المقاربة الأميركية الجديدة لأمن الخليج

المقاربة الأميركية الجديدة لأمن الخليج


 
هل تشهد منطقة الخليج العربي ولادة نظام إقليمي متكامل للدفاع الجوي، والدفاع ضد الصواريخ البالستية؟ وهل بات هذا النظام جزءاً أصيلاً من الإستراتيجية الأميركية في المنطقة؟ وما هي التحديات التي تواجه هذا الخيار؟ وقبل ذلك كله، كيف يُمكن قراءة البيئة الأمنية الراهنة، المؤسسة للخيارات الأميركية، أو المحفزة لها؟
 
أولاً: البيئة الإستراتيجية الراهنة للخليج
لقد دخل أمن الخليج مرحلة إعادة التعريف الإستراتيجي منذ اللحظة التي قُدر فيها لعاصفة الصحراء أن تنهي القوة العراقية، وتُعيد رسم موازين القوى في النظام الإقليمي الخليجي. في إعادة الرسم هذه انهار التوازن الإستراتيجي الهش، الذي ساد الخليج في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. واتساقاً مع هذا الانهيار، بدت القوة الإيرانية وقد تعاظمت حضوراً، دونما موازن يوازنها.
 

"
دخل الخليج مرحلة أحادية القوة بعد ثنائيتها, وهي أحادية لا تزال بادية متجلية أمنياً، ومعبرة عن ذاتها في التفاعلات السياسية ثنائياً، كما في سياقها الناظم أو المنتظم جمعياً
"

وعليه، دخل الخليج مرحلة أحادية القوة بعد ثنائيتها. وهي أحادية لا تزال بادية متجلية أمنياً، ومعبرة عن ذاتها في التفاعلات السياسية ثنائياً، كما في سياقها الناظم أو المنتظم جمعياً.

 
في ضوء ذلك، وانسجاماً مع هذا المتغيّر، أو كنتيجة فرعية له، رمت الولايات المتحدة بثقلها العسكري في الخليج، براً وبحراً. وهنا، حدث متغيّر جديد، فرعي أو تابع للمتغيّر الرئيس، المتمثل في انهيار التوازن الإستراتيجي في النظام الإقليمي الخليجي.
 
هذا المتغيّر التابع، عبر عن نفسه، بالتوصيف الإستراتيجي، بالموازن الخارجي. أي القوة الخارجية التي توازن القوة الإيرانية، وهي هنا الوجود العسكري الأميركي. وبعد 12 عاماً، جاءت الحرب الأميركية في العراق لتغدو في أحد أبعادها نتاجاً لبيئة إقليمية عاصفة. 
 
اليوم غادرت غالبية القوات الأميركية العراق، وهي سوف تستكمل انسحابها نهاية هذا العام، وفقاً  لجدول مقرر. وبغض النظر عن طبيعة التقييم النهائي الذي يُمكن أن يقدمه الفرقاء المختلفون للوضع الجديد، فإن ما يمكن قوله، على وجه مجمل، هو أن العراق قد ابتعد عن كونه ركيزة للقوة الأميركية في المنطقة، أو منطلقاً لها. وهذا خلاف ما حدث لكل من ألمانيا الغربية واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وكوريا الجنوبية بعد الحرب الكورية.
 
إن اتفاقيتي وضع القوات والإطار الإستراتيجي، الموقعتين بين واشنطن وبغداد عام 2008، قد منحتا العراق خصوصية أمنية وسياسية على صعيد علاقته بالولايات المتحدة، إلا أن هذه الخصوصية بقيت في إطار ما يُمكن وصفه بـ"الحد الأدنى الممكن"، قياساً على التجارب الأميركية المماثلة.
 
ثانياً: إعادة الانتشار الأميركي في الخليج
 في ضوء ذلك، بدا للمخططين الإستراتيجيين في واشنطن أن لا بديل سوى العودة للارتكاز على الوجود العسكري الأميركي في الداخل الخليجي ذاته، وتعزيز هذا الوجود ليكون قادراً على التعامل مع المتغيّر العراقي، ومفاعيله الإقليمية واسعة النطاق.
 
وفي إطار هذا التعزيز، أو بموازاته، تقرر البحث عن مقاربة جديدة لأمن الخليج، تستند -بالدرجة الأولى- إلى منظومة إقليمية متكاملة ومدمجة للدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ، تنتقل في ضوئها الولايات المتحدة من التعاون الثنائي مع دول مجلس التعاون الخليجي، إلى التعاون متعدد الأطراف.
 
وتعود الاتفاقيات الدفاعية بين الولايات المتحدة والدول العربية في الخليج إلى عام 1945، ولا ترتبط هذه الدول باتفاقيات أمنية أو دفاعية جماعية مع الولايات المتحدة، أو مع أي من القوى الإقليمية أو الدولية الأخرى.
وتجري الولايات المتحدة مناورات عسكرية منتظمة مع دول مجلس التعاون، وخاصة في حوض الخليج وبحر العرب. وتتولى القيادة المركزية الأميركية الإشراف على الأنشطة العسكرية والتدريبية، التي تجريها الولايات المتحدة في المنطقة.
 
وإضافة إلى مضامينه الإستراتيجية الطابع، ينهض الوجود العسكري الأميركي في الخليج بمهام ذات صلة بالملاحة الإقليمية. وهناك عملية تنفذها الولايات المتحدة في الخليج العربي على مدار العام، بدأت منذ سنة 1987 وتعرف باسم (MARLO)، وقد اشتق هذا الاسم من الأحرف الأولى لعبارة (Marine Liaison Officers).
 
وتهدف هذه العملية لحماية ناقلات النفط الماخرة في مياه الخليج ومضيق هرمز، وهي ترتبط مباشرة بقيادة الأسطول الخامس الأميركي وتموّل من قبلها. وقد توسعت مهام العملية لتشمل تنظيم خطوط سير السفن ومتابعتها وتأمين سلامتها، ابتداء من شمال الخليج، مروراً بمضيق هرمز وخليج عُمان وبحر العرب، حتى مضيق باب المندب وتخوم القرن الأفريقي.
 
وفي السياق ذاته، تأسس في يناير/كانون الثاني 2009 ما يُعرف بـ"فريق العمل المشترك" (CTF 151)، وهو فريق من سفن متعددة الجنسيات، بينها نحو سبع سفن أميركية، أنشئ بهدف مكافحة القرصنة في بحر العرب.
 

"
لا بديل أمام المخططين الإستراتيجيين في واشنطن سوى العودة للارتكاز على الوجود العسكري الأميركي في الداخل الخليجي ذاته، وتعزيز هذا الوجود ليكون قادراً على التعامل مع المتغيّر العراقي ومفاعيله الإقليمية واسعة النطاق
"

وعلى الصعيد السياسي، أطلقت الولايات المتحدة،  في مايو/أيار 2006، مبادرة "حوار أمن الخليج"(GSD)، وقد أصبح هذا الحوار آلية التنسيق الأمني الرئيسة بين الولايات المتحدة ومعظم دول مجلس التعاون الخليجي، وهو يهدف إلى توفير إطار عمل للعلاقات الأميركية الخليجية في ستة مجالات هي: تحسين القدرات الدفاعية لدول الخليج، وقضايا الأمن الإقليمي (كالنزاع العربي الإسرائيلي ووضع العراق وبرنامج إيران النووي)، ومكافحة انتشار الأسلحة النووية، والتصدي للإرهاب العابر للدول، وتعزيز الأمن الوطني، وحماية البنية التحتية الحيوية. وتتم في إطار هذا الحوار لقاءات ثنائية سنوية، تعقد بالتناوب في كل من واشنطن والعواصم الخليجية.

 
وإضافة إلى "الحوار الأميركي الخليجي حول أمن الخليج"، هناك حوار منتظم آخر يجري في سياق إقليمي أوسع، بين كل من الولايات المتحدة وما يُعرف بمجموعة "مجلس التعاون الخليجي +3″، التي تضم إضافة لدول المجلس كلا من مصر والأردن والعراق. وتختلف هذه اللقاءات عن تلك الخاصة بأمن الخليج من حيث كونها ذات طابع تشاوري  أقل رسمية، على الرغم من أنها تجري على مستوى وزاري، في حين تتم حوارات أمن الخليج غالباً دون هذا المستوى، ويغلب عليها الطابع التقني.
 
ثالثاً: مقاربة التهديد الصاروخي
 على مستوى الحديث الدائر اليوم حول الخطر الصاروخي، يُمكن القول على نحو مبدئي إن أحد التحديات الرئيسة التي تواجه مقاربة الأمن في الخليج تتجسد في مدى قدرة دوله على التعامل مع هذا الخطر.
 
ومنذ العقد السابع من القرن العشرين، كانت هناك نقاشات تدور حول الخطر الصاروخي، لكنها لم ترق حينها إلى وضع رؤية متكاملة بشأنه، إن على المستويات الوطنية أو على الصعيد الإقليمي العام.
 
وعلى صعيد المقاربة الأميركية للتهديدات الناجمة عن انتشار الصواريخ البالستية في المنطقة، اقترح الأميركيون على دول الخليج عام 1998 نظاماً للدفاع الصاروخي، استمد أصوله النظرية من مبادرة الدفاع الإستراتيجي التي أعلنها الرئيس الأسبق رونالد ريغان في مطلع ثمانينيات القرن العشرين.
 
وقد حدد الجنرال أنتوني زيني تفاصيل  نظام الدفاع الصاروخي المقترح على دول المنطقة من وجهة نظر القيادة المركزية. وقال زيني إن الدفاع السلبي في هذا النظام يتألف من وسائل الإنذار بالليزر، سواء المحمولة جواً أو التكتيكية. وذلك بهدف حماية المراكز السكنية والقوات العسكرية والبنى التحتية المعرضة للخطر والتهديدات.
 
أما الدفاع الإيجابي في النظام، فتعبر عنه القدرة على إسقاط الصواريخ قبل  إصابتها للهدف، أي القدرة على الاشتباك مع الصاروخ المحلق  وتدميره. وكذلك التمكن من مهاجمة مواقع التهديدات ومصادرها  أثناء النزاع، وهو يتطلب قدرا كبيرا من التنسيق بين قوات وقيادات الدول المشاركة في النظام.
 
وتشمل هذه المنظومة أيضاً أنظمة القيادة والسيطرة والاتصالات والحواسيب والاستخبارات، وهي التي تقوم بربط العناصر الثلاثة سابقة الذكر. بيد أن هذه المقاربة لم ترَ النور لاعتبارات مالية وسياسية.
 
رابعاً: التصوّر الأميركي الجديد
من ناحيتها، وضعت إدارة الرئيس باراك أوباما قضية الدفاع الجوي والدفاع الصاروخي المتكامل (IAMD) في قائمة أولوياتها في الشرق الأوسط، كما في أوروبا ومنطقة الأطلسي.  
 
وبعد الإعلان عن عزم الولايات المتحدة سحب كامل قواتها من العراق في نهاية العام الجاري، دون الاحتفاظ بأي صورة من صوّر الوجود الأمني فيه، جاء الحديث على نحو متواتر عن أولوية إقامة نظام إقليمي متكامل ومدمج، للدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ البالستية والجوالة.
وقد تحركت الولايات المتحدة، منذ عامين على الأقل، لإقناع دول مجلس التعاون الخليجي بتوقيع مذكرة تفاهم خاصة بإقامة هذا النظام الدفاعي.
 

"
بعد إعلان أميركا سحب كامل قواتها من العراق في نهاية العام الجاري، جاء الحديث على نحو متواتر عن أولوية إقامة نظام إقليمي متكامل ومدمج للدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ البالستية والجوالة
"

وأجرت القوات الأميركية مناورات مشتركة مع دول المجلس، جرى فيها محاكاة هجوم صاروخي على دولتين خليجيتين، في محاولة لإقناع الخليجيين على توقيع هذه المذكرة.

 
وبدأت الولايات المتحدة، في السنوات الأخيرة، في تزويد دول الخليج بصواريخ اعتراضية، قصيرة ومتوسطة المدى.
 
وطلبت السعودية الجيل الجديد من صواريخ باتريوت المتقدمة (Advanced Patriot Capability-3/PAC-3) لتحل محل صواريخ باتريوت (PAC-2)، الموجودة لديها. ويعتمد الدفاع الجوي السعودي، في الوقت الراهن، على صواريخ (PAC-2)، إضافة لصواريخ (MIM-23 I-Hawk) و(MIM-104).

ووفقاً لتقارير أميركية، فإن هناك تشجيعا أميركيا للرياض على اقتناء منظومات مضادة للصواريخ، للدفاع على الارتفاعات العالية / Terminal High Altitude Area Defense / (THAAD). وتعد منظومات (THAAD) أول نظام يصمم للدفاع ضد الصواريخ البالستية القصيرة والمتوسطة المدى داخل الغلاف الجوي وخارجه. وتضم منظومات (THAAD) رادارًا يبلغ مداه حوالي 1000 كيلومتر.
 
ويكمل هذا النظام أنظمة باتريوت المصممة للدفاع على علو منخفض (lower-aimed)، بما في ذلك صواريخ  (PAC-3)، التي تستخدم لاعتراض الصواريخ  البالستية والجوالة، والطائرات إلى ارتفاع 45 كيلومترا.
 
وفي صيف عام 2010، أعلن البنتاغون رسمياً عن رغبة الكويت في شراء أكثر من 200 صاروخ من صواريخ باتريوت (GEM-T)، المماثلة في بنيتها لصواريخ باتريوت (PAC-2)، لكنها أكثر حداثة.
 
ومن ناحيتها، سوف تنشر دولة الإمارات  أنظمة (PAC-3)، ومع دخولها ستخرج من الخدمة أنظمة (AN/MSQ-104 ECSs) الموجودة لدى الإماراتيين، والتي تعد أقل نطاقاً.
 
وكانت الولايات المتحدة قد تعاقدت مع الإمارات عام 2007 على شراء 288 صاروخ (PAC-3)، و216 صاروخا من صواريخ تي الموجهة المحسنة (GEM-T). وفي عام 2008 تعاقدت واشنطن وأبو ظبي على ثلاث منظومات من طراز (THAAD)، مع 147 صاروخا خاصا بها، وذلك في أول بيع خارجي لهذه المنظومات.
 
وبموازاة ذلك، تبحث الولايات المتحدة في نشر صواريخ باتريوت (PAC-3) خاصة بها في أربع دول خليجية على الأقل، وهي تنظر لهذه الخطوة باعتبارها خط الدفاع الأول لمواجهة الصواريخ البالستية.
ويعزز هذا المسار الاحتفاظ بطرادات أميركية مزودة بأنظمة (Aegis) في الخليج، تبقى موجودة في كافة الأوقات.
 
والسفن الحربية الأميركية مزودة بأنظمة دفاع جوي للمدَيين القريب والمتوسط، والسفن الكبرى منها مزودة بثلاثة مستويات من أنظمة الدفاع الجوي، إذا أضفنا الدفاع للمدى البعيد.

 
وتتجه الولايات المتحدة، في السياق ذاته، لنصب رادار من نوع (AN/TPY-2) في إحدى دول مجلس التعاون الخليجي. ويقوم هذا الرادار، الذي يعمل بالترددات السينية (XBRs)، بتتبع الأهداف في مراحل الانطلاق وفي منتصف الرحلة وفي نهايتها. وهو قادر على اكتشاف الصواريخ قبل ألفي كيلومتر من وصولها إلى الهدف، الأمر الذي يمنح منظومات الدفاع ما بين 60 إلى 70 ثانية إضافية للتصدي للصاروخ المهاجم. وبصفة عامة، فإن الرادار (AN/TPY-2) ينتمي لجيل متطوّر من الرادارات العسكرية.
 
وعلى نحو مجمل، فإن النظام الدفاعي الذي تعتزم الولايات المتحدة إقامته في الخليج يتكون من نظام إنذار مبكر (UEWR)، وقاعدة رادار برية، وصواريخ اعتراض مثبتة براً من طرازي (PAC-3) (THAAD).
 
ويتكون النظام في شقه البحري من رادارات وصواريخ اعتراضية، محمولة على متن السفن (ship-based Aegis radars and Standard interceptor missiles).
 
وفي شقه الجوي والفضائي، يتكون النظام من مصفوفة عناصر تشمل طائرات اعتراضية وهجومية، ونظاما فضائيا للدفاع الصاروخي (airborne missile defense system) يعتمد على ليزر يجري وضعه على متن طائرات من طراز (Boeing 747) تم تحويلها إلى طائرة ليزر عسكرية، بهدف اعتراض الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي في مرحلة مساراتها المتقدمة (boost phase).
 

"
نحن بصدد تصوّر طموح للنظام الإقليمي المتكامل والمدمج للدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ، بيد أن هذا التصوّر دونه ثلاثة تحديات أساسية هي: التكلفة المالية، وثانيا المقاربة السياسية للمشروع، وثالثا التحدي التقني والسياسي
"
ويشمل هذا النظام أخيراً مركز قيادة وسيطرة واتصالات (BMC).
لا ريب أننا بصدد تصوّر طموح للنظام الإقليمي المتكامل والمدمج للدفاع الجوي والدفاع ضد الصواريخ، بيد أن هذا التصوّر، أو المشروع، دونه ثلاثة تحديات أساسية، هي:
 
أولاً، التكلفة المالية التي يُمكن تقديرها مبدئياً بـ200 إلى 300 مليار دولار، وذلك بملاحظة طبيعة العناصر المراد توفيرها للنظام الدفاعي المقترح في أبعاده الأرضية والبحرية والجوية والفضائية. وهذا دون احتساب التكلفة التشغيلية للنظام.
التحدي الثاني يكمن في المقاربة السياسية للمشروع. وتحديداً، فإن هذا المشروع يتطلب تنازلاً متبادلاً عن حقوق سيادية بين دول مجلس التعاون الخليجي، ليس واضحاً ما إذا كان الجميع على استعداد لتقديمها.
 
التحدي الثالث هو تحدٍ تقني سياسي مزدوج، إذ ما هو المدى الذي يُمكن للولايات المتحدة أن تذهب إليه في نشرها للصواريخ الاعتراضية على أصنافها في المنطقة، وإلى أي مدى أيضاً يُمكنها تعزيز البعد الجوي للنظام الدفاعي المقترح؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.