستغل بعض الشعوب المسلمة بعض الوقت، ولكن ليس بإمكانه أبداً أن يستغل كل الشعوب المسلمة كل الوقت! ومن ثم، فإن الرسالة التي يجب أن تقرأها الحكومات الغربية -بعد أحداث تونس ومصر- هي أن الأسوأ لم يأت بعد، وليس أمامها إلا أن تكثر من الدعاء!، فقد ولى زمن الحكومات العميلة وجاء زمن الشعوب الأمينة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.